الأربعاء، 24 مارس 2010

خواطر من قدس الصراع

الوجه الآخر
الاحتلال والدكتاتور والمقاوم

إن سر الإحتلال العميق في أنّه يحبس الذات عن تحقيق غايتها في الوجود، وبكلمات أقل تعقيداً: يمنع الإنسان من تحقيق أهدافه في ظل حياة طبيعية فطرية. والإنسان في فطرته كائن يسعى دائماً للحرية.. أو قل هو حرٌ في مكنوناته العميقة ، وإلا لما كُلِّفَ من خالقه تعالى بالعبادة والاستخلاف وعمران الأرض، ولمكث هناك في جنة الخلد، حيث عبودية مطلقة، لا تتطلب عملاً ولا جزاءاً. ولكنّ نفسه البشرية أبت حتى هذه الحياة، فكانت الحكمة البالغة أن يقترن الجزاء بالعمل.. والحرية بالإنسان.. فهبط الإنسان إلى الأرض ليحقق حريّته في حياته الدنيا.. ليحقق ذاته ويُجزى بأعماله إمّا السعادة وإمّا الشقاء. بل كان للإنسان حريّته في الكفر بخالقه ومخالفة شرعه.
في القدس خطيئة
وإن كنّا من أولائك الذين لا يجعلون من الاحتلال إبليساً تُلقى عليه جميع سيئاتنا. ولكن، مِمّا لا شك فيه، أنّه منعنا ومنع أهلنا في مدينة القدس، من تحقيق ذاتهم بترتيب عالمهم الثقافي والاقتصادي والسياسي كما يشاءون وبحريتهم . أفلا تكفيه هذه خطيئة، كي تلقيه في نار جهنم مخلداً ؟!... فهو الفساد المقرون بالقتل في ذات الأية المكتوبة في حقهم على اللوح منذ الأزل: ".. أنّه من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل الناس جميعاً. ومن أحياها ...".
حين تقف أمام طالبٍ مقدسيٍّ عاجزٌ عن التعبير عن نفسه، تظن للوهلة الأولى، أنّ المسألة تعود لذات الطالب ومجموعة صفاتٍ نفسيةٍ وثقافيةٍ وتربويةٍ، تحبسه عن تحقيق ذاته، في التعبير والسلوك والدراسة والنشاط والعطاء. ولكن حين تنقلب المسألة لحالة اجتماعيّة ولظاهرةٍ منتشرةٍ، فلا يمكن لعاقلٍ بصيرٍ من اختزال المسألة في ظواهر فردية. بل منطق التشخيص الاجتماعي، يحتِّم علينا ارجاع الظاهرة للنظام الاجتماعي-الثقافي القائم، وهذا النظام يتجاوز الأشخاص من حيث المسؤولية، ويلتصق بالقوة السياسية (بأشكالها المتنوعة) التي فرضته على الأفراد والمجتمعات. فلا يمكن لعاقل أن يدعي أنّ الفرنسيين جميعهم يدركون حقيقة - أو حتى سمعوا- مقولة فيلسوفهم رينيه ديكارت:" أنا أفكر إذاً أنا موجود".. ولكن حين تَحُول المقولة ظاهرةً ثقافيةً واجتماعيةً، ندرك أنّ وراءها قوة سياسيّة ومنظومة ثقافيّة، أرادت من المقولة أنْ تُهيمن على واقع المجتمع وهويّته. وكذلك عندما يتحول الفشل الاجتماعي والثقافي لظاهرة مستديمة! لا يمكن لعاقل تبرأة الاحتلال... وهذا سر الاحتلال في مصادرة النجاح وفرص تحقيق الذات, بل تكريس الجهل وتنظيمه عبر المؤسسات التعليمية والثقافية.
فارتباط الاحتلال جوهرياً بالفشل والجهل والفقر الثقافي، والنفسي، والتعليمي، والأخلاقي .. بديهةً، هي أمُّ البديهيات في لغة المناطقة. وهي بديهة، ولكنّها لا تقلل من مسؤولية الفرد والمجتمع في تغيير واقعه والتخلص من قابليته للاحتلال وظواهره.. فلا الأمُّ عاجزةٌ عن تنشئة تربوية سليمة لأطفالها، ولا الأب عاجزٌ عن رسم مستقبل أطفاله، ولا الأبن عاجزٌ عن بر والديه.. ولا الرجل عاجزٌ عن كف ظلمه للمرأة.. ولا المرأة عاجزةٌٌ عن تحقيق ذاتها.. ولا الطبيب عاجزٌ عن معالجة أمراض مجتمعه، ولا الحرفيّ عاجزٌ عن اتقان حرفته، ولا التاجر عاجزٌ عن الميزان بالقسط، ولا القاضي عاجزٌ عن إقامة العدل، ولا الحكيم عاجزٌ عن نشر الفضيلة... ولا العبد الفقير عاجزٌ عن تعرية الاحتلال...
