الأربعاء، 30 ديسمبر 2009

خاطرة على هامش الهجرة والميلاد

متى وُلِدَت الأمة؟ هذا هو السؤال
رُشد: لم تقنعني! لا يمكنني تتجاهل أنّ العالم اليوم يحتفل بعيد الميلاد.
يَقظان: لعلك تدرك أنّ المسألة ليستِ القناعة بموقف وقدرتي على تغيير قناعاتك، إنّما هي خيار تتبناه عن إرادة يختلط فيها الإدراك الفكري والتعبير الذاتي عن هويتك.
رُشد: ماذا تقصد!؟ هل أختار بدون قناعة؟
يقظان: بعبارات آخرى، بعيداً عن الجدل العقائدي والفقهي حول احتفالك بعيد الميلاد، المسألة تتعلق بخيارك الثقافي، هل ترغب بتكريس مركزية الغرب في فكرك وسلوكك وعاداتك؟
رشد: وما علاقة مركزية الغرب؟ أنا أرى أن الاحتفال بالمناسبة هو إنساني وعالمي!
يقظان: إذا لماذا لا تحتفل بميلاد بوذا أو كونفوشيوس، فقد أسسا أيضاً أديان وحضارات وأمم تقدسهم وتحترمهم حتى الآن؟
رشد: آه! ولكن ميلاد السيد المسيح لا شك أثر فينا.. وهو قريب علينا كعرب ومسلمين. وكذلك نعتبره من الرسل وأولي العزم من الرسل!
يقظان: ولكن ألم تدرك أنّ المسالة لا تتعلق بالقرب من حيث التأثير. فلا شك أنّ ميلاد محمد بن عبد الله العربي أثر فينا أكثر، ومع ذلك لا يعتبر ميلاده عيداً ثقافياً أو حتى دينياً لدى العرب والمسلمين.
رشد: كيف هذا؟ فنحن نعلم أنّ المسلمين يحتفلون بالمولد النبوي، فيقيمون الأمسيات والمدائح والمسيرات؟
يقظان: بلى. ولكن لننظر إلى المسألة كونها عادات لها سياقها التاريخي ونستطيع تتبع مصدرها وبداياتها وتجلياتها. والحقيقة أن العادة هي ظاهرة غير أصيلة في هويّة الأمة. ولو أنّها أصيلة لكان الحريّ بالعرب المسلمين الأوائل والمسلمين من بعدهم جعل المولد بداية التأريخ لتحركهم التاريخي.
رشد: أتريد القول أنّ ...
يقظان: أريد أن تدرك أن خيارك يتعلق بذاتك وهويتك وليس بالعادة المنتشرة بين الناس اليوم!
رشد: مرة آخرى! هل تستطيع تجاهل أن العالم يسير وفق التأريخ الميلادي اليوم؟
يقظان: جاهل من يتجاهل! فلا يمكن تجاهل العادة.. ولكنك لا يمكنك تجاهل أن هيمنة تقف من وراء "العادة" التي تحولت إلى عادة. الهيمنة هذه هي مركزية الغرب وثقافته حتى في تحديد تاريخ ميلادك!
رشد: وضّح!
يقظان: ما الأصح أن تقول: "تُوفيّ أبا حامد الغزالي عام 1111 بعد الميلاد" أم " تُوفيّ أبا حامد الغزالي عام 505 بعد الهجرة"؟
رشد: أعتقد أن في الحالتين صحيح!
يقظان: هنا المسألة! في السؤال متى وُلَدت الأمة ومتى تُوفيت؟ لنرسم خط بياني لميلاد الأمة أيّ أمة، تجد أنّ لها تاريخ ميلاد، تصل الفتوة والشباب بعد فترة معدودة.. ثم تبلغ أشدها وذروتها.. ثم تشيخ..ثم يُعلن وفاتها. فلو اعتبرنا أن زيداً ولد عام 1967 وقد بلغ الأربعين من عمره، هل يُعقل أن نحدد تاريخ ميلاده بالقول: " إنّ زيداً وِلد 19 عاماً بعد ميلاد موشي عام 1948".
رشد: رياضياً وحسابياً جائز!.
يقظان: ولكنك تعلم أن الإشكالية ليست في الحساب.. إنّما في الثقافة، وما التأريخ الذي يعبر عن سيرورتك التاريخية والثقافية، فجعلت من "موشي" نقطة ميلادك وكأنك تستحضر هنا تطور وبلوغ "موشي" وليس رسمك البياني منذ ميلادك حتى وفاتك، وما يتخلله من إنجازات وإخفاقات، وكأنك تسلخ نفسك من تاريخك وتخرج نفسك من زمنك.
رشد: الذي تريد قوله...
يقظان: رأس السنة الميلادية... ليس أكثر من تعبير عن هيمنة الغرب.. وثقافته وجعلها مركز العالم...وكأن العالم يسير ويطوف حوله وهو الأهم والأرقى والأصح... تاريخنا يبدأ منذ الهجرة.. وهناك تشكلت هويتنا وثقافتنا وتاريخنا.. وليس ميلاد السيد المسيح.. وعلى فكرة ليس بولادة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام..
رشد: وأين الخيار يكمن؟!
يقظان: الموضوع يطول... ولكن لا تقنعني أن الأمر لا يتعلق فيك وفي كل شخص فينا.. مسألة إرادتنا في تغيير العادة والتأثر بالآخر.. انا قادر أن أتجاهل التاريخ الميلادي.. لأنه لا يعبر عني.. هذه هي المسألة "الهوية"... متى ولدتِ كأمة !!
أسامة
بيت المقدس
30\12\2009

