السبت، 13 ديسمبر 2008

إسرائيل- إشكالياتها الوجودية.. والحركة الإسلامية

بقلم:- أسامة عباس
كنا قد عرضنا سابقاً منطق النظام الكوني الذي أنشأه الإسلام، وكيف أنّه يختلف تاريخياً وجوهرياً عن تجارب أممية في التاريخ البشري. ذلك أنّ نشاته تختلف وتطوره يختلف.. وكذلك الحلول لإشكالياته تختلف اختلافاً كبيراً -بل قل جوهرياً- عن إشكاليات ثقافية أو سياسية أو اقتصادية لأمم آخرى عظيمة.

وإذا اتهِمنا بنمطية التفكير والتحليل.. فهذا يدل على عدم تعمق -المُدَّعي- وإحاطته بالمفاهيم التي أستثمرها بكتاباتي (خاصة مفهوم "العقل الكوني").. وطبيعة التحليل الذي تخطه هذه المفاهيم. ولكن بدايةً، يكفيني حقيقة تاريخية ساطعة، تدفعني للتساؤل حتى أطمئن لتحليلي: هل شهدنا في التاريخ الإنساني -القديم والحديث- أنّ كياناً يلصق بنفسه صفة الدولة.. يُؤَسَس بصورة غريبة!!.. في محيط معادٍ له بالفطرة والفكرة !!.. وكأنّه حلم في رواية خيالية ما له مكان في واقعنا الجغرافي والسياسي؟!! هل يعقل أن يتحقق هذا الحلم بهذه البساطة لتصل حد "التفاهة" التاريخية؟! وكأن هذه الإشكالية التي رافقت دولة إسرائيل -منذ نشأت فكرتها مروراً بتطبيقاتها حتى تجليات أزمتها الوجودية حالياً- تتعلق بشكل جوهري بمنطق النظام الكوني للإسلام!! إذاً لماذا لم تتكرر ذات الظاهرة الغريبة في أمم أخرى؟! وهل حالتها الإستثائية تدل على مميزات النظام وتفرده الوجودي؟! وتعبيراً عن تفرد حلوله الحضارية والثقافية الاستثنائية!!!
لماذا أنشأت إسرائيل في واقع اعتبر أصلاً محضناً آمناً لليهود خاصةً؟! أوَ كانت لتنشأ في بيئة معادية نفسياً وأخلاقياً وسياسياً وعقائدياً لمجرد يهودية الإنسان؟! كما هو الحال في السياق الأوروبي المسيحي!. فبعيداً عن تقديس التاريخ وتحنيطه في المثالية "السلفية".. مّثل الواقع الإسلامي بالنسبة لليهود وضعية وجودية خاصة-إن لم تكن فريدة- بل هي فريدة، ولم تتوفر لهم قروناً عبر شتاتهم بين أمم الأرض.
أسئلة كبيرة تحتاج لدراسات تاريخية متعمقة ومستفيضة.. ولكنها لن تغير حقيقة كون إسرائيل حل لمشكلة وجودية يهودية (أو ممكن أنّ تعبر عن الوجود اللاإنساني الغربي).. منبتها الغرب الأوروبي وتجلياتها السياسية والثقافية لم تخرج من الحيز الجغرافي الأوروبي.. ولكنَّ حلها "الافتراضي" أخطأ المكان ولم يخطأ الزمان. أخطأ المكان، لإنَّ تقديرات الحركة الصهيوينة لجغرافية الحل لم تتعدى كونها تهور استراتيجي في الوجود اليهودي الإنساني. ولم تخطأ الزمان حين لعب لصالحها..! حيث تخلف المسلمون عن مستوى تحديات عصرهم ونكصوا على صعيد دورهم الإنساني الكوني، فمثلوا أمة واهنة أمام "حلم شعب" وسياسات مصالح دول عظمى.
