الأربعاء، 30 ديسمبر 2009

خاطرة على هامش الهجرة والميلاد

متى وُلِدَت الأمة؟ هذا هو السؤال
رُشد: لم تقنعني! لا يمكنني تتجاهل أنّ العالم اليوم يحتفل بعيد الميلاد.
يَقظان: لعلك تدرك أنّ المسألة ليستِ القناعة بموقف وقدرتي على تغيير قناعاتك، إنّما هي خيار تتبناه عن إرادة يختلط فيها الإدراك الفكري والتعبير الذاتي عن هويتك.
رُشد: ماذا تقصد!؟ هل أختار بدون قناعة؟
يقظان: بعبارات آخرى، بعيداً عن الجدل العقائدي والفقهي حول احتفالك بعيد الميلاد، المسألة تتعلق بخيارك الثقافي، هل ترغب بتكريس مركزية الغرب في فكرك وسلوكك وعاداتك؟
رشد: وما علاقة مركزية الغرب؟ أنا أرى أن الاحتفال بالمناسبة هو إنساني وعالمي!
يقظان: إذا لماذا لا تحتفل بميلاد بوذا أو كونفوشيوس، فقد أسسا أيضاً أديان وحضارات وأمم تقدسهم وتحترمهم حتى الآن؟
رشد: آه! ولكن ميلاد السيد المسيح لا شك أثر فينا.. وهو قريب علينا كعرب ومسلمين. وكذلك نعتبره من الرسل وأولي العزم من الرسل!
يقظان: ولكن ألم تدرك أنّ المسالة لا تتعلق بالقرب من حيث التأثير. فلا شك أنّ ميلاد محمد بن عبد الله العربي أثر فينا أكثر، ومع ذلك لا يعتبر ميلاده عيداً ثقافياً أو حتى دينياً لدى العرب والمسلمين.
رشد: كيف هذا؟ فنحن نعلم أنّ المسلمين يحتفلون بالمولد النبوي، فيقيمون الأمسيات والمدائح والمسيرات؟
يقظان: بلى. ولكن لننظر إلى المسألة كونها عادات لها سياقها التاريخي ونستطيع تتبع مصدرها وبداياتها وتجلياتها. والحقيقة أن العادة هي ظاهرة غير أصيلة في هويّة الأمة. ولو أنّها أصيلة لكان الحريّ بالعرب المسلمين الأوائل والمسلمين من بعدهم جعل المولد بداية التأريخ لتحركهم التاريخي.
رشد: أتريد القول أنّ ...
يقظان: أريد أن تدرك أن خيارك يتعلق بذاتك وهويتك وليس بالعادة المنتشرة بين الناس اليوم!
رشد: مرة آخرى! هل تستطيع تجاهل أن العالم يسير وفق التأريخ الميلادي اليوم؟
يقظان: جاهل من يتجاهل! فلا يمكن تجاهل العادة.. ولكنك لا يمكنك تجاهل أن هيمنة تقف من وراء "العادة" التي تحولت إلى عادة. الهيمنة هذه هي مركزية الغرب وثقافته حتى في تحديد تاريخ ميلادك!
رشد: وضّح!
يقظان: ما الأصح أن تقول: "تُوفيّ أبا حامد الغزالي عام 1111 بعد الميلاد" أم " تُوفيّ أبا حامد الغزالي عام 505 بعد الهجرة"؟
رشد: أعتقد أن في الحالتين صحيح!
يقظان: هنا المسألة! في السؤال متى وُلَدت الأمة ومتى تُوفيت؟ لنرسم خط بياني لميلاد الأمة أيّ أمة، تجد أنّ لها تاريخ ميلاد، تصل الفتوة والشباب بعد فترة معدودة.. ثم تبلغ أشدها وذروتها.. ثم تشيخ..ثم يُعلن وفاتها. فلو اعتبرنا أن زيداً ولد عام 1967 وقد بلغ الأربعين من عمره، هل يُعقل أن نحدد تاريخ ميلاده بالقول: " إنّ زيداً وِلد 19 عاماً بعد ميلاد موشي عام 1948".
رشد: رياضياً وحسابياً جائز!.
يقظان: ولكنك تعلم أن الإشكالية ليست في الحساب.. إنّما في الثقافة، وما التأريخ الذي يعبر عن سيرورتك التاريخية والثقافية، فجعلت من "موشي" نقطة ميلادك وكأنك تستحضر هنا تطور وبلوغ "موشي" وليس رسمك البياني منذ ميلادك حتى وفاتك، وما يتخلله من إنجازات وإخفاقات، وكأنك تسلخ نفسك من تاريخك وتخرج نفسك من زمنك.
رشد: الذي تريد قوله...
يقظان: رأس السنة الميلادية... ليس أكثر من تعبير عن هيمنة الغرب.. وثقافته وجعلها مركز العالم...وكأن العالم يسير ويطوف حوله وهو الأهم والأرقى والأصح... تاريخنا يبدأ منذ الهجرة.. وهناك تشكلت هويتنا وثقافتنا وتاريخنا.. وليس ميلاد السيد المسيح.. وعلى فكرة ليس بولادة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام..
رشد: وأين الخيار يكمن؟!
يقظان: الموضوع يطول... ولكن لا تقنعني أن الأمر لا يتعلق فيك وفي كل شخص فينا.. مسألة إرادتنا في تغيير العادة والتأثر بالآخر.. انا قادر أن أتجاهل التاريخ الميلادي.. لأنه لا يعبر عني.. هذه هي المسألة "الهوية"... متى ولدتِ كأمة !!
أسامة
بيت المقدس
30\12\2009

الجمعة، 11 ديسمبر 2009

بكاءٌ مع لاجئة

بُكَاءُ لاجِئَةٍ
ما زلت أبكي وأنا أدون هذه الدموع
...

أعترف أني لم تذرف دمعةٌ لي على فلسطين على فترة من المصائب، وتتراً من النكبات. كان آخرها في وقفةٍ بين يدي الله أتلو آيّةً تختزل الزمان: "من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل، أنّه من قتل نفساً بغير نفسٍ،أو فسادٍ في الأرض، فكأنّما قتل الناس جميعاً...(المائدة:32) ".

ولكنّي في هذه اللحظات لا أبكي ضحية جلاد. جلادٍ عهدنا جرائِمَه من لدن هارون وموسى..
إنّما جلاد من نوعٍ آخر..
بل قل من نوعنا..
من ديننا… من وطننا ومن مخيّمنا ومن قدسنا! من قدس أقداسنا.. من مسرى حبيبنا..
من مخيم نكبتنا ونكستنا! من بكاء أطفالنا.. من عجز نساءنا… من حيرة رجالنا..
من ثباتِ رجالُ اللهِ في أرضنا.. من تراب رباطنا… من كلِ شيء فينا!..
من عمق تاريخنا.. من وجودنا ووجداننا.. منّا..
ومن ذنوبنا.. وخطايانا… من…!

أبكتني ضحيةُ ضحيةِ الضحية…

وأعترف أن لا ضحيةٌ أبكاني عويلُها كما أبكتني هذه المرأةُ!
وأعترف أن لا شيخٌ أبكتني مواعظُه كما أبكتني هذه المنكوبة!
واعترف أن لا حكيمٌ أفهمني منطقُه كما أفهمتني هذه المسكينة!
وأعترف أن لا زعيمٌ أقنعتني غوغائيّته كما أقنعتني هذه المسحوقة!

كان ذلك عندما رمتني يدُ الله بين يدي امرأة مقدسيّة، أبت دموعُها - التي تعوّدتِ السيلَ زمناً، وأتقنت فن البكاء والمأساة-إلا أن تنتزع منّي كبريائي، وصلابتي، وقسوةَ قلبٍ طال عليه الأمد.. فسالت دموعٌ لم أعهدها، ورق قلبٌ لم أذكره، وجالت أفكارٌ كرّرتُها مراراً.. ولكنّها فلسفةٌ جوفاءٌ، ونظريّةٌ صماّءٌ في الهُويّة والحريّة والصراع والاحتلال والإسلام ...