الجمعة، 11 ديسمبر 2009

بكاءٌ مع لاجئة

بُكَاءُ لاجِئَةٍ
ما زلت أبكي وأنا أدون هذه الدموع
...

أعترف أني لم تذرف دمعةٌ لي على فلسطين على فترة من المصائب، وتتراً من النكبات. كان آخرها في وقفةٍ بين يدي الله أتلو آيّةً تختزل الزمان: "من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل، أنّه من قتل نفساً بغير نفسٍ،أو فسادٍ في الأرض، فكأنّما قتل الناس جميعاً...(المائدة:32) ".

ولكنّي في هذه اللحظات لا أبكي ضحية جلاد. جلادٍ عهدنا جرائِمَه من لدن هارون وموسى..
إنّما جلاد من نوعٍ آخر..
بل قل من نوعنا..
من ديننا… من وطننا ومن مخيّمنا ومن قدسنا! من قدس أقداسنا.. من مسرى حبيبنا..
من مخيم نكبتنا ونكستنا! من بكاء أطفالنا.. من عجز نساءنا… من حيرة رجالنا..
من ثباتِ رجالُ اللهِ في أرضنا.. من تراب رباطنا… من كلِ شيء فينا!..
من عمق تاريخنا.. من وجودنا ووجداننا.. منّا..
ومن ذنوبنا.. وخطايانا… من…!

أبكتني ضحيةُ ضحيةِ الضحية…

وأعترف أن لا ضحيةٌ أبكاني عويلُها كما أبكتني هذه المرأةُ!
وأعترف أن لا شيخٌ أبكتني مواعظُه كما أبكتني هذه المنكوبة!
واعترف أن لا حكيمٌ أفهمني منطقُه كما أفهمتني هذه المسكينة!
وأعترف أن لا زعيمٌ أقنعتني غوغائيّته كما أقنعتني هذه المسحوقة!

كان ذلك عندما رمتني يدُ الله بين يدي امرأة مقدسيّة، أبت دموعُها - التي تعوّدتِ السيلَ زمناً، وأتقنت فن البكاء والمأساة-إلا أن تنتزع منّي كبريائي، وصلابتي، وقسوةَ قلبٍ طال عليه الأمد.. فسالت دموعٌ لم أعهدها، ورق قلبٌ لم أذكره، وجالت أفكارٌ كرّرتُها مراراً.. ولكنّها فلسفةٌ جوفاءٌ، ونظريّةٌ صماّءٌ في الهُويّة والحريّة والصراع والاحتلال والإسلام ...