إذاً هي مسألة عجز الفرد من عدمه..! فالأب في المحصلة فرد.. وكذلك الطبيب.. وكذلك التاجر.. والأم.. والمرأة .. والقاضي.. والشيخ.. والخطيب.. و
من هذه المعادلة يولد المقاوم... من بين أمِّ البديهيات ومسؤولية المظلوم في التخلص من الظلم والفشل والفقر والجهل. من هذه المعادلة تولد المقاومة وثقافة المقاومة ونفسية المقاومة.. وتتجلى عراقة منبتها، وامتداد جذورها في الزمن، وعمق أصولها في النفس الإنسانية.. الباحثة عن حريّتها..
ماذا يريد الدكتاتور!؟
المقاوم عاطلٌ عن العمل؟!

كيف يُعقل طلب فعل الخير من المقاوم، وفي الوقت ذاته يعاني من فعل الخير.
بعد مرور أكثر من عام، غيّرت هذه الحرب العدوانية ونتائجها مفاهيماً تجذرت عبر سنوات الصراع الطويلة. فلا بد من الإشارة أنها الحرب الأولى التي يخوضها الفلسطينيون على أرض الصراع، على أرضهم التي أُحتل جزءٌ منها عام 1948 وأكمل احتلالها عام 1967. فقد سعت إسرائيل دائما،ً لاخراج المعركة خارج فلسطين، لتحقيق وتكريس وضعية استراتيجية متفوقة من الناحية الأمنية والعسكرية والنفسية والسياسية. فإلى ما قبل الحرب المذكورة ما زال المقاوم الفلسطيني يتحرك ضمن موازنات سياسيّة أقليميّة تحددها الدولة المستضيفة للمقاومة وحركات التحرر، فوجد نفسه يتفاعل مع المعطيات السياسيّة والأمنيّة التي تفرضها الدولة. ففي الأردن حدث التصادم بين المقاومة والدولة إلى أن وصل ذروته في أحداث أيلول الأسود عام 1970. وفي لبنان أُخرِجت المقاومةُ من المعادلة السياسيّة والأمنيّة أثناء وبعد الحرب الإسرائيليّة على لبنان والحرب الأهلية اللبنانية. وفي سوريا حُنِّطت المقاومة ضمن النظام الذي جمّد الجبهة مع إسرائيل منذ حرب 1973، ولم يطلق الرصاص إنّما التصريحات.
وتحت الاحتلال الإسرائيليّ لم يتح المجال واقعيّاً لبناء مقاومة مُنظمة. إلا عمليات عسكرية متفرقة، تنطلق من قرى ومدن فلسطينية تفتقر للاستراتيجية المُنظِمة، وهذا ما هيمن على الساحة الفلسطينية خلال وبعد الانتفاضة الثانية. ولكن تطور الأحداث الفلسطينية منذ انتخابات عام 2006 مروراً بالحسم العسكري لحركة حماس في قطاع غزة وسيطرتها الأمنيّة والسياسيّة على القطاع غيّر المعادلة الاستراتيجيّة بين المقاومة والاحتلال.
ورغم الألم جراء الاقتتال العسكري والاعلامي والسياسي الفلسطيني... فلا بد للتاريخ أن يأخذ مجراه، ولا بد للمقاومة أن تخط طريقها وسط التناقضات الداخليّة التي تحدثها ثقافة اللامقاومة والدكتاتورية والاحتلال، ويطلب من المقاومة الرضوخ لها وتأطير نفسها وفقها لتدخل نادي "الشرعية الدولية"!.
