الاثنين، 5 أكتوبر 2009

المقاومة والقيم :- بقلم أسامة عباس

حركات المقاومة الفلسطينيّة
بين قيم المقاومة ومعايير الديمقراطية
تحت وطأة الخداع السياسي والإعلامي يفقد المرء القدرة على تفكيك العلاقة المركبة بين القيم وبين آليات وأشكال تحقيق هذه القيم في الواقع الإنساني. وحين يعود المرء بتفكيره وتحليله لعمق إنسانيّته ووجوده، يدرك أنّ الفرق بينه وبين مخلوقات الله الزاحفة على بطونها أو كروشها أو عروشها، هو ميله الفطريّ نحو تكريس القيم وجعلها مطلقة فوق المزايدات السياسية والمصالح الحزبية. وقيم المقاومة، هي تلك القيم التي تتحدى الزمان والمكان، ولا ترضى الانخراط في لعبة صناديق الاقتراع والانتخابات وما يسمى بالديمقراطية.
إنّ قيم المقاومة اليوم تمر في منحى خطيرٍ من تاريخ القضية الفلسطينية.

فإن ادعيتُ سابقاً أن الهَويّة الفلسطينيّة لا تمثل لدي إلا هَويّة براغماتية فرضتها حالة الاستعمار وتداعياته السياسية والثقافية منذ عقود، فكان من الممكن أن تتشكل هوية مختلفة آخرى لأهل فلسطين في حال كان للاستعمار شكلاً ومضموناً ءاخرين. ولكنّ قيم المقاومة للاستعمار ثابتة لا تتغير في أي صورة تمظهرت هَويّة القوم فيها. ويمكن للقوم أن يحسموا مسألة هويتهم في صناديق الاقتراع.. أمّا أن يحسموا أمرهم حول قيم المقاومة وثقافة المقاومة بواسطة استفتاءٍ او انتخابات حسب معايير الديمقراطية فهذا أخطر ما يواجه أمّة أو شعب مقاوم مُستعمَر.
هل الإنتخابات المزمع تنظيمها في الأراضي الفلسطينية المحتلة (ما تسمى السلطة الفلسطينيّة) سوف تحسم نهائياً المعركة حول مستقبل قيم المقاومة؟! هل إن فوز حركة المقاومة حماس في الإنتخابات يعني هيمنة قيم المقاومة في صفوف الجماهير الفلسطينية؟ أم أن خسارتها وفوز فريق أوسلو والتسوية هو تصفية لقيم المقاومة وتثبيتٍ لطريق المفاوضات العبثية اللامتناهية؟! على أيّ خيارات يصوت الناخب الفلسطينيّ في الإنتخابات التشريعية المقبلة؟! هل على خيار المقاومة أم خيار التفاوض؟! أم الإثنين معاً؟!.
الفرق بين حركة المقاومة وقيم المقاومة
إنّ قيم المقاومة ليست شعارات تتغنى بها الحركات والتنظيمات، وتتزيّن بها في مهرجاناتها وخطابها السياسي . بل هي قيم تشكل عبأ وثِقلاً تُكلف هذه الحركات أثماناً باهضة، باستنفاذ مواردها البشرية والمادية والمعنوية، في طريق شائك تتداخل فيه الحياة والموت، والوجود والعدم، والبقاء والفناء، والنصر والهزيمة، والبناء والهدم. ولطبيعة هذه الطريق ومقاربتها لحياة الغيّب المُخِبِأِ لغاياتها وأهدافها وطرائقها، تتقدم القيّم وتتجاوز الواقع والسياق الذي يتحرك فيه المقاوم أو المفاوض. وتتعالى قيم المقاومة السامقة فوق الأفراد والتنظيمات، لتمحو سيرتهم إذا ما تخلفوا عنها، إمّا تواطأً وإمّا إفراطاً أو تخاذلاً. هكذا نجد في تاريخ الأمم أن المقاومات تتبدل شكلاً ومضموناً في حال انفصلت المقاومة عن قيم المقاومة وابتعدت عنها أو تنكرت لها.
فكيف إذاً نُخضع قيم المقاومة للعملية الانتخابية؟!؟!
نعم. لقد دخلت حركة حماس اللعبة السياسية والديمقراطية حين شاركت في الإنتخابات التشريعية. ولكنّ انتخابها وفوزها الكاسح جاء نتيجة تبنيّها قيم المقاومة، فقد أنتخبت بناءً على برنامجها الاصلاحي وشعارات التغيير وخط المقاومة. فهل إذا فشلت أو تراجعت.. تراجعت قيم المقاومة؟! وممّا لا شك فيه أنّ فريق التسوية الآن لا يحمل من المقاومة إلا قصصها التاريخية المُحنطة.. ولا يمت لقيم المقاومة بصلة. فكيف يحمل قيم المقاومة أو حتى صفتها وقد نسّق مع الاحتلال في كل مثقال ذرة صغيرة أو كبيرة. وسَحب الإقرار بجرائم الاحتلال في غزة من خلال تأجيل رفع تقرير غولدستون لهيئات الأمم المتحدة.. وذلك تنسيقاً جليّاً مع الاحتلال. وهذا التناقض لم تبلغه "حركات تحرر" في التاريخ الإنساني مثلما بلغته الحركة الفلسطينيّة.