كانت لحظة…
في خاتمة يوم عمل طويل لم ينتهِ.. لم أدرِ كيف تحركت يدي -لا إرادياً- فتوقفتْ سيارتي لامرأةٍ تُشير لي للتوقف على هامشِ طريقٍ! في شارعٍ من شوارع قدسنا.
انزلقت السيدةُ على مقعدها الخلفيّ..وكأنّها غير واعيةٍ ولا آبهةٍ لما تفعلُ.. ولم تلبثْ أن بدأت دموعُها تنهمر منها تندُبُ حالها.. وترسُم لي صورةَ مأساة فلسطينيّة.. لم يصل خبرُها بعدُ لمجلس الأمن، والجمعية العامة للأمم، ومجالس حقوق الإنسان.. بل لم يصل إلى سراديب مؤتمرنا الإسلاميّ أو جامعة العرب.. أو حتى لقلوبٍ مسلمةٍ عربيةٍ غافلةٍ!
صورة امرأة في مخيم شُعْفَاط، كيلومتراتٍ قليلة من المسجد الأقصى الذي بورك حوله.. تعيشُ في مخزنٍ لأحد عائلات المخيم المنكوب على أثر نكبة العرب ونكستهم.. تبكي ظلم الأقارب، تبكي قسوة الضحية، تبكي شهود قضية، تبكي مأساة شعبٍ باع القضية وألقى البندقية والحرية.. واستعبد الهزيمة والخنيعة، واستمرأ الضحية والعبودية! فكما اخرج موسى قومَه من عبودية استمرأوها.. عاد قومُه بعده لها يعبد، وقد أُشرِبت فيها قلوبُهُم.. وفي زماننا لعبوا دور الضحية فطابت لهم.. ونحن من بعدهم وبصنعتِهم استمرأنا دور الضحية، وكأنّ شعبنا كله ضحية..! وغفلنا عن كوننا جُلاداً لأنفسنا وذواتنا.. فسلط الله عليّنا ضحية تتقن الجلد وفن الجلد..
امرأةٌ فلسطينيّةٌ تُشتت امرأةً فلسطينيّةً..
قالت لي ودموعي ودموعُها تُعزي بعضها بعضاً… "هذه المرأة التي استأجرتُ منها المخزن.. الذي يأكل جلدي ولحمي وعظمي بخشونة جدرانه، ونتؤات حديده، ووقاحةِ شتاءه وصيفه… ونتانةِ جوّه العُلُوي وأرضه المقدسة.. تطالبني بأجرة السكن- المسكون بالحقارة والوساخة والاستغلال- خمسمائة شاقلٍ، هي بطاقة خلودي للنوم الليلة.." ليلة جمعةٍ قارصةٍ في شتاء القدس.

بعد أن شوهوا الهُويّة ضُيّعت القضية

امرأةٌ تضطهد امرأةً.. ويقول من يقول، ويدّعي من يدّعي: أنّ للمرأة قضية.. وأنّ للرجل قضية. فجزأوا المجزء وقسّموا المقسم.. واتّبَعهم أذناب الثقافة والحداثة والبلية.. فضُيّعت الهُويّة، وشُتت الأمّة، ونُسِفت القضيّة. . . فتنادوا بينهم: "يا عمال العالم اتحدوا.. ويا نساء العالم تحرروا.. ويا شعوب الأرض ارتقوا وتقدموا" فلا مُجيب بعد قتلهم الروحَ.. فارتمتِ الجثةُ هامدةً ميتةً! فلا حياةَ لمن نُودِيَ.
ضحيةٌ تُشتت ضحيةً.. ولاجئةٌ تطرد لاجئةً.. فأي قضية هذه..! فمن قلب القضية ومن عنق الجلاد الضحية أو الضحية الجلاد.. حدثتني هذه المرأة الاجئة، عن واقعِ مخيّمِ اللجوء.. عن قصةِ واقعٍ شاهدته بأٌم عيني قبل أيام في ذات المخيم.. حدثتني عن "معركة صمود" المخيم ذاتُه.. معركة كانت بين ضحايا الجلاد "الحقيقي" أنفسِهِم.. بين عائلاتٍ لاجئة قتّلت احدهما الآخرى، فألقيت القنابلُ، والرصاصُ على الصدور. قالت لي: على كلبٍ قُتِلَ رجلٌ بلغ الأربعين.. بكاه جميع المخيم.. نعم.. بكاه من قتله، فنحن نتقن البكاء، أو لا نتقن إلا البكاء! .. إلا فنَّ البكاء.
فنُّ بُكاءٍ فلسطينيٌّ