لقد مثلت –جغرافية الحل- كارثة استراتيجية بالنسبة للوجود اليهودي الإنساني، فالزمان ممكن التبدل والتقلب.. تارة لصالح المسلمين وتارة لصالح آخر.. وهذا يعطي للحل الافتراضي[1] احتمالات تطبيق وليس مطلق التطبيق!. ولكنَّ المكان ينفي الوجود الافتراضي للإسرائيلي.. فالمكان ثابت غير متبدل. ففلسطين ستبقى فلسطين وإن هُجِّر وشُرِّد إنسانها.. وإن هُدِّمت المعالم والآثار.. وإن عُقِّدت الاتفاقيات أو بنيت الجدران. إذاً عامل الزمان النسبي ممكن أن يقف في صف إسرائيل ولكن عامل المكان (النسبي والمطلق) لن يخرجهم من إشكالياتهم الوجودية المتعلقة بحلهم الافتراضي.. ولن يطرح الحلول للمشكلة اليهودية التاريخية، بل سيعقد المشكلة.. ويحوِّلها من إشكالية غربية الفكر والسلوك إلى عالمية (أو ما نطلق عليه "عولمة الإشكالية اليهودية") الأبعاد والارتباطات[2].
يعتقد المسلم أن عامل الزمن لصالحه.. واليهودي يحكمه شعور بالخوف من المستقبل المُغيّب، فهو على يقين أنّ حله الافتراضي لمشكلته التاريخية لن يخلد أبداً: أولاً، لأنه يغرق في محيط إسلاميٍّ بشريٍّ يُخيف كل من يتأمل الخارطة ويتصورها في ذهنه. ثانياً، لا يمكنه تجاهل اختلال التوازن العسكري كلما تقدم في العمر بعد الستين عاماً (سياسياً). ثالثاً، لا يمكنه إخفاء عمق الجرح الذي سببه لأهل الأرض نفسياً وثقافياً وسياسياً. رابعاً، لن يقدر على تصحيح خطأه التاريخي، فهو منهمك في تبرير ما فعله وسيفعله مستقبلاً بتكريس الكراهية والعنصرية والخوف في المجتمع اليهودي. خامساً، لقد وصل مشروعه الصهيوني(الحل) لطريق مسدود بل زاد مشكلته اليهودية تعقيداً وقساوة.
واقعياً ليس بالسهل على المجتمع (كشعب) اليهودي المُستعمِر العودة لدول المنشأ (بولندا- روسيا- ألمانيا...إلخ) لإعادة شرعية وجوده هناك... والمجتمع اليهودي الشرقي( العربي على الأغلب) قد انفصل وبادر لقطيعة مع منشأه الإسلامي العربي. فإسرائيل تربط هويتها الثقافية والسياسية مع الثقافة الغربية الأوروبية (الديمقراطية!! ) ولكنّها لا تفتأ تذكر نفسها أنها في محيط شرق أوسطي معادٍ. وهذا التناقض بين الإنتماء الثقافي والإنتماء الجغرافي يزيد من إشكالية الوجود اليهودي تعقيداً وارتباكاً وثم خطورة. فإذا افترضنا سلاماً ممكناً فلا بد من إزالة حدود جغرافية مفتعلة- إرادياً أو غير أرادياً. أمّا خيارة الإرادي بالانتماء الثقافي فلن يزيد إشكاليته إلا تعقيداً ولا وجوده إلا تدميراً.
في هذا السياق الثلاثي (الزمان والمكان وعولمة الإشكالية) يدخل الإسلام كمنظومة كونية في تحديد طبيعة وصور الوجود اليهودي والمتمثل: بالإشكالية، والحل (الصراع)، وتفكيك الحل(الصراع). ولكن علينا أن نضع هذا التثليث في سياق مفهوم العقل الكوني. هدفنا بذلك تجاوز الحلول الاستسلامية وعدم اجترار مواقف وقرارت تسمى "الشرعية" الدولية.
