الأحد، 14 سبتمبر 2008

إسرائيل والنظام الكوني المحتمل -1

بقلم:- أسامة عباس القدس
هكذا مُزِِقَ العلمُ..!! مقدمة

هي اللحظة، اصطف فيها مئات الأطفال وطلاب المدراس، يرفعون بحفاوة، راياتهم البيض ممتزجة باللون الأزرق، لحظتئذ بدأت سيرتي الذاتية، وكأنها بداية التاريخ. لقد كان موقفاً عظيماً حين أدركته، وبدأتُ سَبرَ أغواره واستشراف تطوراته في حياتي الفكرية لاحقاً. ولكنَّه يبدو موقفاً ساذجاً وغريباً لطفلٍ في لحظته الموضوعية.
هنا في قرية جليليّة مُغْرَقة بالتناقضات، وعلى الطريق الرئيس في مركز البلدة، عندها لم أبلغ الحُلُم بعد، وقفتُ وأبناءُ جيلي نستقبل بالهتافات والأعلام "رئيس دولتنا" في حينها. وإن كانت الصورة المتحركة في ذاكرتي، لا تتعدى حلم قصير جداً، لا يتجاوز جزيئات الثانية الواحدة. إلا أنَّها لحظة تختزل- بالرغم من صغرها- الوعي واللاوعي الإنساني.. وكأنَّها ذلك "الثقب الأسود" شديد الكثافة، والذي لم أدرك حقيقته العلمية من قِبَلِ علماء الفيزياء- سوى أنّه قادر على ابتلاع الكون حيث ينعدم وجوده المادي. ولعلَّ كثافة اللحظة وتأثيراتها النفسية والفطرية حينئذ، جعلتني اليوم، أفتتح بها مقالي الأول من نوعه، في موضوع الصراع العربي-الإسرائيلي (سمِّه ما شئت حالياً)، وحقيقة كوّنها لازمتني في الوعي واللاوعي زمناَ من عمري طويل... فجَّرتْ في داخلي رغبةً جامحةً في الحوار مع الذات والغير، عن طريق الكتابة ومن أجل المعرفة الكونية للنفس والمجتمع.
ولكن، ما كان يمكن للّحظةِ ذاتها أن تحملَ معانٍ، لولا وجود ذروة لها.. عندها مرت قافلةُ الرئيس وحاشيته أمام كبريائي، فمنحها القدر-أي اللحظة- معانيَّها وحقيقتها وتداعياتها. كنت قد حَملتُ العلمَ أو حُمِّلتُه –لا أدري- ورأيت بياضَه وزرقتَه.. ورغم هيبته وجمال ألوانه مزقته قطعاً صغيرة ورميت بها على الأرض ودوستها بقدميّ. لا أذكر أنِّي في لحظتها شعرت بشيء ما، ولكن ممّا أذكر، وكأنها لحظة اسيقاظ المرء من حلم جميل وخطير، حين رجعت إلى بيت أهلي، انتابني شعور بالنصر, أو قل: شعور بالحرية.
ولعل هذا المشهد، يختلف اختلافاً جوهرياً مع مشاهد آخرى شبيهة، تمتلئ بها وسائل الاعلام، من حرق للعلم الإسرائيلي والأمريكي في مشرق ومغرب عالمنا الإسلامي. فهناك يُحرقُ العلم بدافع سياسيّ محضٍ أو احتجاجيِّ جليّ، ولا أدري أَينبُع من وعيٍ أو يأسٍ أو كراهية مجردة، أو كوّنه ضغط جماعيّ.. تخلله السياق السياسي والعاطفي في قلب المظاهرة. ولكن ممّا لا شك فيه، أنّ موقف الطفل، فرضه ناموس فطريٌّ سرى في عروقه مجرى الدم، لم يتعلق بوراثة بيولوجية أو سياسية، عائلية كانت أم حزبية. إنمّا تشكل من قوة باطنية غيّبيّة، رفضت الخضوع للواقع، ورأت تناقض الحالة، مع مكنوناتها الانسانية والعقائدية الفطرية . . . لهذا مَزَّقَ العلمَ..
مُزِقَ العلمُ إذاً... وهكذا تُمَزَقُ القضية وتفكك.. وهكذا نتجاوز التناقض .. وهذه بداية النظام. . ولكنِّي أجزِمُ أنّ بدايته ليست في فلسطين.. أو لعله ينتهي إليها..
ولكي نخوض في قضية شائكة مثل هذه، بل أبلغها تعقيداً على الاطلاق، ليس فقط في التاريخ المعاصر، إنّما منذ ميلاد التاريخ الاسلامي منذ أربعة عشر قرناً مضت- علينا في البداية، ترتيب منطق النظام الكوني فلسفياً وتاريخياً، ممّا يوفر لنا الخلفية النظرية والتحليلية لمنجهية العقل الكوني. وحقيقة تعقيدها -أيّ القضية- لا تنبع من صعوبة تفكيكها المعنوي والمادي.. كما فعل ذلك المسلمون قديماً بالتجربة الصليبية أو التتارية أو المغولية.. إنّما لتعلقها في وضعية المسلمين الروحية والحضارية في ظرف تاريخي، له سياقاته الذاتية والدولية، بغض النظر عن نوعية الآخر، ومُسَوِغَات وجوده، ومقدراته، وامكانياته المتوفرة. وهي بدون شك، القضية التي تداخلت فيها غالبية الخطوط الدولية المعاصرة، وتشابكت وتقاطعت فيها أكثر المصالح والسياسات الدولية. ولعل تهافت القراءات المتعددة للقضية ووصولها لطريق مسدود.. وتيه العقول في إيجاد الحلول المُرضية.. وقنوط النفوس من أُفُقٍ قريبٍ وفجرٍ جديد- يدفعنا للرجوع لمنطق الطفل وفطرته.. حيث يؤسس لقراءةٍ استثائية ضمن أصالة معاصرة، تعيدنا إلى سياقنا الحضاري الكوني، بعيداً عن تكريس الأزمات وتبعية البدائل والحلول، وتبعدنا عن استلابٍ أُصُوليٍّ مستغرق في ماضٍ خياليٍّ ، يجردنا من أصالتنا العقائدية والحضارية.
فلمّا تجلى الشيخُ للسياسة ظهر تناقضه وبدت سوءاته وشُقَ صفُه.. حينئذ برزت براغماتيته بنتانتها المعنوية حتى في رمضان الطهر.. وعلى مائدة رئيس الدولة الصائم عن كل رحمة بأُمّة الشيخ، من لبنان وعناقيده في قانا.. حتى تفصيلات مشروعه الصهيوني عبر مسيرته، منذ عقود وخلال شهور الرحمة المتعاقبة. ولمّا تستر الشيخ الآخر، بثوب الأصولية بعد الشق.. لم يلبث نقيضه إلا أن تجلّى في سلوكه اليومي متخفيّاً وراء مزايدات خطابية على المنابر وما وراء الكواليس الحركية. نموذجان الأول للتبعية الجليّة، والآخر للاستلاب الخفيّ.. وكلاهما نقيض حقيقة النظام ومنطق العقل الكوني. والعودة لأصالة الطفولة الحركية هي الآن الضرورة الحتمية لتجاوز نموذج الشيخ، من أجل عملية تأسيس لعقلية إسلامية أصيلة ومعاصرة. أصالة معاصرة تسعى لفكفكة "القضية الفلسطينية" بطريقة أقرب إلى روح الكونية الإسلامية ومنطق المعاصرة الربانية.
يتبع لاحقاً.. "إسرائيل في النظام الكوني (2)"