فكيف يعقل طلب فعل الخير من المقاوم! وفي ذات الوقت يعاني جراء فعله له!؟ فمن المنطق الفطري أنّ الانسان يعمل الخير لأنّه يتلذذ بتبعاته، أو لأنّه لذة ومتعةٌ في أصله وجوهره، وحين نريد تربية الطفل على فعل الخير، نرغبه فيه عن طريق محفزات الترغيب، مثل كلمة طيبة، أو مديح، أو هدية.. وإن أردنا أنْ نُكرِّهه في الشر فعن طريق الترهيب وعواقبه من زجر، وعقاب، وحبس تربوي. ولكنّ المقاوم يطلب منه شعبياً الثبات والمقاومة والصمود، وسلطوياً يعاقب بكل أساليب العقاب النفسيّ والإعلاميّ والسياسيّ والغذائيّ والاقتصاديّ والعسكريّ.
إذا المقاوم في وضعية لا تسمح له في الترفه والتفرغ لفعل المقاومة. بل هو مقاوم ويسعى لكسب رزق يومه وعائلته، فلا بد له من العمل.. لأنّه منتج في طبعه، ولا يميل إلى "مخصصات التأمين" والهبات الحكومية أو الدولية في إدارة شؤون حياته، فهو حرٌ في طبعه ومزاجه، ولا يرضى لنفسه فكراً وسلوكاً بتكريس الاحتلال ولا القابلية للاحتلال. والذي يتتبع نظام "مبارك" يدرك الفجوة السحيقة بين مقام المقاوم ومقام الدكتاتور.. فالأول يسعى لتحقيق ذاته، ويشعر أنّ هناك خلل في المعادلة بين واقعه وبين تطلعاته نحو حريّةٍ عميقةٍ، وانسجام تام مع إنسانيّته. أمّا الأخير، فقد رهن نفسه وشعبه للأمريكي، مقابل حفناتٍ بخيسةٍ من الدولارات، لا هي قدّمت شعبه اقتصاديّاً أو ثقافيّاً أو سياسياًّ، ولا هي عوضت المجهود الحربي-الذي اتخذه الدكتاتور مبررٍ له للخروج من معادلة الصراع التاريخية، مُكرسٍ بذلك لنفسية الهزيمة وثقافة التبعية السياسية والاقتصادية.
فلسطين: القضية التي تصنع العدالة في العالم

كما أنا الفرد يشعر غالباً بأنه محور العالم.. وأن العالم يدور من حوله وهو في المركز. فيمكن كذلك لشعب أو أمّة أن تشعر بل تعتقد بأنها مركز الكون. وهذا الشعور يمكن أن يفهم بطرق عدة منها: أنّ الفرد يشعر بعلو شأنه مقارنة بالآخرين، وتهيمن عليه عنصرية فوقية، كما شعر وآمن بها الفاشستي والنازي الألماني في أعماقه. أو أنّه يسعى ويدرك أنّه قادرٌ على وضع نفسه في قلب العالم، ورفع مكانته، ونزع دورٍ محوريٍّ في صنع الأحداث وصياغة واقعه والنظام والعالمي. ولا يمكن للثاني النجاح دون تذويت عدالة قضيته!.
والكراهيّة والعنصريّة، لا شك، تتنافى مع العدل والعدالة لقضيةٍ ما، وليس عبثاً أن تعتمد العنصريّةُ القوةََ في فرض سيادتها السياسيّة، وليس العدل كمنهج في تحقيق أهدافها وغاياتها. بناءً على كل هذا، غالباً ما يجتمع كل من المقاومة والعدالة في طرفٍ والقوة والعنصرية في طرفٍ مقابل. وهذا التشابك بين المفاهيم والتعقيد في الواقع، لا يظهر جليّاً، إلا في قضيّة عالميّة، ترتبط فيها معادلات دوليّة وأقليميّة ومحليّة، وهي قضيّة محوريّة ومصيريّة في النظام العالميّ. وإلا لِما لم تُحلّ حتى الآن رغم أسبقيتها مقارنة بقضايا آخرى؟! لماذا حُلّت أو صُفيّت باقي القضايا التي أثرت في النظام العالمي، وما زالت قضية فلسطين هي هي؟! الألزاس واللورين بين فرنسا وألمانيا، فيتنام، جدار برلين.. وغيرها كثير. فإذاً طبيعة القضيّة ارتبطت جوهريّاً بطبيعة النظام العالمي المُهيمن.. ولن تحل القضيّة إلا إذا تبدل هذا النظام، وطبيعته التي خلقت القضية الفلسطينيّة وكرستها بدون حل! فالنظام الذي أنتج القضية عاجزُ عن تفكيكها، بل لا يملك الإرادة لحلها، حتى وفق معايير العدالة الطبيعيّة والإنسانية.
