الاثنين، 13 أكتوبر 2008

آن .. للعقل الأوروبي أن يستيقظ !!!

بقلم: أسامة عباس
حتى هذه اللحظة لم يقنعني أحدٌ بفكرة فصل الدين عن السياسة (أو ما تسمى علمانية الدولة) مهما بلغ هذا بالإبداع والعبقرية منزلة تضاهي المعلم الأول أرسطو أو ديكارت أو فلاسفة الحداثة بتقلباتهم المتعددة. وهل لعبقري ارتقى في مدارج العقلانية أن يدعوَ لفض ممارسة السياسة (التي تعني في جوهرها قيادة الجماهير نحو حياة أفضل) عن ممارسة الأخلاق والفضيلة والعدل في حياتنا الفردية والجماعية الخاصة والعامة. وهل هذه الدعوة الممنهجة سوى دعوة من يسعى لذاته بتبرير ممارسة سياسة تختزل في باطنها وظاهرها الفساد والجشع والظلم والإحتكار, إقتصادياً أو ثقافياً أو عسكرياً.
وإذا افترضنا أنّ فكرة الفصل والقطيعة هذه.. كانت ضرورة حتمية في مسيرة العقل الغربي والأوروبي خاصة، فمما لا ريب فيه، أن هذه القطيعة منحت للغرب فرصة التخلص من عصور الظلام والتخلف. وذلك لمسوغات اجتماعية وثقافية ودينية سادت في أوروبا قروناً مديدة، منذ أن اعتنق الأمبرطور الروماني الديانة المسيحية عام 313 بعد ميلاد السيد المسيح عليه السلام، وفرض دين الدولة على شعوب أوروبا والشرق. فالدين الجديد تشكل دون علاقة بنظام سياسي، والسياسة \ الدولة جاءت في هذا السياق لتستغل الدين وتستثمره في الهيمنة واحتكار القوة والمعرفة والإرادة. ولكنّ الإسلام بالمقابل أنشأ سياسة وثقافة واقتصاداً، فالأصل في التجربة الإسلامية هو الدين.. كفكرة مؤسسة للحياة. وهذا اختلاف جوهريٌُّ بين العقل الإسلامي والعقل الأوروبيّ. وكفانا هذا.. حتى ندرك عدم منطقية الفصل بين الدين والسياسة في العقلية الإسلامية، بل عبثية التفكير والانشغال وراء دعوة سرابية، لا تعبر إلا عن سنة التطبع بفكر وملبس ومشرب الغالب المُهيّمن (أبن خلدون-المقدمة)، بإرادة وقابلية المغلوب المستضعَف (مالك بن نبي-شروط النهضة).
هذه القطيعة المنهجية بين طبيعة العقليّن والتجربتين، دفع المسلمون الأوائل للإستفادة من علوم ومعارف أجنبية وخاصة الغربية مثل اليونان والأغريق. بل إنَّ المُطّلِع على تاريخ الفكر، يدرك دور المسلمين في الحفاظ على موروثات أرسطو وأفلاطون وغيرهم من فلاسفة وعلماء الغرب، والحقيقة أنهم أورثوا الغرب بعد ذلك دون تغييب واسقاط لتراثه. ولكنَّ الغرب من جهة آخرى، حين قدر الله له أن يدخل دورته الحضارية منذ عصر التنوير، انتزع لذاته من علوم ومعارف المسلمين بانتقائية خبيثة وغيّب أصولها الإسلامية. وإنَّ المتتبع لفلسفة الغرب وجذورها أو علوم الطب والرياضيات والفلك وسواها، يدرك دور العقل الإسلامي في بعث النهضة الأوروبي. وليس من الصعوبة تتبع فكر وعقل حجة الإسلام أبو حامد الغزالي (المتوفي 505 هجري (1111 ميلادي) او المعلم أبن رشد (المتوفى 595 هجري) في ايقاظ العقل الغربي من سباته العميق قروناً في عصور الظلام الوسطى.
كانت هذه مقدمة ضرورية، لا بد منها، كي نخوض في سؤالنا-عنواننا في هذه الأيام المصيرية من مستقبل الرأسمالية والليبرالية الغربية، في ظل الأزمة الاقتصادية وانهيار المؤسسات المالية العملاقة في الولايات المتحدة وأوروبا. ولا يخفى على أحدٍ، أنّ هذه المسألة والخوض فيها كانت من المحرمات في الخطاب الغربي الداخلي، فقد اطمئن علماء الاقتصاد ودعاة الرأسمالية المتوحشة وليبرالية السوق المفتوح، لفكرة نهاية التاريخ المفضية إلى انتصار النظام الاقتصادي الرأسمالي.. ومن ثمَّ العقل الديمقراطي الغربي. فكان مجرد ظهور شخص يطالب من على وسائل الاعلام بتخفيف حدةِ المنظومة الرأسمالية ووحشيتها المتمثلة في الاستقطاب المالي- كان هذا الخطاب يثير سخرية وتهكم "مشايخ الرأسمال الليبرالي" ويُتَهَمُ بالرجعية والتخلف والدعوة لأفكار بالية أكل الدهر عليها وشرب. وهي ليست مطالب ثورية تسعى لاسترجاع المنظومات الاشتراكية أو شيوعية، فكيف إذا كانت دعوة لتبني الاقتصاد الإسلامي كمشروع بديل.