كانت لحظة…
في خاتمة يوم عمل طويل لم ينتهِ.. لم أدرِ كيف تحركت يدي -لا إرادياً- فتوقفتْ سيارتي لامرأةٍ تُشير لي للتوقف على هامشِ طريقٍ! في شارعٍ من شوارع قدسنا.
انزلقت السيدةُ على مقعدها الخلفيّ..وكأنّها غير واعيةٍ ولا آبهةٍ لما تفعلُ.. ولم تلبثْ أن بدأت دموعُها تنهمر منها تندُبُ حالها.. وترسُم لي صورةَ مأساة فلسطينيّة.. لم يصل خبرُها بعدُ لمجلس الأمن، والجمعية العامة للأمم، ومجالس حقوق الإنسان.. بل لم يصل إلى سراديب مؤتمرنا الإسلاميّ أو جامعة العرب.. أو حتى لقلوبٍ مسلمةٍ عربيةٍ غافلةٍ!
صورة امرأة في مخيم شُعْفَاط، كيلومتراتٍ قليلة من المسجد الأقصى الذي بورك حوله.. تعيشُ في مخزنٍ لأحد عائلات المخيم المنكوب على أثر نكبة العرب ونكستهم.. تبكي ظلم الأقارب، تبكي قسوة الضحية، تبكي شهود قضية، تبكي مأساة شعبٍ باع القضية وألقى البندقية والحرية.. واستعبد الهزيمة والخنيعة، واستمرأ الضحية والعبودية! فكما اخرج موسى قومَه من عبودية استمرأوها.. عاد قومُه بعده لها يعبد، وقد أُشرِبت فيها قلوبُهُم.. وفي زماننا لعبوا دور الضحية فطابت لهم.. ونحن من بعدهم وبصنعتِهم استمرأنا دور الضحية، وكأنّ شعبنا كله ضحية..! وغفلنا عن كوننا جُلاداً لأنفسنا وذواتنا.. فسلط الله عليّنا ضحية تتقن الجلد وفن الجلد..
امرأةٌ فلسطينيّةٌ تُشتت امرأةً فلسطينيّةً..
قالت لي ودموعي ودموعُها تُعزي بعضها بعضاً… "هذه المرأة التي استأجرتُ منها المخزن.. الذي يأكل جلدي ولحمي وعظمي بخشونة جدرانه، ونتؤات حديده، ووقاحةِ شتاءه وصيفه… ونتانةِ جوّه العُلُوي وأرضه المقدسة.. تطالبني بأجرة السكن- المسكون بالحقارة والوساخة والاستغلال- خمسمائة شاقلٍ، هي بطاقة خلودي للنوم الليلة.." ليلة جمعةٍ قارصةٍ في شتاء القدس.

بعد أن شوهوا الهُويّة ضُيّعت القضية

امرأةٌ تضطهد امرأةً.. ويقول من يقول، ويدّعي من يدّعي: أنّ للمرأة قضية.. وأنّ للرجل قضية. فجزأوا المجزء وقسّموا المقسم.. واتّبَعهم أذناب الثقافة والحداثة والبلية.. فضُيّعت الهُويّة، وشُتت الأمّة، ونُسِفت القضيّة. . . فتنادوا بينهم: "يا عمال العالم اتحدوا.. ويا نساء العالم تحرروا.. ويا شعوب الأرض ارتقوا وتقدموا" فلا مُجيب بعد قتلهم الروحَ.. فارتمتِ الجثةُ هامدةً ميتةً! فلا حياةَ لمن نُودِيَ.
ضحيةٌ تُشتت ضحيةً.. ولاجئةٌ تطرد لاجئةً.. فأي قضية هذه..! فمن قلب القضية ومن عنق الجلاد الضحية أو الضحية الجلاد.. حدثتني هذه المرأة الاجئة، عن واقعِ مخيّمِ اللجوء.. عن قصةِ واقعٍ شاهدته بأٌم عيني قبل أيام في ذات المخيم.. حدثتني عن "معركة صمود" المخيم ذاتُه.. معركة كانت بين ضحايا الجلاد "الحقيقي" أنفسِهِم.. بين عائلاتٍ لاجئة قتّلت احدهما الآخرى، فألقيت القنابلُ، والرصاصُ على الصدور. قالت لي: على كلبٍ قُتِلَ رجلٌ بلغ الأربعين.. بكاه جميع المخيم.. نعم.. بكاه من قتله، فنحن نتقن البكاء، أو لا نتقن إلا البكاء! .. إلا فنَّ البكاء.
فنُّ بُكاءٍ فلسطينيٌّ