الحاجة للمقاومة المستديمة
من الطبيعي أنّ الأمة المُستعمَرة تعود في كل مرحلة أو مفصل في تاريخها المقاوم بمراجعة ظروفها السياسية والميدانية. وهذه المراجعة ليس أكثر من تجديد قيم المقاومة الأصيلة فيها واعادتها كمرتكزات أساسية في ساحتها السياسية والاعلامية والثقافية. وضرورة هذه المراجعة تعود لأسباب وظروف موضوعية تمّر بها كافة حركات المقاومة والتحرر.. وبالذات حركة التحرر الفلسطينيّة في واقعها المعقد الآني:
- الانغماس في تفاصيل الصراع مع الاحتلال، والذي يُغيّب أصول الصراع وجذوره الأصلية. ومن المؤكد أن يقوم الاحتلال بدور إعلامي وسياسي لطمس أصول صراعه مع المُستعمَرين، لأنّه يعتقد أن التفاصيل الصغيرة، مثل الدعوة لوقف الاستيطان أو تجميده، أو تخفيف الحواجز المنتشرة في الضفة الغربية، أو تغيير مسار الجدار العنصري– تحيّد المقاومة عن أهدافها الأصلية، وهي كونها حركة تحرر تسعى لنسف الارتباط الأمني والاقتصادي والسياسي بين الإحتلال وجماهيرها. ومن الممكن أن يلعب طرف في حركة التحرر (سابقاً) دوراً مهماً في غمس المقاومة والقضية برمتها في سلة التفاصيل التي يعرضها الاحتلال ومن يقف وراءه بين الفينة اوالآخرى (مثل تسميات: خارطة الطريق، السلام الاقتصادي لنتنياهو أو خطة سلام فياض لإقامة الدولة أو جهود مبعوث السلام جورج ميتشل... ).
- الصراع الداخلي في حركة التحرر والمقاومة وتغليّب التناقضات العميقة في صفوفها. ويمكن أن يُرجَعَ الصراعُ الداخلي في حركات التحرر للارتباطات الخارجية والتحالفات السياسية مع قوى إقليمية ودولية. وهذه التحالفات أمر طبيعي ومبرر، لأنّ حركات المقاومة بحاجة للدعم والمدد بشتى أنواعه من مصادر خارجية عن الاحتلال بعد مصادرته كافة مقومات الفلسطينيّن وسلب مواردهم المادية والإنسانية. فطبيعة المقاومة هذه تتناقض وحالة السلطة (أو "الدولة") تحت الاحتلال، التي يكرسها فريق أوسلو وما بعد أوسلو. ويمكن أن يُرجعَ الصراعُ إلى منهج المقاومة ذاته بين صفوف حركات التحرر، وهذا أمرٌ يمكن تجاوزه إذا أجمعت المقاومة على قيم المقاومة الأساسية، وفعّلت داخلها آليات اتخاذ القرار المقاوم، وتبنت استراتيجيّة في حل النازعات والتناقضات الداخلية. وهذه الاستراتيجية لن تتحقق في الساحة الفلسطينيّة إلا إذا أعيد بناء منظمة التحرير الفلسطينيّة وفق آليات واضحة وشفافة، وعدم طمس القضية في سلطة وهميّة تقودها نخبة طورت فيما بينها وبين الاحتلال علاقات مركبة من المصالح الاقتصادية والأمنية والسياسية..
- اختلال التوازن بين قيم المقاومة ومصالح الناس اليومية: دائماً ما يهتم الإحتلال باللعب على وتر مصالح الناس المعيشية والحياتية لنسف قيم المقاومة وسحب البساط من تحت أقدام حركات التحرر. لأنّه يدرك أهميّة اصطفاف الجماهير حول قيم المقاومة وحركاتها. وكأنّه يحاول خداعنا وضعاف النفوس واقناعنا أنّ حال الناس كان أحسن تحت سياسته المباشرة، وكان الناس ينعمون بنعم الاحتلال الإقتصادية والمادية. والأخطر أن يُهيمنَ على حركات التحرر (سابقاً) خطاب الارتكاس للمصالح الاقتصادية اليومية، وكأن قضية التحرير الأصيلة اقتصادية، وعلة وجود حركات التحرر والمقاومة في توفير فرص عمل لجماهيرها. ورغم مأساة الحصار في غزة، إلا أنّ القضية ليست بقضية إنسانية، تُحل بفتح المعابر لإدخال الدواء والطعام والوقود. فلو كانت قضية غزة قضية إنسانية، لما تردد النظام المصري بفتح حدوده لحل القضية، فيكفي شعب مصر لتزويد أهل غزة بحاجياتهم الإنسانية.. ولكن مجرد شراكته الفاعلة في الحصار يشير لعمق القضية وحقيقتها السياسية المرتبطة جوهرياً بقيم المقاومة والتحرر مقابل ثقافة التفاوض العبثي.