لم تتوقف دموعها وكأنّ جفونها مخزن آهاتٍ وحسرات.. لا تضمأ أبداً، حتى يظُنُّ باكيها أنّها تمثيليةٌ فلسطينيةٌ حزينةٌ لأحدى المتسولات في باب العمود أو مصطبات وأروقة المسجد الأقصى. فتتراجع دموعي تحت وطأة شكٍ فلسفيٍّ.. أو الشك الأمني الذي ذوتناه في وجداننا قائلين لأنفسنا خُفيةً: "لا بد أنّه عميل.. لا بد أنّه "شاباك".. لا بد أنّها متسولةٌ كذّابةٌ أو تاجرةٌ ماهرةٌ… إلخ".. ولكنّ شكٌ إنسانيّ عميق، ما لبث أن أقنعني لعلها صادقة- وعلمها عند ربي-.. أو أنّه شكٌ برغماتيّ، دعاني للبكاء معها موسوساً لي، ينفث في أذنيَ: ويلك! ما من شيء تخسره يا هذا! بعد أن فاضت دموعُك.. خاصة أنّك استمتعتَ بالبكاء في لحظة إنسانية عابرة، وعاطفة ممتعة يحتاجها الإنسان من حين لآخر، فانتفع بها واستغلها علّها لا تعود أبداً!. وسوسةٌ ملخصها، أنّ حتى دموعَنا ومشاعرَنا وأحاسيسنا إن هي إلا منفعة شخصية، نحمّلها معانٍ إنسانيّة وأخلاقيّة وهميّة.
واصلت البكاء.. بين كرٍ وفرٍ.. فإمّا أنها تجيد فنّ البكاء والتحكم في ينابيع الدموع، كما الاحتلالُ، يتحكم في مياه وغاز ونفط غزة.. وتتقن توجيه مشاعرها وإحساسها كما الاعلام الموجه لتنتزع منّي موقفاً متضامناً، حتى تحقق غايّتها ثم ترميني مخدوعاً عارياً منسيّاً. وإمّا أنها فنانة حقاً، فَطَرَتها نكباتُها على تقمصِ شخصيةَ بطلِ مسرحيةٍ تراجيديةٍ، أمام جمهور مستسلمٍ لعمق أداءها الإنسانيّ، مُنغمسٍ في واقع مأساة بطلِهِ. لا يفرق جُمهورُها وضميرُه الحيُّ بين حقيقة البطلة ودورها.. بين ما خلفَ الكواليس وأمامها.
ولكنّ فن البكاء مهما ارتقى.. لا يمكنه خِداع أنانيتنا المعاصرة وشكوكنا العميقة.. فلا بد للمُمثل أنّ يعيش مأساته حتى يؤثر فينا.. كذلك هذه المرأة.. لا بد أنّها خرجت من عمق المأساة...
فكرةُ بددت لديّ شكوكاً.. وإن بقِيت آثارها
وليطمئن قلبي أكثر، انصت لحكمتها مرغماً منساباً مع اللحظة.. كأني مريدٌ بين يدي شيخه ...
حكمةُ الشعب وغباءُ الحكام