لم تتوقف دموعها وكأنّ جفونها مخزن آهاتٍ وحسرات.. لا تضمأ أبداً، حتى يظُنُّ باكيها أنّها تمثيليةٌ فلسطينيةٌ حزينةٌ لأحدى المتسولات في باب العمود أو مصطبات وأروقة المسجد الأقصى. فتتراجع دموعي تحت وطأة شكٍ فلسفيٍّ.. أو الشك الأمني الذي ذوتناه في وجداننا قائلين لأنفسنا خُفيةً: "لا بد أنّه عميل.. لا بد أنّه "شاباك".. لا بد أنّها متسولةٌ كذّابةٌ أو تاجرةٌ ماهرةٌ… إلخ".. ولكنّ شكٌ إنسانيّ عميق، ما لبث أن أقنعني لعلها صادقة- وعلمها عند ربي-.. أو أنّه شكٌ برغماتيّ، دعاني للبكاء معها موسوساً لي، ينفث في أذنيَ: ويلك! ما من شيء تخسره يا هذا! بعد أن فاضت دموعُك.. خاصة أنّك استمتعتَ بالبكاء في لحظة إنسانية عابرة، وعاطفة ممتعة يحتاجها الإنسان من حين لآخر، فانتفع بها واستغلها علّها لا تعود أبداً!. وسوسةٌ ملخصها، أنّ حتى دموعَنا ومشاعرَنا وأحاسيسنا إن هي إلا منفعة شخصية، نحمّلها معانٍ إنسانيّة وأخلاقيّة وهميّة.
واصلت البكاء.. بين كرٍ وفرٍ.. فإمّا أنها تجيد فنّ البكاء والتحكم في ينابيع الدموع، كما الاحتلالُ، يتحكم في مياه وغاز ونفط غزة.. وتتقن توجيه مشاعرها وإحساسها كما الاعلام الموجه لتنتزع منّي موقفاً متضامناً، حتى تحقق غايّتها ثم ترميني مخدوعاً عارياً منسيّاً. وإمّا أنها فنانة حقاً، فَطَرَتها نكباتُها على تقمصِ شخصيةَ بطلِ مسرحيةٍ تراجيديةٍ، أمام جمهور مستسلمٍ لعمق أداءها الإنسانيّ، مُنغمسٍ في واقع مأساة بطلِهِ. لا يفرق جُمهورُها وضميرُه الحيُّ بين حقيقة البطلة ودورها.. بين ما خلفَ الكواليس وأمامها.
ولكنّ فن البكاء مهما ارتقى.. لا يمكنه خِداع أنانيتنا المعاصرة وشكوكنا العميقة.. فلا بد للمُمثل أنّ يعيش مأساته حتى يؤثر فينا.. كذلك هذه المرأة.. لا بد أنّها خرجت من عمق المأساة...
فكرةُ بددت لديّ شكوكاً.. وإن بقِيت آثارها
وليطمئن قلبي أكثر، انصت لحكمتها مرغماً منساباً مع اللحظة.. كأني مريدٌ بين يدي شيخه ...
حكمةُ الشعب وغباءُ الحكام
أردت بدايةً أن أُخفي دموعي عنها.. فرجولتي لا تسمح لي بالبكاء علناً.. ولكنني استسلمتُ لدموعٍ علّها تعزيها وتشاركها أحزانها وآهاتها.. فقد لاحظتْ عليّ بأنوثتها العذراء شهقاتٍ عميقةٍ، ودموع متضامنة، منعتني من تحريك المرآة فوق رأسي قاصداً رؤية وجهها الشاحب ودموعِها الجارية، ولكنّي استرقت السمع مراراً متتبعاً لهمسات دموعها وأنفاسها، معوضاً بذلك عجزي أو مهابتي من مشاهدة مسلمةً تبكي ظلمَ، وقسوةَ، وَجَلْدَ أولادِها لها… أو لاجئةً تتراكم عليها نكباتٌ فوق نكبات.. وهزيمةٌ فوق هزيمة، واحتلالٌ فوق احتلالٍ، وحاكمٌ فوق حاكمٍ، ومخيمٌ فوق مخيمٍ أو داخل مخيمٍ… أو إنسانةً تشكي ظلم الأهل والأقارب وأبناء الوطن، وكأنّ الشكوى سلاحُ الضعيف، فهذا ما يملكه أمام قساوة ِالواقع وتلبدِ الضمائر وجمودِ وجداننا الإنسانيّ.. أو لعله سلاح القوي.. حين يدرك أنّ عدل الله واقع لا محال في الدنيا قبل آخرتنا ..
ولعل سقراط [1] صدق حين نزل للشعب والعامة لدراسة الفلسفة.. فقد أدرك أن الحوار مع الناس وعامتهم يوصل للحقائق والمثل.. وقدِ ادّعى على لسان تلميذه أفلاطون: أنّ ابن الفقير دائماً ما يبحث عن العدل، فهو تجرع مرارةَ الفقرِ، والظلمِ، والاستغلالِ، وغيابَ العدل في أبسط صوره. لذلك فأبناء الفقراء، أي الجيل الثاني من الفقر، يسعى لإقامة نظامَ ودولةَ العدل. أمّا أبناء الأغنياء الذين تنعموا من ثروة الآباء، فقد تجرعوا مرارةَ الفراغِ والخواءِ واللا معنى، بعد أن رأوا آباءهم يعملون ليل نهار لجمع المال والتراب، ولكنّهم لا يتمتعون بالحياة، كما يستمتع أكثريةُ الناس حين يعملون القليل، ولكنهم يَحيّون بقدر من السعادة، يكفيهم للبقاء والفناء والضحك والبكاء.. وهذا الجيل الثاني من الأغنياء يتمرد على الآباء، يطلبوا الحرية من قيود الغنى واللامعنى.. فيسعون لإقامة نظام الحرية.. الحرية من العمل والفكر والمال والثروة والكماليات التي صادرت طبيعتهم.
ولعل المرأة بحكمتها الفطرية.. أدركت أن لا بقاء للظلم بشتى أنواعه.. أكان ظلمَ الفَقرِ أم ظلمَ الغنى… فقد روت لي السيدة قصةً، بعدما توقفت دموعُها وشهقاتُها، وكأنّها لحظةٌ، لا مكان للعواطف فيها والأحاسيس.. ولا للقلوب. إنّما لحظة يتجلى العقلُ فيها بأبهى صوره، وتنطق فيها حكمةُ الشعبِ بصفاءها البهيّ.. متجاوزةً تشدقَ فلسفيٌّ وأكاديميٌّ بنظريات الوجود، قائلةً لي بعباراتٍ عَجزتُ عن حفظها لفظاً، ولكنّها معنانٍ هزّت كياني، واستحقرت نظريتي المستعلية بهتاناً، فوق حكمة الشعب: ظن هؤلاء بغبائهم أنّ نِعَمَهُم أوصَلَفَهم أوظلمَهم أوزيفَهم، أزليٌّ كان، وأبديٌّ سيبقى.

قالت مقولتها بيقين.. عَجِزَ عنّه أولوا الألباب من الحكماء والفلاسفة... وكأنّها تؤمن أن لهذا العالم غايةً لا مفر منها.. ومنتهىً لا رادّ عنه.. وطريقاً لا سبيل عنه..ألا تحقيقُ العدلِ والعدالةِ عاجلاً أم آجلاً، لتدور الدائرةُ على جميع من قدّم وأخر في هذه الحياة... كبيرةً كانت أم صغيرة.

ما زلت أبكي وأنا أدون هذه الكلمات.. ما زلت أكتب وأنا أدون هذه الدموع.. وتأكدت أن عباراتٍ لا تغني، ولا تدنو للحظةِ حياةٍ حيّة.. فلن يبكي إلا من بكى.. أو بكى على بكاءٍ…
فإذا قتل إسرائيلُ وشردَ نفوساً وأناسيّ كثيرة أفلا نُحي نفساً واحدة. .ومنّا.. " ومن أحيّاها فكأنّما أحيّا الناس جميعاً" [2]

ألا نامت أعين الجبناء
" إنّ الذين كفروا لو أنّ لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم"

أسامة عباس
بيت المقدس
11-12-2009
[1] فيلسوف يونانيّ قُتل عام 399 قبل الميلاد على أثر محكامته في أثينا بتهمة "إفساد الشباب" أو الشعب.. فقد انتهج طريقة محاورة الناس في الشوارع والأسواق بتوجيه الأسئلة لهم كأنه لا يفقه شيئاً.. ولكن من خلال الحوار يتبين أنّه أذكى منهم وأعقل.. وهكذا يدرس الحكمة والفلسفة ويساعد الناس في التوصل للحقائق الفلسفية للوجود. الحقائق الأخلاقية والسياسية والفكرية التي أثارت عليه أصحاب السلطان والجاه والمصالح مما تسبب في قتله.
[2] المائدة: 32

الأربعاء، 9 ديسمبر 2009

بيان الحقيقة الآخرى

بيان

الحركة الإسلامية بين العهر والكذب

والحقيقة الآخرى
"… مشاهدينا المحترمين سلام الله عليكم. رفعت الأقلام وجفت الصحف وحصل ما في الصدور، هكذا يمكننا القول والتلميح إلى صراع الهوية والفكر والسياسة في تركيا ومن يحق أو لا يحق له أن يمارس السياسة والسلطة والحياة العامة. لقد انتهت اللعبة، الديمقراطية في تركيا انتصرت حتى الآن على الأقل، انتهت اللعبة، من يختاره الشعب هو القائد وليس من تسمح له محاكم التفتيش أو النابشون في قبور النوايا، انتهت اللعبة، الحداثة هي التحديث في الواقع بالواقع وليس بما كان واقعا قبل سنوات وعقود فتلك حداثة مغشوشة إن تجمدت عند شعارات بالية ولغة قديمة فليس اللباس مقياس الحداثة وليس الدين هو لا حداثة ولربما هو العكس، على الأقل تركيا اليوم نموذج ناطق، انتهت اللعبة، السيد عبد الله غول هو رئيس الجمهورية في تركيا ورئيس الدولة باعتداله وانفتاحه ومرونته وأيضا بثوابته وخياراتها وتاريخه، من كان يصدق ولا زال يصدق كثر وأكثر من لا يصدق بنكهة عناد وهم قلة وأقل، انتهت اللعبة. نحن مع الرئيس عبد الله غول في مكتبه الخاص بقصر شانكاياه في أنقرة لنقول له سيدي الرئيس انتهت اللعبة بمعنى أنكم أنهيتم زمن الإقصاء والعزل والتهميش فاسمحوا لنا أن نبدأ معكم لعبة إعلامية جميلة اسمها حوار صحفي فتركيا الآن باتت حديث الناس والعالم وخصوصا في منطقتنا العربية والإسلامية لتطوراتها ودورها ونشاطها وحركتها اللافتة، نريد أن نفهم سر الانطلاقة التركية المثيرة في الداخل ومع الخارج، وبعض المواقف من حال الأمة في العراق وفلسطين والقدس ومع سوريا وإيران وطبعا ماذا تريد تركيا أن تحققه تحديدا ولا ننسى أين هي أميركا وخصوصا ما يشار إليه أيضا من العلاقة المتوترة الجديدة بين تركيا وإسرائيل، مرحبا بكم سيدي الرئيس...."