ولأن النظام العالمي اجتمعت فيه محاور وقوى ثلاث: دكتاتوريّة، احتلالية ودوليّة. متمثلة بأنظمة عربية تريد للقضية الفلسطينيّة التصفية بأيّ شكلٍ من الأشكال، لأنّها قضيّة تأرق عروشهم، والإحتلال الذي أُنْتِجَ في ظل النظام العالمي ويستمد أنفاسه وشرعيته من أزدواجيّة معاييره الأخلاقيّة والسياسيّة، والدول العظمى التي أنتجت منظومة مصالحها حول القضيّة الفلسطينيّة ومحاور أقليميّة تلعب دوراً خطيراً في تكريس أو استغلال القضيّة. فإذاً هي قضية عالمية بكل المعايير، ومصيرها مرتبطُ بالمنظومة الدولية من القيم والأخلاق والمبادئ والمواقف والبرامج السياسية والاقتصادية والاستراتيجية والثقافية. لذلك المقاومة هي من مستوى القضيّة، ولن تفلح مقاومة إلا إذا ارتقت إلى مستوى القضيّة ذاتها.
وفي تعليقه على تقرير غولدستون، يقول مقرر الأمم المتحدة الخاص لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة ريتشارد فولك: " وفي الوقت الذي توجد فيه مقاربة تقول إن القوة هي التي ترسم مسار التاريخ, هناك مقاربة أخرى تقول إن مسار التاريخ يعتمد على المقاومة التحتية والقوى الشعبية المدفوعة بشعور العدل, وبكلمات أخرى، فإن البديل للحرب ليس السلام وإنما العدل." "وإني على قناعة تامة بأنه لن يكون بالإمكان معرفة قيمة وأهمية ما قدمه تقرير غولدستون من خدمات ومساهمات ما لم يتم التعرف على الجوانب والأوجه العديدة لهذا التقرير الذي شق عصا الطاعة ضد حصانة القوي، وآمل أن يتم الاعتراف بقيمة هذا التقرير ويلقى التقدير الذي يستحقه عبر الحوار وعبر مساهمته في دعم نضال الضعفاء والفلسطينيين بشكل خاص، ومن أجل تعزيز الثقة نظريا وعمليا في مفهوم عدم اللجوء إلى العنف."(الجزيرة نت)
فالفرق الجوهري بين القوة والمقاومة، وبين العنصرية والعدالة... هو الفرق بين العبودية والحرية وبين التخلف والتقدم وبين الدكتاتورية والديمقراطية...
أسامة عباس
24 \ 3 \ 2010

الثلاثاء، 9 مارس 2010

في ذكرى يوم المرأة العالمي
حيث تتناغم المرأة والصهيونية في قضية واحدة

كان نهار اختلطت فيه التعاسة الفكرية، والنشاط المهني والعملي. فلا أنا قادر على تصنيفه باليوم التعيس ولا باليوم السعيد، رغم إيمانٍ عميقٍ، أنّ الحياة ليست سلسلة متواصلة من المصادافت العشوائية، ولا ذرات متنافرة من الأحداث، ولا طريق يتخبطها اللامعنى. إنّما الحياة –في نظري- منظومة مُدبَرةٌ مُحكَمةٌ من القيم والأحداث، متشابكة متناغمة.. تلتقي فيها معانٍ غزيرة، وغايات عميقة، لا تتجلى إلا لإنسان أدرك غاية وجوده ومصيره، وانسجمت انسانيّته المتعثرة، مع وحي السماء المطلق المتعالي.