أردت بدايةً أن أُخفي دموعي عنها.. فرجولتي لا تسمح لي بالبكاء علناً.. ولكنني استسلمتُ لدموعٍ علّها تعزيها وتشاركها أحزانها وآهاتها.. فقد لاحظتْ عليّ بأنوثتها العذراء شهقاتٍ عميقةٍ، ودموع متضامنة، منعتني من تحريك المرآة فوق رأسي قاصداً رؤية وجهها الشاحب ودموعِها الجارية، ولكنّي استرقت السمع مراراً متتبعاً لهمسات دموعها وأنفاسها، معوضاً بذلك عجزي أو مهابتي من مشاهدة مسلمةً تبكي ظلمَ، وقسوةَ، وَجَلْدَ أولادِها لها… أو لاجئةً تتراكم عليها نكباتٌ فوق نكبات.. وهزيمةٌ فوق هزيمة، واحتلالٌ فوق احتلالٍ، وحاكمٌ فوق حاكمٍ، ومخيمٌ فوق مخيمٍ أو داخل مخيمٍ… أو إنسانةً تشكي ظلم الأهل والأقارب وأبناء الوطن، وكأنّ الشكوى سلاحُ الضعيف، فهذا ما يملكه أمام قساوة ِالواقع وتلبدِ الضمائر وجمودِ وجداننا الإنسانيّ.. أو لعله سلاح القوي.. حين يدرك أنّ عدل الله واقع لا محال في الدنيا قبل آخرتنا ..
ولعل سقراط [1] صدق حين نزل للشعب والعامة لدراسة الفلسفة.. فقد أدرك أن الحوار مع الناس وعامتهم يوصل للحقائق والمثل.. وقدِ ادّعى على لسان تلميذه أفلاطون: أنّ ابن الفقير دائماً ما يبحث عن العدل، فهو تجرع مرارةَ الفقرِ، والظلمِ، والاستغلالِ، وغيابَ العدل في أبسط صوره. لذلك فأبناء الفقراء، أي الجيل الثاني من الفقر، يسعى لإقامة نظامَ ودولةَ العدل. أمّا أبناء الأغنياء الذين تنعموا من ثروة الآباء، فقد تجرعوا مرارةَ الفراغِ والخواءِ واللا معنى، بعد أن رأوا آباءهم يعملون ليل نهار لجمع المال والتراب، ولكنّهم لا يتمتعون بالحياة، كما يستمتع أكثريةُ الناس حين يعملون القليل، ولكنهم يَحيّون بقدر من السعادة، يكفيهم للبقاء والفناء والضحك والبكاء.. وهذا الجيل الثاني من الأغنياء يتمرد على الآباء، يطلبوا الحرية من قيود الغنى واللامعنى.. فيسعون لإقامة نظام الحرية.. الحرية من العمل والفكر والمال والثروة والكماليات التي صادرت طبيعتهم.
ولعل المرأة بحكمتها الفطرية.. أدركت أن لا بقاء للظلم بشتى أنواعه.. أكان ظلمَ الفَقرِ أم ظلمَ الغنى… فقد روت لي السيدة قصةً، بعدما توقفت دموعُها وشهقاتُها، وكأنّها لحظةٌ، لا مكان للعواطف فيها والأحاسيس.. ولا للقلوب. إنّما لحظة يتجلى العقلُ فيها بأبهى صوره، وتنطق فيها حكمةُ الشعبِ بصفاءها البهيّ.. متجاوزةً تشدقَ فلسفيٌّ وأكاديميٌّ بنظريات الوجود، قائلةً لي بعباراتٍ عَجزتُ عن حفظها لفظاً، ولكنّها معنانٍ هزّت كياني، واستحقرت نظريتي المستعلية بهتاناً، فوق حكمة الشعب: ظن هؤلاء بغبائهم أنّ نِعَمَهُم أوصَلَفَهم أوظلمَهم أوزيفَهم، أزليٌّ كان، وأبديٌّ سيبقى.