- القفز من وضعية المقاومة ومنطقها إلى وضعية "الدولة" أو السلطة وارتهانها: يبدو للوهلة الأولى أنّ خطةٍ مثل خطة سلام فياض لإقامة الدولة الفلسطينة تعيد للقضية الفلسطينية مركزيتها وتستعيد أصول وأهداف المقاومة. فهل إقامة الدولة والاستقلال إلا الهدف الأخير والجوهري لحركات التحرر! نعم بالتأكيد، ولكن هل الغاء تقرير غولدستون إلا تكريساً للاحتلال وتعزيزاً لارتباط المصالح الاقتصادية والسياسية بين فريق التفاوض واسرائيل!. تقوم دولة ذات سيادة تحمل الارادة السياسية المستقلة بتبني موازنات بين مصالحها وبين استراتيجيّتها السياسية والثقافية، وهذا أمر طبيعي في حياة الدول. ولكن، أن تقوم حركة تحرر بموازنات تكرس حالة الاحتلال، فهذا قفز بقيم المقاومة من مرحلة التحرر لمرحلة الدولة، بل دويلة أمنيّة أو دويلة ظل لحالة الاحتلال، أهم دورٍ لها تزيين الاحتلال الإسرائيلي. وقد استفاض سلام فياض وفريقه بمبادرات السلام والتسوية التي تحاول قلب موازين الصراع بجعل الاحتلال مجرد طرفاً ثاني بيننا وبينه خلافات في قضايا سياسية واقتصادية.
حاجة القضية الفلسطينية للمقاومة المستديمة ضروريّة ليس فقط للحفاظ على وجود القضية، بل أيضاً لتحقيق استراتيجية التحرر وقيم المقاومة عاجلاً ام آجلاً. وقديماً قال ابن خلدون أنّ المغلوب عادة ما يميل للتطبع بعادات وقيم الغالب، وهنا تكمن أهمية قيم المقاومة في الحفاظ على الهَوية والحقوق والقضية من خلال تبني المقاومة المستديمة، التي تعيد للقيم مركزيتها ولأصول القضية حضورها: اللاجئين وحق العودة، والقدس وعروبتها، وفلسطين وتاريخها العربي الإسلامي، والنكبة وحقيقة الاستعمار الصهيوني وعداوته المتأصلة في أصل الصراع. لذلك فإنّ حسم مسألة قيم المقاومة في صناديق الاقتراع هي تصفية للقضية الفلسطينية وأصولها وتكريس لحالة الارتهان للاحتلال والتطبع فيه.
لن تُحرر صناديق الاقتراع والديمقراطية شعباً من الاحتلال.. ولم تكن قديماً ولن تكون حديثاً طريقاً للاستقلال وتكريساً لثقافة المقاومة. قيم المقاومة تتجاوز الحسم الديمقراطي، فهي قيم تنتمي لحالة التحرر المطلق من الهيمنة.. وليس لحالة الإختيار والموازنات السياسية والاقتصادية التي تفرضها وضعية الدولة أو منهج التفاوض وحل الصراعات. بل قيم المقاومة هي من تحسم الصراع وليست الديمقراطية أو التفاوض.
هل المقاومة الفلسطينيّة والجماهير الفلسطينيّة مدركة لضرورة تفعيل قيم المقاومة والتفريق بينها وبين آليات الحسم الديمقراطي في الانتخابات المقبلة.. إن وجدت!! سؤالٌ خطير

أسامة عباس
القدس 5 \ 10 \ 2009

هناك 3 تعليقات:

إسلام أطرش يقول...

صدقا ما قلت .. أحسنت صنعا

ونزيدك ان الانتخابات بين مسلم وكافر حرام قطعيا .. لعدة أسباب

وكذا الديموقراطية بدعة كفرية ..!!

للمزيد انظر مقالي :
http://sites.google.com/site/kelwa18/data/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%88%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D8%A9.doc?attredirects=0

ميساء أحمد يقول...

السلام عليكم

اختلال التوازن بين قيم المقاومة ومتطلبات الناس هو أكثر ما يجب ان نخشاه..ولا ندري الى اي درجة يمكن للفلسطيني العادي ان يتحدي هذا الاختلال ويكن واعيا له..!

مقال قيّم!

أهداف إسراء يقول...

لغة المقال متينة ودقيقة، ويبقى السّؤال الأكبر: أيمكن للقيم أن تنخرط في الحالة المقاوماتيّة فتشكّل معا نشاطا إنسانيّا فاعلا في وجه الاستعمار في شتّى صقاع الأرض؟
_____
نرجو ذلك
سررت بالعودة إلى "وسط"!