هذه الكلمات افتتح فيها الصحفي الموهوب غسان بن جدو لقاءه مع مؤسس حزب العدالة والتنمية الإسلامي ورئيس الجمهورية التركية. وهي كلمات تلخص حصيلة التجربة التركية وصراعها بين الثنائيات التي فرضت علينا فرض. بين الديمقراطية والشورى، وبين العلمانية والإسلامية، وبين الهوية والحرية، وبين الإسلام والسياسة، وبين الأصالة والحداثة.
لقد حسمت تركيا أمرها..
إخترت عدم اعلان بيان للرد على البيانات.. فما من بيان آخر إلا ويزيد الطين بلة.. وما من بيان إلا ويتحرك على محور العهر-الكذب.. بين حقد عميق وكره دفين.. بين انتكاسٍ نحو الوثن والصنم وبين انغماسٍ في الشخص والقِدم.. بين نفسٍ مريضة وآخرى عجوزة.. وبقدر ما في الصدور فالحديث يطول.... وحين لا تتناهى المعاني تتناهى العبارات..
بل اخترت أن ألفت النظر إلى من يتفاعلون مع القضايا الكبرى ليحققوا الانجازات العظيمة! وحين تصغر العقول لا تنجز الأمور... فإليكم عناوين الأمور:
صراع الهوية والفكر هي المدخل!
قلت لقد حسمت تركيا أمرها..
لقد حسمت مسألة هويتها الحضارية والثقافية.. لقد عادت إلى أحضان الشرق المؤمن( نسأل الله أن يكون مؤمناً).. وما فعلت ذلك إلا بعد أن حسم قادتها أمرهم في السير نحو الانجازات العظيمة.. لقد حسم حزب العدالة والتنمية علاقاته الفكرية والتنظيمية مع الجيل القديم المؤسس.. لقد خرج من ثوب الشيخ ليلج عالم القائد.. من فكر الشخص إلى شخص الفكر.. من فكرة الشيخ إلى فكرة الفكر. هكذا تحررت الهوية التركية من عباءة الشيخ أربكان.. من اختزال الإسلام والسياسة في موروثات بالية وعلاقات شخصية، وهيبة وهميّة مخادعة. هذا الصراع بين انتماء لماض بالٍ ميت.. كما يصفها أستاذنا المرحوم "بالأفكار الميتة".. وبين انتماء لحاضرٍ واعٍ ومستقبلٍ مشرقٍ وهوية متجذرة في الفكر والعمق والواقع.. هذا الصراع بين واقع ميت وبين واقع حيّ..
لقد حسمت تركيا أمرها.. فاختارت الهوية والفكر لتدخل العالم والتاريخ كما خرج ويخرج منه آخرون
لقد انتهت اللعبة
لقد أنهت تركيا اللعبة وحسمتها في بداية الألفية الثالثة الميلادية... لقد حسمت أمرها وشاركت في اللعبة وبأدواتها وسلاحها الهوية والفكر.. بينما تسلح آخرون باللسان واللعاب! عندما اكتسح شيخهم قبلهم بأعوام البرلمان تركي.. لم يستحضر معه إلا اللسان ومنابر الغوغاء ... فما لبث أن تقهقر تحت ضربات العسكر وألقي في غيابات السياسة.. وإن كانت مجرد مداعبة.. بعكس مريديه المتمردين، الخارجين من عباءته، حين تعرضوا لأشد المؤامرات الأتاتوركية كراهية ومكراً .. ولكنّ سلاحهم بعكسه، سيوفهم المجردة من أغماد الفكر والهوية والسياسة!! وهنا الفارق يكمن.. وهنا حُسمت اللعبة... وانتهت
حسمت تركيا أمرها.. وحسمت اللعبة الكبرى.. وما زلنا نحن لاعبين صغار
النابشون في قبور النوايا
حسمت تركيا أمرها.. وقررت خروجها من عقدنا النفسية التي أثقلت كاهلنا منذ قرون.. قررت ان تطهر صفحتها من نفسية الحقد والشك والظن.. وتجلب نفسية المنتصر والواثق بقدراته في مواجهة المكر الأتاتوركي المتربص للحرية والإيمان والعمل والفكر والهوية والتقدم.. وفي مواجهة نفسية مثقلة بماضٍ مهترء ومهزوم ومنغلق وشخصيّ وأنانيّ، متلبسٍ بلباس التقوى والورع والكلمات... وفي أقرب مكاشفة صوفيّة مُسكرةٍ، ينفث سُمومَه المتجذرة في أعماق صدور.. اسودت من الغُلّ.. من شدة ما نبشت في قبور النوايا...
لقد حسمت تركيا أمرها.. وتركت النوايا لباريها.. ونبذت علاقاتها المهترءة مع الأعراب والعرب، والفرس والأرمن، والروس والكرد، والأذر والغرب... وبحثت عن عمقها النفسي .. عن عمقها الاستراتيجي.. عن عمقها التاريخي... عن دورها العميق.. منذ الفاتح وسليمان.. منذ البدء
الحداثة هي التحديث في الواقع بالواقع
حسم الترك أمرهم... لا حداثة بلا أصالة ولا أصالة بلا حداثة..
حسموا أمرهم وتركوا من خلفهم عقد الخوف من مواجهة الحداثة والتقدم والتطور والتنمية.. ولكنّهم أبداً لم يتنكروا لأصولهم العقدية في العدل والعدالة... هي أصالة متجذرة في هويتهم.. ألم يلقب سيدهم وخادمهم منذ قرون "بالقانونيّ" ؟! .. لقد تغنينا بسليمان وعدل عمر أكثر منهم وقبلهم بعد سلخهم قهراً عن هويتهم وعمقهم .. ولكنّهم استحضروهم من عمق التاريخ في فكرهم وهويتهم وسياستهم واستراتيجيتهم.. ونحن ما زلنا نغني ونرقص.. نغني على فقرنا ونرقص على جراحنا.. فقرنا الفكري وجراحنا النفسية.. وفي كل سهرة نسكر حتى الصباح.. ونعظ الناس حتى المساء.. فلا واقع بل خداع!! ولا إصلاح بل صراخ!! ولا بيان بل كلام !! ولا برهان بل غثيان !! ولا قرآن...
حسم شعب أردوغان أمرهم .. وزعيمهم "الفتى الشجاع"
("أر" تعني القوي أو الشجاع، و"دوغان" تعني الطفل).
فإذا كان طفل من حسم للترك أمرهم.. فأين قزم العُرب من فتى التُرك؟!
سرالانطلاقة
حَسْمُهُم أمرَهم.. بنبذ العهر والكذب.. بل حتى الكلام فيهما.. وما زلنا نحن نراقص اللسان !.
حسمهم أمرهم.. بنبذ صغائر الأمور.. بل حتى التفكير فيها.. وما زلنا نحن نتقن الغناء
حسمهم أمرهم.. بنبذ عفوية القادة .. بل حتى الحلم عنها..وما زلنا نحن لا ندرك التخطيط
حسمهم أمرهم.. بنبذ العقد الدفينة.. بل حتى الشعور فيها.. وما زلنا نحن نخبأ الكثير
حسموا أمرهم.. وما زلنا نحن لا نحسن التدبير... فحسبنا الله ونعم الوكيل
من وحي الواقع سطرت كلماتي:
أسامة عباس بيت المقدس
9-12-2009