هي مجموعة أحداث ومواقف وأحوال يومية، يبدو عدم تناسقها بل نفورها للوهلة الأوى، فيحتار المرؤ في تصنيفها وترتيبها في سجله اليومي الحافل، بين ركام المهملات أم في سلة الإنجازات. بدأت أولاها، حين دخلتُ حرم الجامعة العبرية، وإذ بالزهور والورود الجميلة، تتناثر بين أيدي طلاب وطالبات كثر، لا فرق فيها بين يهوديٍّ وعربيٍّ، دينيٍّ وعلمانيٍّ، وطنيٍّ وأمميٍّ، فلسطينيٍّ وصهيونيٍّ، ذكرٍ وأنثى. جميعهم تناغمت مَشياتهم ونفسيّاتهم مع زهور، فاقعٌ لونها، تسُر حاملُها وناظرُها، بين صفراء وحمراء، وبين خضراء وزرقاء.. كلها تمثل هذا الطّيف السياسيِّ، ممتداً من أبناء البلد "يساراً فلسطينيّاًً" مروراً بالجبهة الديمقراطية يساراً إسرائيليّاً، حتى أقصى خارطة صهيون يميناً. كلهم جميعاً، حملوا بدون تنسيقٍ، زهورَ التضامن مع المرأة المضطهدة، المنكوبة، المسجونة، المكبلة في قيود الرجعية الرجولية. وطبعاً قُصِدَ الرجلُ المسلم الرجعيّ، وبالأخص ذلك الإسلاميّ الذي يُشرعِن للمرأة قيودَها وقبورَها.
طبعاً حُمِّلت أنا شخصياً مسؤولية اضطهاد المرأة، بما أمثل من قيّم ومواقف. ودار نقاش، بل سجالٌ عنيفٌ، أثرت فيه أمامهم، وبلونٍ من الهجومية اللطيفة، أنغماسَهم المستلب في مفهوم المساواة، وتغنيهم في رومانسية شعرية خَمريةٍ في المرأة. وطرحت مفهوماً آخر لمعالجة قضية المرأة في سياقها العربي الإسلامي.. وهو مفهوم "العدل" بما يحمله من معانٍ أعمق وأدق وأنجع من مفهوم مستورد غربياً، لا يتجاوز استعماله حساباتهم السياسيّة الضيقة، ورقصاتهم الاستعراضية على جرح حساس في جسد المجتمع العربي المسلم، لا يريدون إلا المتاجرة بآلامه وآماله، وإثارة غرائز رخيصة تتغذى على فتاتها طروحاتهم الفكرية والسياسية. ومن جهته تغنى بالاشتراكية - كأبنٍ لهذا البلد- كمخرجٍ لحَجْرِ المرأة، وجعلها "رأس مال" الرجل المسلم، سلعةً لا أكثر ولا أقل، تباع وتشترى وفق قوة الانتاج السوق. ولا أعلم ما علاقة الاشتراكية بقضية المرأة، لولا أنّ "للرجل" أجندة آخرى ما وراء- نَسوية. وكأني به يجعل من المرأة "سلعة اشتراكية" تنتج في مصانع مجتمع المساواة، ثم يتم توزيعها بين خِلّانِها وأصدقائها، دون رابطٍ شرعي "متخلفٍ"، ولكنّ تعدد الخلان سراً وعلناً بات من مقدساتهم واللا مفكر فيه عنده. وإن لم يقصد ذلك حرفاً، فكيف نُؤَول حقيقة شرعنة الزنى في فكرهم، ودعوة السفور، وتماهيهم في نموذج المرأة الغربية، وإيمانهم اللاواعي والواعي بحقيقة تفوق المرأة الغربية من حيث هي امرأة، وليس من حيث انجازاتها ودورها الايجابي في مجتمعها وثقافتها.
وعجباً كان الجبهاوي\ة وابن\ة البلد، يداً بيد، ينشروا الزهور في "الفوروم".. بشرى بتحرير المرأة ودفاعاً عنها. وعجباً من أبناء البلد، أنّ قضية المرأة هي التي دفعتهم للتحرك طلابيّاً بنشاطٍ في الجامعة منذ بداية العام الدراسي. فنعم المُحرِك هي!، ونعم القضية الشريفة هي! وبئس المدافع هو!.