قالت مقولتها بيقين.. عَجِزَ عنّه أولوا الألباب من الحكماء والفلاسفة... وكأنّها تؤمن أن لهذا العالم غايةً لا مفر منها.. ومنتهىً لا رادّ عنه.. وطريقاً لا سبيل عنه..ألا تحقيقُ العدلِ والعدالةِ عاجلاً أم آجلاً، لتدور الدائرةُ على جميع من قدّم وأخر في هذه الحياة... كبيرةً كانت أم صغيرة.

ما زلت أبكي وأنا أدون هذه الكلمات.. ما زلت أكتب وأنا أدون هذه الدموع.. وتأكدت أن عباراتٍ لا تغني، ولا تدنو للحظةِ حياةٍ حيّة.. فلن يبكي إلا من بكى.. أو بكى على بكاءٍ…
فإذا قتل إسرائيلُ وشردَ نفوساً وأناسيّ كثيرة أفلا نُحي نفساً واحدة. .ومنّا.. " ومن أحيّاها فكأنّما أحيّا الناس جميعاً" [2]

ألا نامت أعين الجبناء
" إنّ الذين كفروا لو أنّ لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم"

أسامة عباس
بيت المقدس
11-12-2009
[1] فيلسوف يونانيّ قُتل عام 399 قبل الميلاد على أثر محكامته في أثينا بتهمة "إفساد الشباب" أو الشعب.. فقد انتهج طريقة محاورة الناس في الشوارع والأسواق بتوجيه الأسئلة لهم كأنه لا يفقه شيئاً.. ولكن من خلال الحوار يتبين أنّه أذكى منهم وأعقل.. وهكذا يدرس الحكمة والفلسفة ويساعد الناس في التوصل للحقائق الفلسفية للوجود. الحقائق الأخلاقية والسياسية والفكرية التي أثارت عليه أصحاب السلطان والجاه والمصالح مما تسبب في قتله.
[2] المائدة: 32

الأربعاء، 9 ديسمبر 2009

بيان الحقيقة الآخرى

بيان

الحركة الإسلامية بين العهر والكذب

والحقيقة الآخرى
"… مشاهدينا المحترمين سلام الله عليكم. رفعت الأقلام وجفت الصحف وحصل ما في الصدور، هكذا يمكننا القول والتلميح إلى صراع الهوية والفكر والسياسة في تركيا ومن يحق أو لا يحق له أن يمارس السياسة والسلطة والحياة العامة. لقد انتهت اللعبة، الديمقراطية في تركيا انتصرت حتى الآن على الأقل، انتهت اللعبة، من يختاره الشعب هو القائد وليس من تسمح له محاكم التفتيش أو النابشون في قبور النوايا، انتهت اللعبة، الحداثة هي التحديث في الواقع بالواقع وليس بما كان واقعا قبل سنوات وعقود فتلك حداثة مغشوشة إن تجمدت عند شعارات بالية ولغة قديمة فليس اللباس مقياس الحداثة وليس الدين هو لا حداثة ولربما هو العكس، على الأقل تركيا اليوم نموذج ناطق، انتهت اللعبة، السيد عبد الله غول هو رئيس الجمهورية في تركيا ورئيس الدولة باعتداله وانفتاحه ومرونته وأيضا بثوابته وخياراتها وتاريخه، من كان يصدق ولا زال يصدق كثر وأكثر من لا يصدق بنكهة عناد وهم قلة وأقل، انتهت اللعبة. نحن مع الرئيس عبد الله غول في مكتبه الخاص بقصر شانكاياه في أنقرة لنقول له سيدي الرئيس انتهت اللعبة بمعنى أنكم أنهيتم زمن الإقصاء والعزل والتهميش فاسمحوا لنا أن نبدأ معكم لعبة إعلامية جميلة اسمها حوار صحفي فتركيا الآن باتت حديث الناس والعالم وخصوصا في منطقتنا العربية والإسلامية لتطوراتها ودورها ونشاطها وحركتها اللافتة، نريد أن نفهم سر الانطلاقة التركية المثيرة في الداخل ومع الخارج، وبعض المواقف من حال الأمة في العراق وفلسطين والقدس ومع سوريا وإيران وطبعا ماذا تريد تركيا أن تحققه تحديدا ولا ننسى أين هي أميركا وخصوصا ما يشار إليه أيضا من العلاقة المتوترة الجديدة بين تركيا وإسرائيل، مرحبا بكم سيدي الرئيس...."