الثلاثاء، 13 أكتوبر 2009

خواطر حول الهوية والحرية

الحجاب والهوية والحرية

ما الذي قصده "الفنان" حين تمثلث المرأة المُحجبة في ذهنه بهذه الصورة وعلى هذا الشاكلة [1] ؟! هل هي مجرد صورة ذهنية لا تتعداها إلى البنى النفسية والثقافية والحقيقة الاجتماعية؟! إنّ المرأة المحجبة تظهر من خلال التمثال كأنّها امرأة خاويّة لا تحتوي مضموناً ولا تلفظ معنىً، فما وراء الحجاب واللباس إلا فراغ أسود تُطِل منه كفُّ يدٍ على استحياءٍ، وما الحجاب إلا غطاءٌ يخفي حقيقة الفراغ والتخلف، أو هو تخلف يَحُولُ بين المرأة وبين تحقيقها لذاتها وملئ فراغها وخواءها الثقافي والفكري. إنّي أدرك أنّ الفنان يهوديّاً ، ولكنّي التقيت في حياتي مسلمين كثر لا يبتعدون في خيالهم وتفكيرهم عن هذه الصورة الذهنية، وتُكرس عندهم هذه الصورة النمطية. إذاً الإشكالية لا تتوقف عند نظرة الآخر العقائدي للمرأة المسلمة المحجبة، بل تأخذ حيّزها في المجتمع المسلم على المستوى الفكري والثقافي.

والإشكالية من جهة آخرى تشير إلى ثنائيات خطيرة في حياتنا بحاجة للمقاربة الفكرية والمعالجة السلوكية، مثل الصراع بين الباطن والظاهر، وبين الجوهر والشكل، وبين حقيقتي الشخصية الداخلية ونظرة الناس إليّ. فهل الحل لهذه الإشكالية هي تبني الحرية المطلقة، التي يتجرد فيها الإنسان من أبعاده الباطنية وخفايا أسراره الغريزية والنفسية والثقافية، فيظهر أمام الملئ كما هي حقيقته وشخصيته بينه وبين سِرَّه؟ أمِ الحلُّ تنكره للحريّة والتطبع مطلقاً بالهوية ومعتقداتها وأنماط تعبيراتها. إذاً هل نحن أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا الهوية وإمّا الحرية؟! إمّا أن تتمسك المرأة المسلمة بهويتها -والذي يمثل فيها الحجاب مرتكزاً أخلاقياً وثقافياً أساسياً بل حتى عقائدياً- فتُصادر حريّتها الفرديّة والنفسيّة والثقافيّة؟! أمّ أنّها تطلب حريّتها المطلقة وإن تنافرت وهويّتها العقائدية والثقافية؟ .

هل من طريق ثالث للمقاربة بين الهوية والحرية؟ بين الاعتزاز بالهَوية وتكريس قيمها الأصيلة وحتى شكلياتها التي لا تضر ولا تنفع، وبين تحقيق حرية الفرد والإنسان وتكريس شخصيته المميزة ومقوماتها الخاصة في الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي؟ هذا الثنائي المتمثل بالهوية والحرية من تلك الثنائيات المطلقة التي لا بد لعقل المسلم من مجابهتها في العصر الحديث وتحت وطأة الحداثة وما بعدها.

والمسألة هنا ليست مسألة فلسفية بقدر ما هي إشكالية نفسية وثقافية تؤثر على جوانب إنسانية متعددة، يمكنها أن تتجلى في سلوكياتنا وعلاقاتنا الاجتماعية وحياتنا السياسية. فمن جهة يمكن لتأثيراتها النفسية أن تعيقنا عن التفكير بواقعنا ومشكلاته وحلولها بصورة ابداعية وواعية وإيجابية، فتنحرف بنا لمواقف متطرفة وتكفيرية وأيديولوجية مغلَّفة. ومن جهة آخرى، تعيقنا حالتنا النفسية من الإلتصاق بمجتمعنا وواقعنا فنطلب العزلة والأنانية والفردانية المتطرفة ونختزل أنفسنا بمصالحنا الذاتية الدنيوية.

معادلة الحسم بين الثنائيات

ولكن هل من معادلة نظرية يمكن تطبيقها لتجاوز هذه الثنائية ولحل هذا التناقض؟! على ما يبدو ليس هناك من يملك هذه المعادلة السحرية! وهذه حقيقة تنطبق على كافة الثنائيات التي اصطدمت بها حركات الإصلاح ومنظروها في الواقع الإسلامي، مثل الشورى والديمقراطية أو الأصالة والمعاصرة أو التقليد والحداثة أو الوحي والعقل أو الإيمان والعلم وغيرها، وقديماً الشريعة والحقيقة أو الحكمة والفلسفة وغيرها. ولعله يمكن للفكر أن يُرجِّح طرفاً من الثنائية على الطرف الآخر، بحيث يسوق الحجج والبراهين العلمية والمنطقية على صحة المفهوم الأول، أو انّه يبدع حالة توافقية بينهما أو تلفيقية. ولكنّه أبداً لن يحسم الصراع بين الثنائي.. ففي هذه الحالة يبقى الحسم داخل نخب ثقافية علمية لا تعكس بالضرورة خيارات المجتمع والأمة. إنّما الحسم من شروطه أنّ ينتهي في البنى الاجتماعية والثقافية للأمة.. بمعنى أنّ الممارسة العملية وسيرورة المجتمع وتطوره الذاتي من يحسم الصراع الثنائي ويحدد صورة الحسم وطبيعته.

فلنحاول بدايةً معالجة الهوية ومن ثم الحرية، وبعد ذلك نقرأ القرآن لنرى آيات الله في أنفسنا وفي الآفاق:

من أكون؟! من أنا؟!

سؤال يبدو سهلاً عابراً للوهلة الأولى! بالذات حين نقف لنُعَرِّف عن أنفسنا.. فيكون جوابنا عفويّاً: اسمي فلان ابن علان. وعندما نُلزَم العمقَ في التعبير عن أنفسنا، ويطلب منا التعريف بحقيتنا، تتلعثم الألسن ولا تفلح بايصال أبسط المعلومات عن حياتنا وشخصيتنا، كأنّا لا نعرف أنفسنا، ولسنا إلا غرباء عن ذاتنا وهويتنا الشخصية والعامة. هذا في سياق التعريف بأنفسنا كأفراد داخل مجموعات تعارف. فما بالك حين نريد أن نحدد هويتنا الكونية ( النفسية والعقائدية والثقافية والسياسية...إلخ).. كي نميزها ونمحصها في سياق علاقات التدافع والصراع والتعارف بين الأمم[2]. فإذا تلعثم اللسان في الأولى فكيف لا تغترب الذات عن الهوية في الثانية. وهذه أبسط العلاقات الجدلية التي تربط حالة الفرد النفسية والتربوية وحال الأمة ثقافياً وسياسياً. بمعنى قدرة الفرد على التعبير عن ذاته في أمّةٍ عاجزةٍ عن التعبير عن هويّتها، ومدى قدرته على إدراك حريّته وممارستها في سياق هويّة الأمّة وعقيدتها.

صبغة الله وكرامة الإنسان [3]

بعكس الطلاء لا بد للصبغة أن تتداخل في مسام القماش ومادته. فكأن الإيمان بالله وملة إبراهيم وما أنزل على الرسل هي الصبغة الإلهية التي تتغلغل في الجسد. الإيمان ليس صبغة من خارج الجسد ولكنّ الله جعلها في خلايا القلب موجودة فيه لحظة الخلق، صبغة موجودة بالفطرة. فكما أنّ الإيمان يمتزج بالقلوب كذا امتزاج الصبغ بالمصبوغ، وتبدو آثار الصبغ على المصبوغ. ويقال: تصبّغ فلانُ في الدين إذا أحسن دينه وتقيد بتعاليمه تقيداً تاماً. وقوله تعالى: "صبغة الله" بالنصب وورد مورد المصدر المؤكد لقوله على لسان المؤمنين "آمنا بالله.." فإنّه في معنى صبغنا الله بالإيمان. فوصف الإِيمان بأنّه صبغة الله، ليبين أنّ المباينة بين هذا الدين الذى اختاره الله وبين الدين الذى اختاره المبطلون ظاهرة جليّة، كما تظهر المباينة بين الألوان والأصباغ لذى الحس السليم.