والعجب كل العجب.. أن يجتمع حول قضية المرأة، والدفاع عنها، والتضامن معها، من أقصى اليسار الفلسطينيّ حتى أقصى(أو وسط، إنِ امتنعت عن المبالغة) اليمين الاسرائيلي. وبعد أنِ اتخذتُ مكاناً لي قصيّاً في "الحرم"، متحدثاً مع طالب عربيّ تربطنا به علاقة التلاقي السياسي وأكثر من ذلك، متأملاً مشهد الزهور والوجوه، قلت له بنبرة جديّة لا تخلوا من سخرية: " والله عجباً من قضية تلتقي فيها المرأة والصهيونية في صعيدٍ واحد"، فأخذ الشاب يسيطر عليه ضحك عميق، وكأنّه يوافقني الرأي، قائلاً لي: "هههه,, والله عندك مصطلحات وتركيبات غريبة"، ولعله فهم مرادي، ولكنّي أصررت أن أشرح له فكرة مقولتي: لو أنّ رفاق البلد وجبهتها التقدمية، وزعوا زهور التضامن مع أطفال غزة، هل ستشهد الساحة هذا الاقبال، منقطع النظير، من شتى ألوان الطّيف السياسيّ والوطنيّ والثقافيّ والإنسانيّ والصهيونيّ؟!. أمّ أنّها المرأة، هذا المخلوق العجيب، وحده القادر على جمع التناقضات، وتوحيد البشر من كنعان إلى صهيون. ولو أنّي أوافقه نظرياً بالعلاقة المتينة بين تحرير المرأة وتحرير الأرض، حيث أنّي مقتنع بذات المنهجيّة المعرفية والعقدية التي ستحرر الإثنين معاً، وهي بديهياً ليست "اشتراكية المرأة".
بعد اختلاط الضحك بالجد بيني وبينه. بدأت أقصُّ عليه الحدث التالي، من هذا اليوم التعيس: دخلت على بناية إدارة الجامعة قاصداً أمراً، وإذ بي أدخل على موظفة جالسة، تقرأ في كتيبٍ، لا يدرك الناظر ماهيّتَه ولا موضوعاته ولا أهميّته، فقلت لها بالعبرية اللطيفة، استعملها عادة لموظفات بلغن سن الهرم، بالاضافة لكونهنّ يعملن في مؤسسة "محترمة": שלום לך גברתי, אפשר שאלה קטנה?.. وإذ بها تشير لي بقبضة يدها وأصابعها مضمومة، تضرب بها هواء الغرفة صعوداً ونزولاً، تحاول اسكاتي بأحرفٍ هوائية مخرجها: שששש. وقفت مشدوهاً، قلت لنفسي: "يا ولد صلي على النبي وكف شرك".. بعد بضع عشرات من ثوان طويلة ألححت عليها: שאלה גברתי?!. فكررت هوائيتّها المزعجة وحركتها المتوترة بأكثر حدة: שששששש. في لحظتها كُظِمَ غيظي، وبدأت أعد الثواني دقائق، منتظراً، ولكن دون جدوى، وهي تقلب صفحات الكتيب تتراً، وتقلب أنفاسي معها بين شهيقٍ وزفيرٍ، حتى نطقتُ مستغرباً معترضاً على أسلوبها وقلة مهنيّتها: מה?! כול כך זה חשוב?!! فكررت غضبها الهوائي وحركتها الجنونية: שששששששש. ومضت ثوان آخرى طويلة، قررت فيها بالذات الاستمتاع للحال، فعادةً ما أستغل أحداثاً ومواقفاً غريبةً، في جلب المتعة النفسية والفكرية، محاولاً صناعة الحدث، لأجل ذاتي على الأقل. ولكنّها قطعت متعتي، بتصعيدٍ لحالتها الهستيرية قائلةً لي عند انتهائها الفجائي: מה?! אף פעם לא ראית אדם עושה ברכת מזון?! فوقفت مشدوهاً، من جانب أتفهم الأمر دينياً، ولكن الأمر يزعجني حين أذكر كونها موظفة في مؤسسة مُلزَمةٌ بالخدمات! تلزمني بعبوديتها المهترءة في وقت دوامها وعملها.. فرددت لها بنبرة فيها أسفٌ خفيٌّ ممزوجٌ بعتابٍ مُبطنٍ: כן גברתי, אני בחור ערבי, ולא שמתי לב שהחוברת שבידך אינה קשורה לתפקידך, אלא לדתך?!. فأجابتني بنبرةِ استعلائية المستعمِر: הגיע הזמן שתלמד משהו!. حينها تحررت الأعصاب وتعالت هرمونات المستَعمَر: גברתי! את חוצפנית, והתנהגותך מחפירה עוד יותר! ואת קשישה מטומטמת!. وحين سَمِعَتْ نبرةَ المستعمَر، نبرةً طالما زرعت في نفوسهم الخوف والارتباك، توجهتْ للهاتف بقصد أمن الجامعة تبث سمّها وكراهيّتها الدفينة: יש בו ערבי, ואני רוצה שתסלקו אותו מפה!.. حينها قررت بتحدي المناضل في أرضه، أن أصمد على أرضي في المكتب رافضاً الاقتلاع.. وقد كرَرَتْ ذات العبارة مرات بعد محاولات متكررة لمكالمة الأمن واستحضارهم.