فعندما بدأ نزول القرآن كلام الله تعالى على محمد (صلى الله عليه وسلم) ثَّم نطق الرسول بلسانه المبين بدأ العقل الكوني نشأته وتكوينه. بدأت ترتسم مقوماته ومميزاته العقدية والإنسانية ومن أهمها: تجاوز الزمان والمكان وثَمَّ تفكيك القبلية أو القومية. ونحن لا نقصد أنَّ محمداً تصرف خارج زمانه ومكانه.. بل الحق أنه -من خلال واقعه المرتبط بعامل المكان والزمان- وضع إشكالية الإنسان الوجودية –أيّ إنسان- في المركز (وهنا الفرق بين الأنسنة والإسلام)[3] .. هكذا عولم الدعوة والرسالة.. فغدت "رحمة للعالمين".. فنصفها تبعاً لذلك بالكونية لأنها تَحُل إشكالية الإنسان وارتباطاتها مع ذاته والكون والخالق. والعقل يقصد به تلك الآلة التي تستوعب هذه الإشكالية وتذوتها فكرياً وسلوكياً وشعورياً.. وترتقي في أدائها ومقصدها لمنهجية (ومنطق) العقل الكوني، التي تتجاوز التثليث وتبعاته البرغماتية المحدودة والترابية.
لا يمكن للمسلم مهما انغمس في علاقات الصراع (ما يسمى العربي-الإسرائيلي) أن يغفل عن إشكالية الإنسان التي وضعها القرآن والإسلام في مركز الحياة الدنيا. ولا أملك حالياً تعبيراً أو تعريفاً دقيقاً لهذه الإشكالية إلا: " إحداث التوازن والإنسجام بين عبودية الإنسان لخالقة وبين تحقيق خلافته الآدمية في الكون". والخطورة أنّ إسرائيل كحل للمشكلة اليهودية جاءت لتحد وتعطل من إمكانية تفكيك الإشكالية الإسلامية وتطبيق معادلتها سياسياً وحضارياً. ولا تقل خطورة أنّ عملية تفكيك الإشكالية على ضوء المنظور الإسلامي، يواجهها إشكالية إنسانية هي المشكلة اليهودية. ولكنّ الحركة الصهيونية كمنظومة استعمارية وحركة عنصرية، لم تأخذ بحساباتها -ليس فقط لاإنسانية الحل بالنسبة لأهل الأرض والمكان- بل أيضاً تداعيات "الحل" وتبعاته على المشكلة اليهودية: عولمة الكراهية لليهود، وتكريس الخوف الوجودي لدى اليهودي، وحصر اليهود في حيز جغرافي يهدد وجودهم، ونزع شرعية المشكلة اليهودية وجودياً من الضمير الإنساني العالمي. وجميع هذه التداعيات تتمحور حول: المكان والزمان وعولمة (الحل)الصراع.
الحركة الإسلامية وإشكاليّتها الكونية!
إنّ الوجود اليهودي في الواقع الإسلامي منذ قرون لم يصطدم مع إشكالية الإنسان التي وضعها الإسلام. فلا يمكننا الحديث عن تهديد وجودي لليهود بين المسلمين. بينما كان اليهود -في أوروبا والغرب بشكل عام- يعانون من التهديد النفسي والديني والثقافي والسياسي.. وما المحرقة (Holocaust ) خلال الحرب العالمية الثانية إلا تعبيراً عن تاريخ حافل بالتصفيات الوجودية واحتقاراً لإنسانية الإنسان وخاصة اليهودي. ولكن برغم نزعنا للقداسة لم نشهد ظواهر شبيهة أو تقترب في الحالة الإسلامية.
الإشكالية التي طرحها الإسلام هي إشكالية يتبناها المسلم متى أعلن إنتماءه لهذا الدين.. وهي إشكالية داخلية عند المسلمين. في هذا السياق جاءت الحركة الإسلامية لتقوم بدور تفكيك الإشكالية فتطالب وتعمل -بُعيد انهيار الخلافة العثمانية- لاستعادة هوية الأمة -عبودية الإنسان والمجتمع لخالقه- واسترجاع الخلافة لتحقق للمسلمين وجودهم المعاصر. أما المشكلة اليهودية وإسرائيل فهي إشكالية خارجية (سياسياً)، ولكنها تضع بين يدي الحركة الإسلامية مشكلة داخلية (إنسانياً). وعملية خلق التوازن بين السياسي والإنساني، بين تحقيق الخلافة وبين تحقيق العبودية[4] هي لب إشكالية الإنسان التي تبنتها الحركة الإسلامية منذ يومها الأول. فإذا تنكرت لذلك فقد تنكرت لعلة وجودها ووظيفتها الأساسية. وإذا عجزت عن مواجهة الإشكالية ثم تفكيكها، فقد نكصت وحتماً تستبدل بغيرها ولا يضر الله شيئاً.