"صبغة الله التي شاء لها أن تكون آخر رسالاته إلى البشر. لتقوم عليها وحدة إنسانية واسعة الآفاق، لا تعصب فيها ولا حقد، ولا أجناس فيها ولا ألوان. ونقف هنا عند سمة من سمات التعبير القرآني ذات الدلالة العميقة.. إنّ صدر هذه الآية من كلام الله التقريري: { صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة. ونحن له عابدون }.. أمّا باقيها فهو من كلام المؤمنين. يلحقه السياق - بلا فاصل - بكلام الباريء سبحانه في السياق. وكله قرآن منزل. ولكنّ الشطر الأول حكاية عن قول الله، والشطر الثاني حكاية عن قول المؤمنين. وهو تشريف عظيم أن يلحق كلام المؤمنين بكلام الله في سياق واحد، بحكم الصلة الوثيقة بينهم وبين ربهم، وبحكم الاستقامة الواصلة بينه وبينهم. وأمثال هذا في القرآن كثير. وهو ذو مغزى كبير."[4]

وقول سيد الأخير يرشدنا لمفهوم كرامة الإنسان في ظلاله:

"ذلك وقد كرّم الله هذا المخلوق البشري على كثير من خلقه. كرمه بخلقته على تلك الهيئة، بهذه الفطرة التي تجمع بين الطين والنفخة، فتجمع بين الأرض والسماء في ذلك الكيان!

وكرّمه بالاستعدادات التي أودعها فطرته؛ والتي استأهل بها الخلافة في الأرض، يغير فيها ويبدل، وينتج فيها وينشئ، ويركب فيها ويحلل، ويبلغ بها الكمال المقدر للحياة.

وكرّمه بتسخير القوى الكونية له في الأرض وإمداده بعون القوى الكونية في الكواكب والأفلاك..

وكرّمه بذلك الاستقبال الفخم الذي استقبله به الوجود، وبذلك الموكب الذي تسجد فيه الملائكة ويعلن فيه الخالق جل شأنه تكريم هذا الإنسان!

وكرّمه بإعلان هذا التكريم كله في كتابه المنزل من الملأ الأعلى الباقي في الأرض.. القرآن..

(( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً )).

(وحملناهم في البر والبحر)والحمل في البر والبحر يتم بتسخير النواميس وجعلها موافقة لطبيعة الحياة الإنسانية، وما ركب فيها من استعدادات، ولو لم تكن هذه النواميس موافقة للطبيعة البشرية لما قامت الحياة الإنسانية، وهي ضعيفة ضئيلة بالقياس إلى العوامل الطبيعية في البر والبحر. ولكنّ الإنسان مزود بالقدرة على الحياة فيها، ومزود كذلك بالاستعدادات التي تمكنه من استخدامها. وكله من فضل الله.

(ورزقناهم من الطيبات).. والإنسان ينسى ما رزقه الله من الطيبات بطول الألفة فلا يذكر الكثير من هذه الطيبات التي رزقها إلا حين يحرمها. فعندئذ يعرف قيمة ما يستمتع به، ولكنه سرعان ما يعود فينسى.. هذه الشمس. هذا الهواء. هذا الماء. هذه الصحة. هذه القدرة على الحركة. هذه الحواس. هذا العقل.. هذه المطاعم والمشارب والمشاهد.. هذا الكون الطويل العريض الذي استخلف فيه، وفيه من الطيبات ما لا يحصيه.

(وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) فضلناهم بهذا الاستخلاف في ملك الأرض الطويل العريض. وبما ركب في فطرتهم من استعدادات تجعل المخلوق الإنساني فذاً بين الخلائق في ملك الله..

ومن التكريم أن يكون الإنسان قيّماً على نفسه، محتملاً تبعة اتجاهه وعمله. فهذه هي الصفة الأولى التي بها كان الإنسان إنساناً. حرية الاتجاه وفردية التبعة."[5]

"والفرق بين التفضيل والتكريم بالعموم والخصوص؛ فالتكريم منظور فيه إلى تكريمه في ذاته، والتفضيل منظور فيه إلى تشريفه فوق غيره، على أنه فضّله بالعقل الذي به استصلاح شؤونه ودفع الأضرار عنه وبأنواع المعارف والعلوم، هذا هو التفضيل المراد. "[6]

ملخص القول:

لقد عالج القرآن مسألة هويّة الإنسان بجعلها قوة باطنية نابعة من عقيدة وصفها بالصبغة. والصبغة كما فسّرها المفسرون هي الإيمان أو الإسلام أو الفطرة أو دين الله، وكأنّها تصبغ شرايين وأوردة وخلايا المؤمن كما يصبغ الصبغ شعيرات الصوف المتداخلة، فلا ينفك الصبغ عن المصبوغ كما ينفك الطلاء عن الحائط. وهذ ميزة الهوية التي تنبع من بواطن النفس ومكامنها. ولأن كرامة الإنسان التي كرسها القرآن تخرج من حقيقة إنسانيّته وآدميّته فلا تتعارض صبغة-هوية الإنسان مع كرامة-حرية الإنسان.. أو أنّ المفروض أن لا يحدث هذا التناقض والتصادم لولا أنّ الأصل قد حُرِّف أو استبدل.

والمرأة كالرجل حين تصبغ قلوبهم بالإيمان ويُكّشِفوا عن فطرتهم السليمة - المتجردة من العقد النفسية والثقافية المهترئة، والموروثات البالية التي لا تشكل إلا غشاوة على أبصارهم وبصائرهم- فلا ريب أنهم سيجدون كرامتهم وحريتهم تنسجم مع هذه الصبغة والهوية الأصيلة. وكما قضى الله تعالى أن يرينا آياته في الأنفس والآفاق فإنّه خير دليل على انسجام واتساق الباطن والظاهر والهوية والحرية والوحي والعقل والنفس والمجتمع.

وليس عبثاً أن رسالة الإسلام الوحيدة التي حُفِظت من خلال كتاب مسطور، متجاوزة شخصنة الدين(كالتثليث) أو توثين الدين(أحبارهم أرباباً). ومن ثم فالقرآن هو الوحي الذي عالج هذه الثنائيات والتناقضات بدءً بمخاطبة النفس وصَبغها بصبغة الله (ومن أحسن من الله صبغة) فتحققت العبودية وجُبِلت مع كرامة الإنسان ورفُعِت مقوماتَه الإنسانية فوق التراث والموروث. وهذه ميزة القرآن الأصيلة الربانية.

[1] التمثال أو المجسم موجود في جادة مأمن الله في القدس (מאמילא)... وهو مجمع تجاري قريب من باب الخليل في مدينة القدس. وهو واحد بين عشرات القطع "الفنية" تعرض على طول الجادة.

[2] قوله تعالى: "يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا..." (الحجرات:13).

[3] أنظر إلى تفسير الأية الكريمة:" صبغة الله. ومن أحسن من الله صبغة. ونحن له عابدون" (البقرة:138) – النص تحت هذا العنوان اقتباس أو تلخيص بتصرف من كتب التفسير: 1) محمد متولي الشعراوي: خواطر الشعراوي \ سيد قطب: في ظلال القرآن \ الطنطاوي: الوسيط في تفسير القرآن الكريم \ الطاهر بن عاشور: تفسير التحرير والتنوير.