هذه العنجهية والاستكبار انقلبت على أدبارها في خطاب الرئيس الأمريكي، حين أعلن عن تدخل الدولة في النظام المالي وتخصيصها لميزانية (من دافع الضرائب الأمريكي) لإنقاذ الإقتصاد والمؤسسات المالية من الانهيار التام، مع العلم أنّ مجرد تدخل الدولة في السوق الاقتصادي ينقض الفكر الرأسمالي القائم على عقيدة التوازن والانسجام في منظومة السوق الحر, بحيث إن تُرك السوقُ دون تدخل الدولة وأُطلِقت الحرية الاقتصادية فسوف يوازن السوق نفسه بنفسه. وإذ بالدولة ليس فقط تقدم المساعدات المالية بل تبادر لتأميم المؤسسات نقيض خصخصة السوق أهم ركائز الرأسمالية الليبرالية.
واللافت للنظر كيف أنّ هذا السوق الليبرالي المُعَولم، أبى إلا أن يشترك في حصار غزة الظالم، بل أن يكون أقسى أنواع الحصار وحشية. فعلى مدار أشهر طويلة لم تصل حرية السوق والتجارة لقطاع غزة. وهذه قطيعة لم يحدثها نظامٌ سياسيٌّ استعماري بهذه الصورة البشعة على مدار التاريخ الانساني.. قطيعة بين السياسة والاقتصاد من جهة وبين الأخلاق والعدل من جهة آخرى. وهي قطيعة سهلة على النفس البشرية وعلى مؤسسات المال العملاقة، لأنها تطلق لغرائز الانسان -وأخلاقيات الشركات- العنانَ وتحرره من كرامته وفضيلته وانسانيته. . مع أنّ القطيعة كان من الواجب أن يُحدِثها العقلُ الغربي( والإنساني بشكل عام) بين السياسة والاقتصاد.. فهذا الأمر الطبيعي نحو حياة إنسانية أفضل، فلا يخفى علينا نماذجَ تَحكُم السياسة في الاقتصاد أو تحكم الاقتصاد في السياسة.. جدلية لا تكرس إلا الظلم والاحتكار والفقر، ويكون "دولة بين الأغنياء".
ولم أذكر في العنوان استيقاظ العقل الغربي عامة.. بل الأوروبي خاصة. فالعقل الأمريكي السائد الآن.. أسس على مجتمع المهاجرين، عاجزٌ عن استرجاع أصوله الممتدة منذ اليونان والأغريق والرومان.. وهو لا يستشعر كما العقل الأوروبي حقيقة الوصل والوصال بينه وبين العقل الإسلامي الذي انقذه قبل قرون من ظلماته، واليوم يمد له يد العناية الألهية لوصل العقل بالإيمان ووصل المعرفة بالفضيلة ووصل السياسة بالأخلاق ووصل الاقتصاد بالعدل.. بعد قطيعة تجلت وحشيتها وخطورتها على حضارة الغرب.. وتجلياتها المستمرة في الأزمة الحالية.. بعد أن انتقوا من حضارة الإسلام علومَها ومعارفَها وتركوا أصولَها المؤسِسة.. فإن ربحت الحضارة الغربية فرصة جديدة للمراجعة والاستيقاظ.. فإنها مما لاشك فيه تكون الأخيرة في دورته الحضارية والسؤال: متى؟ غيبيّ خارج نطاق العقلي. ولكن الأفكار دون الأشخاص والنظم تأخذ مداها قبل التهافت. فالتجارب علّمتنا أنه عندما تدخل "حرية السوق الرأسمالي" في الأزمات.. فإن ديمقراطية الغرب السياسية تفتعل الحروب وتكشف عن أنيابها الحضارية.. مما يعرض إيران للاعتداء السافر المحتمل.. محاولة لتجديد السوق وتنشيطه...
وإنّ عقلاً استباح كل المحرمات الحضارية.. وسخر له الدينُ متمثلاً في مرجعيته التاريخية هذه الفتوى : "נראה כי הן במישור הלאומי והן במישור הבין-לאומי השוק החופשי הינו האמצעי האפקטיבי ביותר להשקעת משאבים ולספוק חסרים ורצונות " (איגרת אפיפיורית(1991) وإنّ عقلاً هيّمنت عليه فلسفة نسبية الأخلاق والفضيلة والعدل : " עוד לא נמצאה חוקיות, אשר תגדיר עבור כל מקרה ומקרה, מה הוא 'צדק חברתי'." (פרידריך האייק, 1976).. لهو عقل في أمس الحاجة لهزة غيّبيّة عنيفة يمكنها أن تعيد إليه صوابه ورشده وإنسانيته.. أو تفنيه عن الوجود.. أو أنّه يستيقظ بإرادته ليعدِّل مساره نحو الخلود الكوني.
والله من وراء القصد
القدس 13 أكتوبر 2008