وصل الأمن! وصل ضابط الأمن، طلب مني التعريف بهويتي وبدأت بسرد القصة له في تفاصيلها المزعجة.. بدا وكأنّه يؤمن لحديثي وهو يخرج من القلب، وتأكد ذلك عنده، حين رأها تغلق باب المكتب بقوة رافضة حتى الحديث للضابط ورواية روايتها الذاتية، مثبتة له انحراف سلوكها كموظفة وكامرأة وإنسانة، وكأنّها تعتبر نفسها فوق القانون وفوق أخلاقيات العمل على الأقل، وبالقرب منها على بعد أمتار رجالٌ يدافعون عن قضية المرأة. اشتكيت لعميد الطلبة وطلبت اعتذاراً رسمياً منها أمامي، وصعدت لمكتب رئيس الجامعة في ذات البناية وقسم العلاقات الخارجية المسؤول عنها مباشرة، وقدمت شكوتي، وتفاجئت من المسؤولة هناك، أنّها تتفهم روايتي، وتوافقني الشعور، ووتتضامن مع قضيتي، وتؤكد على إنّ تلك المرأة هي هي، هذه طبيعتها، وهذا سلوكها، وهذا ديدنها... عندها تعالت في ذهني تساؤلات عميقة حول عمل المرأة.. ومفهوم المساواة التي يتشدق به أصحابنا في البلد وجبهته.. وتجلى معنى مفهوم العدل في قضية المرأة وحقوقها وتحقيقها لذاتها:
- طبعاً المرأة هذه لا تمثل النساء جميعهم، وعملية التعميم على فئة مجتمعية هو خطأ منهجي وفكري يناقض مفهوم العدل الفردي والجماعي.
- ولكن التطبيق العملي للمساواة جلب هذه المرأة لهذا المنصب والوظيفة. ومنع من استبدالها بأفضل منها رجلاً كان أو امرأة.
- التطبيق العملي لمفهوم المساواة كرؤية للمجتمع، يحيّد معايير آخرى أكثر أهمية وأسبقية ليس فقط في مجال عمل المرأة، من بينها: الكفاءة، المعرفة، الأخلاقية المهنية، المعاملة الإنسانية والمهنية، والمهارات الحياتية، ومهارات الإتصال.. إلخ. بينما التطبيق العملي لمفهوم العدل يكرس هذه المعايير ويضعها في إطار يتجاوز الجندر الاجتماعي والعرف المهترء.
- المساواة هي تشويه كينونة المرأة من حيث هي امرأة، وتغيير طبيعتها المتفردة بها والمستخلصة لها تميزاً.. بينما العدل يحفظ لها هذا ويتعامل معها كامرأة من حيث انجازاتها وامكانيات تحقيقها لذاتها المُميَزة.

ولكن لا شك أنّ نهاري التعيس تبدل سعيداً، حين خُتِمَ في اجتماع لإدارة حركة الرسالة الطلابية، في اجتماعٍ للأخوة والأخوات يختاروا فيه لحركتهم رئيساً أو رئيسةً ونائباً أو نائبةً.. يحاولوا بفطرتهم الإنسانية، ورؤيتهم الإسلامية، تحقيق العدل الاجتماعي والتنظيميّ والسياسيّ بين الأخوة والأخوات، فُيفتح المجال للأخت –لا تكرماً ومنةً ولكن خياراً وقناعةً- كما للأخ، للترشح لمنصب رئيس حركة الرسالة الطلابية.. الحركة الإسلامية الطلابية الدعوية الأولى تاريخياً، والسباقة في العمل الطلابي في الجامعات الإسرائيلية.

هنا تتميز المرأة ... تتناغم قضيتها مع حقيقتها... ليس مع الصهيونية.. ولا الاشتراكية الجوفاء.. ولا المزايدات الرخيصة في سوق المرأة المبتذلة...
هنا الحياة منظومة مُدبَرةٌ مُحكَمةٌ من القيم والأحداث، متشابكة متناغمة.. تلتقي فيها معانٍ غزيرة، وغايات عميقة، لا تتجلى إلا لإنسان أدرك غاية وجوده ومصيره، وانسجمت انسانيّته المتعثرة، مع وحي السماء المطلق المتعالي.
بقلم: أسامة عباس
القدس 9 \ 3 \ 2010