[4] سيد قطب: في ظلال القرآن (الآيّة).

[5] في ظلال القرآن

[6] الطاهر بن عاشور: تفسير التحرير والتنوير

أسامة عباس

بيت المقدس

13 \ 10 \ 2009

الأحد، 11 أكتوبر 2009

أنشودة مولاي يا مولاي - - - قمة في الروعة

مولاي.. يا مولاي... مولاي.. يا مولاي... مولاي.. يا مولاي... يا مولاي... يا مولاي..

مولاي إني سائر .. للدين حتم سائر.. فالقدس صاحت: غادرٌ.. أدمى فؤادي الطاهر

مولاي إني سائر .. للدين حتم سائر.. فالقدس صاحت: غادرٌ.. أدمى فؤادي الطاهر

مولاي إني سائر .. للدين حتم سائر.. فالقدس صاحت: غادرٌ.. أدمى فؤادي الطاهرُ ونداء الأقصى أبكاني فجر وجداني ... وضمير الأمةِ يا ربي.. مات بلى جاني ونداء الأقصى أبكاني فجر وجداني ... وضمير الأمةِ يا ربي.. مات بلى جاني مجرم قالوا لأني.. أرفض الذل الكبير.. أرفض العيش بصمتٍ... ضمه القهر المرير

مجرم قالوا لأني.. أرفض الذل الكبير.. أرفض العيش بصمتٍ... ضمه القهر المرير

فليقولوا ما يقولوا.. أنت من أرجو رضاه .. أنت من تعلمُ أني.. لك أرخصتُ الحياة

فليقولوا ما يقولوا.. أنت من أرجو رضاه .. أنت من تعلمُ أني.. لك أرخصتُ الحياة مولاي .. يا مولاي...مولاي.. يا مولاي... ياما رويت.. بدماءك أشجارَ... والعزةِ والإنتصار

ياما رويت.. بدماءك أشجارَ... والعزةِ والإنتصار لن يسروقوك من تاريخنا.. لن ينزعوك من صدورنا .. يا شهيد ... لن يسروقوك من تاريخنا.. لن ينزعوك من صدورنا .. يا شهيد ... يا شهيد.. يا شهيد... يا شهيد...

الاثنين، 5 أكتوبر 2009

المقاومة والقيم :- بقلم أسامة عباس

حركات المقاومة الفلسطينيّة
بين قيم المقاومة ومعايير الديمقراطية
تحت وطأة الخداع السياسي والإعلامي يفقد المرء القدرة على تفكيك العلاقة المركبة بين القيم وبين آليات وأشكال تحقيق هذه القيم في الواقع الإنساني. وحين يعود المرء بتفكيره وتحليله لعمق إنسانيّته ووجوده، يدرك أنّ الفرق بينه وبين مخلوقات الله الزاحفة على بطونها أو كروشها أو عروشها، هو ميله الفطريّ نحو تكريس القيم وجعلها مطلقة فوق المزايدات السياسية والمصالح الحزبية. وقيم المقاومة، هي تلك القيم التي تتحدى الزمان والمكان، ولا ترضى الانخراط في لعبة صناديق الاقتراع والانتخابات وما يسمى بالديمقراطية.
إنّ قيم المقاومة اليوم تمر في منحى خطيرٍ من تاريخ القضية الفلسطينية.

