الثلاثاء، 7 أبريل 2009

حوار بين مسلميّن

نموذجين في التفكير الإسلامي
بقلم:- أسامة عباس
من بعد صلاة العشاء وفي باحة أحدى المساجد، التقى مسلمان اثنان يُعدوا من قادة العمل الإسلامي والدعوي في "الداخل" الفلسطيني. وبعد معانقة أخوية حميمية، رغم اختلاف انتماءهم الحركي والتنظيمي - انتماءٌ طالما أرادت فئة من الناشطين أنفسهم أن يرفعوه فوق الانتماء الإسلامي الأصيل عن وعيٍّ أو دون وعيّ (ولكنّه جهلٌ أكيد) وأن يجعلوه أٌس الهوية الإسلامية ومحدداتها- دار بينهم حوار ونقاش حول مسألة معينة، متصلة بالدعوة وكيفية توظيف شبكة المعلومات الألكترونية (الإنترنت) استجابة لحاجة تحولت لظاهرة في المجتمع المسلم.

ولن أخوض في المسألة ذاتها، حتى لا يأخذ مقالي هذا، منحىً مختلفاً تماماً عمّا أردت له. والفكرة التي أطرحها هنا تعالج: أسلوب التفكير عند المسلم، والعقل الإسلامي الذي يُوظف في حوارات من هذا النوع، وطرائق التفكير التي تحكم المسلم وتؤثر في سلوكياته وانجازاته ودوره في تقدم أمته، بل الإنسانية جمعاء.
من خلال الحوار برز نموذجين من التفكير، والحقيقة أنّ نموذج التفكير أو المبنى العقلي، لا يتبدل بتبدل المسألة المتداولة.. إنّما تحدد بنيةُ العقل كيفية تعاملنا ومعالجاتنا لها، والخطورة أنّها ترسم مصير المسألة ومستقبلها. إنّ أول ما سمعتُ حين طُرحت المسألة هو الحديث عن الضوابط الشرعية التي من الملزم أن تحكم المسألة.. ولكن الصوت الآخر شدد كيف أنّ المجتمع بحاجة لمشروع من هذا النوع.. وليس عبثاً أنّه صاحب الفكرة والمشروع. فحين انغمس الأول في التركيز على الضوابط وعاد وكرر الحاجة في الضبط والمراقبة والتقييد، استغرق الثاني في الحديث عن الفكرة وغاياتها وضرورتها الشرعية والمجتمعية.
كان الثاني يتحدث عن المقاصد والحاجة للفكرة... والأول انهمك تفكيره في الضوابط... وهكذا انحصر تفكيره ولم يستطع تطوير الفكرة.
‫ فاغلقت الفكرة والمحادثة بين الضوابط والمقاصد
"الضوابطي" أو "الضابطي" -كما اطلقت عليه- ينطلق من كون الإسلام مجموعة ضوابط.. والمقاصدي يتعامل مع الاسلام على أنّه منهجٌ يحقق مقاصد عظيمة.. الضابطي يضبط الاسلام بناء على تعقيدات نفسية واجتماعية وثقافية يختلط فيها الجانب الشخصي وسيرورة الشخص التربوية والعائلية (إلخ...) بالمنهج والدين.. وهكذ تضيع الحدود وتخترق بين الشخص الصنم والفكرة المنهج. وهذا التماهي بين الشخص والفكرة تحدّث عنه مجددون أجلاء في تاريخنا الإسلامي المعاصر.. وادَّعوا أنّه في مثل هذه الحالة، تسقط الفكرة والمشروع مع سقوط الشخص الذي تماهى في شخصيته مع الفكرة والمنهج. فإذاً هي حالة مرضية ثقافية تتميز بها المجتمعات "الغثائية"، التي لا تميز بين المنهج بما يحمل من مقاصد وقيم وبين الأشخاص من قادة فكر أو سياسة. فهي مسؤولية فردية وجماعية، متبادلة بين القادة والمجتمع في التفريق بين المنهج وبين حامليه.
ولعل في مقالي هذا ما يبرز التناقض بين نموذجين.. ولكنّه تناقض ينبع من بنية العقل المتناقضة وليس في أصل المنهج. فالمنهج تتناغم فيه القيم والمقاصد مع ضمانات التحقيق على أرض الواقع.. بمعنى أنّ المقاصد والضوابط تتكامل في الواقع وتسند إحداها الآخرى. وإذا أردنا ضرب مثل على هذا التكامل نقول: عندما نبني عمارة فإن الأهم أن نشيّد البناء ذاته.. فنرفع البنيان بالإسمنت والحديد.. ونجهز متطلبات السُكنة. ولكن حتى نحقق الغايات يتطلب منّا تأمين المنزل بالأبواب والشبابيك وأجهزة إنذار الحرائق والسرقات.. ونحيط به السياج. وهكذا في كل مشروع أو فكرة نأسس للمقاصد والقيم وبعدها تأتي الضوابط التي تحافظ على تحقيق القيم والمقاصد واقعياً.. فهي إذاً جزءٌ من ضمانات النجاح أو قل شرطٌ لعدم الانحراف عن المقصد.

ولعل هذا التناقض الظاهري يذكرنا بالتناقض بين ما هو مثالي وما هو واقعي.. وهذا التناقض لا يدّعيه إلا أصحابُ المذاهب الوضعية.. الذين أنغمس تفكيرهم في ماديّة الحياة وضوابطها الشكلية التي لا تتعدى الحواس الخمس. ولكنّ منهج الإسلام-كما نراه- ينسجم في الواقع مع المثال.. في وسطية معبرة عن حضور مثالي للواقع وحضور واقع للمثال. فإذا أردنا تجاوز هذا التناقض في بنية العقل المسلم.. وتحقيق المنهج كما هو- فلعلنا بحاجة ماسّة لتفكير وسطيٍّ يتجاوز المتناقضات الثنائية.. التي يحولها العقل وأسلوب تفكيرنا لمتناقضات مطلقة.. تقيد تفكيرنا ومشروعنا ودورنا في الانجاز والتقدم الإنساني.
ولا أخجل في تعريف نفسي "بِالمقاصدي".
بمعنى أنَّ الضوابط لا تتعدى كونها ضمانات.. وكون الحركة الإسلامية لا تتعدى كونها ضمانات لتحقيق مقاصد.. وأنّ الانتماء لتنظيم لا يتعدى كونه وسيلة لبلوغ غاية... وأنّ الخلافة لا تتعدى كونها ضمانٌ لعدم الفساد في الأرض وسفك الدماء.. وكي يُسبحَ اللهُ تعالى فيها(1). وأنّ الهوية التنظيمية ما هي إلا انعكاس عملي للهوية الأصيلة العقائدية.. إذا تجاوزتها أخلت في المقصد وتعالت عليه.. وما الرسول إلا مبلغٌ للرسالة(2).

(رحم الله امرء أهدى إليّ هفواتي النحويّة)
أسامة عباس بيت المقدس 7 \ 4 \ 2009
(1) .. قياساً على قوله تعالى: " وإذا قال ربك للملائكة: إني جاعلٌ في الأرض خليفة. قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. قال: إني أعلم ما لا تعلمون" سورة البقرة. وكأن "اعتراض" الملائكة قصد به تبيان المقصد الحقيقي من وراء خلافة الإنسان في الأرض.. بنفي الفساد وسفك الدماء ومنع تسبيح الله تعالى. كما الواقع فعلاً في حاضرنا الآن.
(2).. مصداقاً لقوله تعالى :"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته. والله يعصمك من الناس..." سورة المائدة