وهذه إشكالية كونية تواجهها الحركة الإسلامية، ولكننا نشهد واقعياً- أنها إما تتهرب من مواجهة إشكاليتها - التي فرضها عليها انتماءها الإسلامي - عن طريق الاختباء وراء خطاب إنشائي ميتافيزيقي متخبط. وإما تنخرط في حلول وضعية إستسلامية قد تركها أصحابها ولم تعد ذات جدوى سياسياً وإعلامياً. ولو أني لست من فريق مخاطبة الداخل اليهودي أو المتحمس له.. ولكن هذا لا يمنع الحركة الإسلامية من نزع بساط الحل الافتراضي من تحت "أقدام" الحركة الصهيونية. الحركة التي أقنعت اليهود بضرورة دولة مستقلة في فلسطين كي تحل الإشكالية اليهودية وتحقق لهم وجودهم الإنساني والسياسي. ولكنها لم تزدهم إلا خسارا.

القدس
13\12\2008
==================
[1] لتوضيح المصطلح نستعمل صيغة "نفرض أنّ".. على سبيل المثال: نفرض أنه توفر للحركة الصهيونية احتمالات تطبيق حلها في أوغندة وليس في فلسطين!! لو فرضنا أنّ واقع فلسطين عام 1948 كان مختلفاً.. أين يمكن للصهيونية تطبيق مخططاتها؟! وهل جغرافيا معينة ذات أهمية في حال استحالة الحل في فلسطين؟! ومطلق التطبيق هو توفر عامل المكان والزمان مطلقاً دون البحث عن تبريرات دينية توراتية أو تاريخية ميتافيزيقية.
[2] ممكن أن تكون عملية بومباي الأخيرة ضد اليهود (والأجانب) مثال ساطع لعولمة المشكلة اليهودية.. حتى يغدو اليهودي لا يشعر بالآمان في أيّ مكان أو حيز جغرافيِّ على وجه الأرض.. وهناك الجوانب النفسية والثقافية والسياسية والدبلوماسية وغيرها التي تعمق مشكلة اليهود عالمياً.. وليس فقط العمليات الميدانية القاسية.
[3] الأنسنة (Humanism) الفلسفة ذات الأصل الغربي والتي تضع الإنسان في المركز.. ولكن الإسلام بنظري يضع إشكالية الإنسان في المركز. والخطأ الفادح أنّ فلاسفة الأنسنة وحتى تلاميذهم الأشقياء من عرب ومسلمين (محمد أركون كنموذج) صنفوا الأديان ومن بينهم الإسلام أنه يضع الله في المركز.. تعالى الله عمّا يقولون علواً كبيراً .. فهو غني عن التمركز والتمحور مادياً ومعنوياً في منظورنا البشري فهو العلي المتعال . ولكن وإن فهم المسلمون دينهم بهذا الشكل المخطأ مما سمح للمستغرب بتفسير الإسلام كما علّمه أساتذته في مؤسسات الغرب العلمية .. لكننا نأخذ المفهوم والمضمون من كلام الله ذاته ومن حديث رسوله الكريم وليس من فهم الناس لمصدري التشريع. ولكن ليس هنا مقام التفصيل كيف أنّ آيات القرآن تضع إشكالية الإنسان الوجودية هي المركز لأنّ التكليف واقع عليه حتى يخلص من إشكاليته(فقط بانقضاء أجله-الموت).. وهذا مقصد التكليف. وبهذا التمركز لإشكالية الإنسان يرتبط تكريمه ("ولقد كرمنا بني آدم..") الفطري الأصولي.
[4] العبودية للخالق وما يتعلق بها شكلاً ومضموناً من قضايا التوحيد والعدل والتكريم والسماحة والحكمة والوسطية.. إلخ من معاني الإسلام ومفاهيمه الإنسانية.