فإن ادعيتُ سابقاً أن الهَويّة الفلسطينيّة لا تمثل لدي إلا هَويّة براغماتية فرضتها حالة الاستعمار وتداعياته السياسية والثقافية منذ عقود، فكان من الممكن أن تتشكل هوية مختلفة آخرى لأهل فلسطين في حال كان للاستعمار شكلاً ومضموناً ءاخرين. ولكنّ قيم المقاومة للاستعمار ثابتة لا تتغير في أي صورة تمظهرت هَويّة القوم فيها. ويمكن للقوم أن يحسموا مسألة هويتهم في صناديق الاقتراع.. أمّا أن يحسموا أمرهم حول قيم المقاومة وثقافة المقاومة بواسطة استفتاءٍ او انتخابات حسب معايير الديمقراطية فهذا أخطر ما يواجه أمّة أو شعب مقاوم مُستعمَر.
هل الإنتخابات المزمع تنظيمها في الأراضي الفلسطينية المحتلة (ما تسمى السلطة الفلسطينيّة) سوف تحسم نهائياً المعركة حول مستقبل قيم المقاومة؟! هل إن فوز حركة المقاومة حماس في الإنتخابات يعني هيمنة قيم المقاومة في صفوف الجماهير الفلسطينية؟ أم أن خسارتها وفوز فريق أوسلو والتسوية هو تصفية لقيم المقاومة وتثبيتٍ لطريق المفاوضات العبثية اللامتناهية؟! على أيّ خيارات يصوت الناخب الفلسطينيّ في الإنتخابات التشريعية المقبلة؟! هل على خيار المقاومة أم خيار التفاوض؟! أم الإثنين معاً؟!.
الفرق بين حركة المقاومة وقيم المقاومة
إنّ قيم المقاومة ليست شعارات تتغنى بها الحركات والتنظيمات، وتتزيّن بها في مهرجاناتها وخطابها السياسي . بل هي قيم تشكل عبأ وثِقلاً تُكلف هذه الحركات أثماناً باهضة، باستنفاذ مواردها البشرية والمادية والمعنوية، في طريق شائك تتداخل فيه الحياة والموت، والوجود والعدم، والبقاء والفناء، والنصر والهزيمة، والبناء والهدم. ولطبيعة هذه الطريق ومقاربتها لحياة الغيّب المُخِبِأِ لغاياتها وأهدافها وطرائقها، تتقدم القيّم وتتجاوز الواقع والسياق الذي يتحرك فيه المقاوم أو المفاوض. وتتعالى قيم المقاومة السامقة فوق الأفراد والتنظيمات، لتمحو سيرتهم إذا ما تخلفوا عنها، إمّا تواطأً وإمّا إفراطاً أو تخاذلاً. هكذا نجد في تاريخ الأمم أن المقاومات تتبدل شكلاً ومضموناً في حال انفصلت المقاومة عن قيم المقاومة وابتعدت عنها أو تنكرت لها.
فكيف إذاً نُخضع قيم المقاومة للعملية الانتخابية؟!؟!
نعم. لقد دخلت حركة حماس اللعبة السياسية والديمقراطية حين شاركت في الإنتخابات التشريعية. ولكنّ انتخابها وفوزها الكاسح جاء نتيجة تبنيّها قيم المقاومة، فقد أنتخبت بناءً على برنامجها الاصلاحي وشعارات التغيير وخط المقاومة. فهل إذا فشلت أو تراجعت.. تراجعت قيم المقاومة؟! وممّا لا شك فيه أنّ فريق التسوية الآن لا يحمل من المقاومة إلا قصصها التاريخية المُحنطة.. ولا يمت لقيم المقاومة بصلة. فكيف يحمل قيم المقاومة أو حتى صفتها وقد نسّق مع الاحتلال في كل مثقال ذرة صغيرة أو كبيرة. وسَحب الإقرار بجرائم الاحتلال في غزة من خلال تأجيل رفع تقرير غولدستون لهيئات الأمم المتحدة.. وذلك تنسيقاً جليّاً مع الاحتلال. وهذا التناقض لم تبلغه "حركات تحرر" في التاريخ الإنساني مثلما بلغته الحركة الفلسطينيّة.
الحاجة للمقاومة المستديمة
من الطبيعي أنّ الأمة المُستعمَرة تعود في كل مرحلة أو مفصل في تاريخها المقاوم بمراجعة ظروفها السياسية والميدانية. وهذه المراجعة ليس أكثر من تجديد قيم المقاومة الأصيلة فيها واعادتها كمرتكزات أساسية في ساحتها السياسية والاعلامية والثقافية. وضرورة هذه المراجعة تعود لأسباب وظروف موضوعية تمّر بها كافة حركات المقاومة والتحرر.. وبالذات حركة التحرر الفلسطينيّة في واقعها المعقد الآني:
- الانغماس في تفاصيل الصراع مع الاحتلال، والذي يُغيّب أصول الصراع وجذوره الأصلية. ومن المؤكد أن يقوم الاحتلال بدور إعلامي وسياسي لطمس أصول صراعه مع المُستعمَرين، لأنّه يعتقد أن التفاصيل الصغيرة، مثل الدعوة لوقف الاستيطان أو تجميده، أو تخفيف الحواجز المنتشرة في الضفة الغربية، أو تغيير مسار الجدار العنصري– تحيّد المقاومة عن أهدافها الأصلية، وهي كونها حركة تحرر تسعى لنسف الارتباط الأمني والاقتصادي والسياسي بين الإحتلال وجماهيرها. ومن الممكن أن يلعب طرف في حركة التحرر (سابقاً) دوراً مهماً في غمس المقاومة والقضية برمتها في سلة التفاصيل التي يعرضها الاحتلال ومن يقف وراءه بين الفينة اوالآخرى (مثل تسميات: خارطة الطريق، السلام الاقتصادي لنتنياهو أو خطة سلام فياض لإقامة الدولة أو جهود مبعوث السلام جورج ميتشل... ).
- الصراع الداخلي في حركة التحرر والمقاومة وتغليّب التناقضات العميقة في صفوفها. ويمكن أن يُرجَعَ الصراعُ الداخلي في حركات التحرر للارتباطات الخارجية والتحالفات السياسية مع قوى إقليمية ودولية. وهذه التحالفات أمر طبيعي ومبرر، لأنّ حركات المقاومة بحاجة للدعم والمدد بشتى أنواعه من مصادر خارجية عن الاحتلال بعد مصادرته كافة مقومات الفلسطينيّن وسلب مواردهم المادية والإنسانية. فطبيعة المقاومة هذه تتناقض وحالة السلطة (أو "الدولة") تحت الاحتلال، التي يكرسها فريق أوسلو وما بعد أوسلو. ويمكن أن يُرجعَ الصراعُ إلى منهج المقاومة ذاته بين صفوف حركات التحرر، وهذا أمرٌ يمكن تجاوزه إذا أجمعت المقاومة على قيم المقاومة الأساسية، وفعّلت داخلها آليات اتخاذ القرار المقاوم، وتبنت استراتيجيّة في حل النازعات والتناقضات الداخلية. وهذه الاستراتيجية لن تتحقق في الساحة الفلسطينيّة إلا إذا أعيد بناء منظمة التحرير الفلسطينيّة وفق آليات واضحة وشفافة، وعدم طمس القضية في سلطة وهميّة تقودها نخبة طورت فيما بينها وبين الاحتلال علاقات مركبة من المصالح الاقتصادية والأمنية والسياسية..
- اختلال التوازن بين قيم المقاومة ومصالح الناس اليومية: دائماً ما يهتم الإحتلال باللعب على وتر مصالح الناس المعيشية والحياتية لنسف قيم المقاومة وسحب البساط من تحت أقدام حركات التحرر. لأنّه يدرك أهميّة اصطفاف الجماهير حول قيم المقاومة وحركاتها. وكأنّه يحاول خداعنا وضعاف النفوس واقناعنا أنّ حال الناس كان أحسن تحت سياسته المباشرة، وكان الناس ينعمون بنعم الاحتلال الإقتصادية والمادية. والأخطر أن يُهيمنَ على حركات التحرر (سابقاً) خطاب الارتكاس للمصالح الاقتصادية اليومية، وكأن قضية التحرير الأصيلة اقتصادية، وعلة وجود حركات التحرر والمقاومة في توفير فرص عمل لجماهيرها. ورغم مأساة الحصار في غزة، إلا أنّ القضية ليست بقضية إنسانية، تُحل بفتح المعابر لإدخال الدواء والطعام والوقود. فلو كانت قضية غزة قضية إنسانية، لما تردد النظام المصري بفتح حدوده لحل القضية، فيكفي شعب مصر لتزويد أهل غزة بحاجياتهم الإنسانية.. ولكن مجرد شراكته الفاعلة في الحصار يشير لعمق القضية وحقيقتها السياسية المرتبطة جوهرياً بقيم المقاومة والتحرر مقابل ثقافة التفاوض العبثي.
- القفز من وضعية المقاومة ومنطقها إلى وضعية "الدولة" أو السلطة وارتهانها: يبدو للوهلة الأولى أنّ خطةٍ مثل خطة سلام فياض لإقامة الدولة الفلسطينة تعيد للقضية الفلسطينية مركزيتها وتستعيد أصول وأهداف المقاومة. فهل إقامة الدولة والاستقلال إلا الهدف الأخير والجوهري لحركات التحرر! نعم بالتأكيد، ولكن هل الغاء تقرير غولدستون إلا تكريساً للاحتلال وتعزيزاً لارتباط المصالح الاقتصادية والسياسية بين فريق التفاوض واسرائيل!. تقوم دولة ذات سيادة تحمل الارادة السياسية المستقلة بتبني موازنات بين مصالحها وبين استراتيجيّتها السياسية والثقافية، وهذا أمر طبيعي في حياة الدول. ولكن، أن تقوم حركة تحرر بموازنات تكرس حالة الاحتلال، فهذا قفز بقيم المقاومة من مرحلة التحرر لمرحلة الدولة، بل دويلة أمنيّة أو دويلة ظل لحالة الاحتلال، أهم دورٍ لها تزيين الاحتلال الإسرائيلي. وقد استفاض سلام فياض وفريقه بمبادرات السلام والتسوية التي تحاول قلب موازين الصراع بجعل الاحتلال مجرد طرفاً ثاني بيننا وبينه خلافات في قضايا سياسية واقتصادية.
حاجة القضية الفلسطينية للمقاومة المستديمة ضروريّة ليس فقط للحفاظ على وجود القضية، بل أيضاً لتحقيق استراتيجية التحرر وقيم المقاومة عاجلاً ام آجلاً. وقديماً قال ابن خلدون أنّ المغلوب عادة ما يميل للتطبع بعادات وقيم الغالب، وهنا تكمن أهمية قيم المقاومة في الحفاظ على الهَوية والحقوق والقضية من خلال تبني المقاومة المستديمة، التي تعيد للقيم مركزيتها ولأصول القضية حضورها: اللاجئين وحق العودة، والقدس وعروبتها، وفلسطين وتاريخها العربي الإسلامي، والنكبة وحقيقة الاستعمار الصهيوني وعداوته المتأصلة في أصل الصراع. لذلك فإنّ حسم مسألة قيم المقاومة في صناديق الاقتراع هي تصفية للقضية الفلسطينية وأصولها وتكريس لحالة الارتهان للاحتلال والتطبع فيه.
لن تُحرر صناديق الاقتراع والديمقراطية شعباً من الاحتلال.. ولم تكن قديماً ولن تكون حديثاً طريقاً للاستقلال وتكريساً لثقافة المقاومة. قيم المقاومة تتجاوز الحسم الديمقراطي، فهي قيم تنتمي لحالة التحرر المطلق من الهيمنة.. وليس لحالة الإختيار والموازنات السياسية والاقتصادية التي تفرضها وضعية الدولة أو منهج التفاوض وحل الصراعات. بل قيم المقاومة هي من تحسم الصراع وليست الديمقراطية أو التفاوض.
هل المقاومة الفلسطينيّة والجماهير الفلسطينيّة مدركة لضرورة تفعيل قيم المقاومة والتفريق بينها وبين آليات الحسم الديمقراطي في الانتخابات المقبلة.. إن وجدت!! سؤالٌ خطير

أسامة عباس
القدس 5 \ 10 \ 2009