هذه الكلمات افتتح فيها الصحفي الموهوب غسان بن جدو لقاءه مع مؤسس حزب العدالة والتنمية الإسلامي ورئيس الجمهورية التركية. وهي كلمات تلخص حصيلة التجربة التركية وصراعها بين الثنائيات التي فرضت علينا فرض. بين الديمقراطية والشورى، وبين العلمانية والإسلامية، وبين الهوية والحرية، وبين الإسلام والسياسة، وبين الأصالة والحداثة.
لقد حسمت تركيا أمرها..
إخترت عدم اعلان بيان للرد على البيانات.. فما من بيان آخر إلا ويزيد الطين بلة.. وما من بيان إلا ويتحرك على محور العهر-الكذب.. بين حقد عميق وكره دفين.. بين انتكاسٍ نحو الوثن والصنم وبين انغماسٍ في الشخص والقِدم.. بين نفسٍ مريضة وآخرى عجوزة.. وبقدر ما في الصدور فالحديث يطول.... وحين لا تتناهى المعاني تتناهى العبارات..
بل اخترت أن ألفت النظر إلى من يتفاعلون مع القضايا الكبرى ليحققوا الانجازات العظيمة! وحين تصغر العقول لا تنجز الأمور... فإليكم عناوين الأمور:
صراع الهوية والفكر هي المدخل!
قلت لقد حسمت تركيا أمرها..
لقد حسمت مسألة هويتها الحضارية والثقافية.. لقد عادت إلى أحضان الشرق المؤمن( نسأل الله أن يكون مؤمناً).. وما فعلت ذلك إلا بعد أن حسم قادتها أمرهم في السير نحو الانجازات العظيمة.. لقد حسم حزب العدالة والتنمية علاقاته الفكرية والتنظيمية مع الجيل القديم المؤسس.. لقد خرج من ثوب الشيخ ليلج عالم القائد.. من فكر الشخص إلى شخص الفكر.. من فكرة الشيخ إلى فكرة الفكر. هكذا تحررت الهوية التركية من عباءة الشيخ أربكان.. من اختزال الإسلام والسياسة في موروثات بالية وعلاقات شخصية، وهيبة وهميّة مخادعة. هذا الصراع بين انتماء لماض بالٍ ميت.. كما يصفها أستاذنا المرحوم "بالأفكار الميتة".. وبين انتماء لحاضرٍ واعٍ ومستقبلٍ مشرقٍ وهوية متجذرة في الفكر والعمق والواقع.. هذا الصراع بين واقع ميت وبين واقع حيّ..
لقد حسمت تركيا أمرها.. فاختارت الهوية والفكر لتدخل العالم والتاريخ كما خرج ويخرج منه آخرون
لقد انتهت اللعبة
لقد أنهت تركيا اللعبة وحسمتها في بداية الألفية الثالثة الميلادية... لقد حسمت أمرها وشاركت في اللعبة وبأدواتها وسلاحها الهوية والفكر.. بينما تسلح آخرون باللسان واللعاب! عندما اكتسح شيخهم قبلهم بأعوام البرلمان تركي.. لم يستحضر معه إلا اللسان ومنابر الغوغاء ... فما لبث أن تقهقر تحت ضربات العسكر وألقي في غيابات السياسة.. وإن كانت مجرد مداعبة.. بعكس مريديه المتمردين، الخارجين من عباءته، حين تعرضوا لأشد المؤامرات الأتاتوركية كراهية ومكراً .. ولكنّ سلاحهم بعكسه، سيوفهم المجردة من أغماد الفكر والهوية والسياسة!! وهنا الفارق يكمن.. وهنا حُسمت اللعبة... وانتهت
حسمت تركيا أمرها.. وحسمت اللعبة الكبرى.. وما زلنا نحن لاعبين صغار
النابشون في قبور النوايا
حسمت تركيا أمرها.. وقررت خروجها من عقدنا النفسية التي أثقلت كاهلنا منذ قرون.. قررت ان تطهر صفحتها من نفسية الحقد والشك والظن.. وتجلب نفسية المنتصر والواثق بقدراته في مواجهة المكر الأتاتوركي المتربص للحرية والإيمان والعمل والفكر والهوية والتقدم.. وفي مواجهة نفسية مثقلة بماضٍ مهترء ومهزوم ومنغلق وشخصيّ وأنانيّ، متلبسٍ بلباس التقوى والورع والكلمات... وفي أقرب مكاشفة صوفيّة مُسكرةٍ، ينفث سُمومَه المتجذرة في أعماق صدور.. اسودت من الغُلّ.. من شدة ما نبشت في قبور النوايا...
لقد حسمت تركيا أمرها.. وتركت النوايا لباريها.. ونبذت علاقاتها المهترءة مع الأعراب والعرب، والفرس والأرمن، والروس والكرد، والأذر والغرب... وبحثت عن عمقها النفسي .. عن عمقها الاستراتيجي.. عن عمقها التاريخي... عن دورها العميق.. منذ الفاتح وسليمان.. منذ البدء
الحداثة هي التحديث في الواقع بالواقع
حسم الترك أمرهم... لا حداثة بلا أصالة ولا أصالة بلا حداثة..
حسموا أمرهم وتركوا من خلفهم عقد الخوف من مواجهة الحداثة والتقدم والتطور والتنمية.. ولكنّهم أبداً لم يتنكروا لأصولهم العقدية في العدل والعدالة... هي أصالة متجذرة في هويتهم.. ألم يلقب سيدهم وخادمهم منذ قرون "بالقانونيّ" ؟! .. لقد تغنينا بسليمان وعدل عمر أكثر منهم وقبلهم بعد سلخهم قهراً عن هويتهم وعمقهم .. ولكنّهم استحضروهم من عمق التاريخ في فكرهم وهويتهم وسياستهم واستراتيجيتهم.. ونحن ما زلنا نغني ونرقص.. نغني على فقرنا ونرقص على جراحنا.. فقرنا الفكري وجراحنا النفسية.. وفي كل سهرة نسكر حتى الصباح.. ونعظ الناس حتى المساء.. فلا واقع بل خداع!! ولا إصلاح بل صراخ!! ولا بيان بل كلام !! ولا برهان بل غثيان !! ولا قرآن...
حسم شعب أردوغان أمرهم .. وزعيمهم "الفتى الشجاع"
("أر" تعني القوي أو الشجاع، و"دوغان" تعني الطفل).
فإذا كان طفل من حسم للترك أمرهم.. فأين قزم العُرب من فتى التُرك؟!
سرالانطلاقة
حَسْمُهُم أمرَهم.. بنبذ العهر والكذب.. بل حتى الكلام فيهما.. وما زلنا نحن نراقص اللسان !.
حسمهم أمرهم.. بنبذ صغائر الأمور.. بل حتى التفكير فيها.. وما زلنا نحن نتقن الغناء
حسمهم أمرهم.. بنبذ عفوية القادة .. بل حتى الحلم عنها..وما زلنا نحن لا ندرك التخطيط
حسمهم أمرهم.. بنبذ العقد الدفينة.. بل حتى الشعور فيها.. وما زلنا نحن نخبأ الكثير
حسموا أمرهم.. وما زلنا نحن لا نحسن التدبير... فحسبنا الله ونعم الوكيل
من وحي الواقع سطرت كلماتي:
أسامة عباس بيت المقدس
9-12-2009