الخميس، 27 نوفمبر 2008

قول في الحرية والسعادة وما بينهما

بقلم: أسامة عباس
أو.. حتى يصير الجانب الروحاني واقعاً إجتماعياً !!

إنَّ أشد ما ابتليت به الإنسانية في العصر الحديث وبالأخص بعد هيمنة المادية الغربية على الحياة بكل تفصيلاتها وكلياتها.. هي القطيعة المعنوية والواقعية بين الروح والمادة.. بين المعاني الإنسانية لآدم وبين وظيفته كخليفة في الأرض...
فلم يلبث جون بول سارتر[1] أكثر من نصف قرن بعد اعلان الفيلسوف الألماني نيتشة عن "موت الآلهة".. إلا وقد نطقها- وكأن يد التاريخ الخفية تخط صيرورة هذا الإنسان- معلناً عن "موت الإنسان". هذه العلاقة الحتمية بين الألهة والإنسان في الخط الفلسفي أو في الحياة إطلاقاً.. يدفعنا بدون تردد لربط الحرية بالسعادة.. ولكن يمكن تعقل هذه العلاقة في سياقها الغربي الأوروبي!! ويمكن تفهم ما الذي أوصلها لهذه الصيغة الفلسفية والحياتية دون غيرها!! وبالمقابل ما السعادة وما الحرية وما بينهما في وجودنا وسياقنا الإسلامي؟!!

عندما صرخ نيتشة بموت الإله.. لم يصرخ من فراغ! بل جاءت صرخته بعد قرون من الصمت الغربي تحت هيمنة الكنيسة على الإنسان ومقوماته وكرامته الفطرية. فقد مثلت الكنيسة -كما آمن بذلك ءاباء الكنيسة أنفسهم- عبر العصور، سلطة الله على الأرض.. وكان البابا ظل الله على الأرض، فهو الحكم الفصل في تحديد إرادة الله في الاجتماع والسياسة والاقتصاد والحرب والسلم. فالحروب الصليبية -كما أطلق عليها قادة الكنيسة- هي إرادة الله في تحرير الأرض المقدسة وتطهير العالم من الكفار والمرتدين. ومن بعدها محاكم التفتيش عبرت عن تطهير الكنيسة والمسيحية وأوروبا الكنسية من المشعوذين والفسقة والكفار من يهود ومسلمين ومسيحين... فقد كانت الكنيسة رمزاً للإله الظالم والمستبد والمتخلف والظلامي والجاهل ... وأسماءه وصفاته السيئة.
وحين سنحت الفرصة للعقل والروح الغربية التحرر من هذا الإله.. لم يتردد في إعلان وفاته بل صلبه ثم قتله.. وحمله في جنازة مهيبة تابوتها عقلانية مُنتقِمة، انتظرت قروناً عديدة تكفين جسدٍ مريض حبسها في ظلمات من فوقها ظلمات. هكذا في سياق تاريخي وسناريو تراجيدي انطوت صفحة الروح والمعاني في حضارة الغرب ليحل مكانها العقل بتجلياته "العقلانية".. معبراً عن حضور المادية وهيمنتها على الفكر والعلم والمنطق. فلم تكن نتيجة هذه الهيمنة إلا موت الإنسان .. الإنسان المعنى والروح.
إنّ الإشكالية وقعت عندما استطاع إنسان اللامعنى أن يستحدث حضارة متقدمة علمياً وتقنياً، وقد ابتدع فنوناً جمالية ومعارف إنسانية في النفس والاجتماع والكون، اجتمعت جميعها لتشكل أسلوبَ حياةٍ بديلٍ للغرب المتخلف قروناً طويلة. في هذه اللحظة التاريخية، وقف المسلم حائراً ينظر لذاته المتخلفة تارةً .. ويتطلع للغربي المتقدم تارةً آخرى، يكبله ماضٍ ذهبي.. ويشده حاضرٌ تعيسٌ.. في ازدواجية نفسية وثقافية تسري به روح سماوية قروناً.. ومادة ترابية تأكل من جسده حالياً.
هذه الازدواجية بين حرية الروح وجبرية المادة والواقع، دفعت المسلم للتعلق بحضارة الغرب، والتسول على باب فلسفاتها.. فحين انكشف[2] على مفاهيم الغرب كالحرية والعقلانية والتقدم والحداثة وغيرها.. استحوذت عليه وسلبته من روحه الأصيلة مبررة ذلك بواقعه المستحيل إنسانياً. ولو أنه كان سعيداً بواقعه ما اصتدم مع ذاته وروحه.. وما اختار أن يشريها[3] ابتغاء سعادة وهمية.. وعد نفسه أو وعدوه بتحقيقها إذا تبنى حرية الغرب بكلياتها العقلانية والحداثية وما بعد حداثية.
السعادة بالنسبة لي هي انسجام بين الروح والمادة، بين الذات والواقع.. بين حقيقة الآخرة والحياة الدنيا.. ولا ريب أنها أسلوب حياة في التفكير والسلوك وما بينهما… ولكن الأمر ليس نظرياً في كتاب مبين.. فعليَّ كمسلم أنّ أبدل جانبي الروحاني لواقع اجتماعي.. كي يبرر هذا الواقع الحقيقة القرآنية وصلاحيّتها.. أمّا إذا تمسكت بها بوضعها في صندوق مجوهرات وأحكم اغلاقه.. فحتماً سأخلع عني روحي الأصيلة موليَّاً قبلتي نحو سرابٍ خادع وشطر غربٍ غارقٍ.. لا يزيدني إلا شقاءاً وخلوداً في جبرية واقعية.. لا تحقق لي معاني الخلافة الذاتية والجماعية.
معاني الخلافة هي معاني السعادة والحرية.. ولكن من يكتشف هذه المعاني!؟! .. ومن يستشعرها!؟!
[1] فيلسوف وروائي مسرحي فرنسي (1905-1980) .. برز كأحد أكبر القلاسفة الوجوديين المعاصرين (الفلسفة الوجودية).
[2] متى انكشف المسلم على حضارة الغرب؟ سؤال عميق وكبير.. ولكن على الأقل يبدأ بعض المؤرخين بالحملة الفرنسية على مصر.
[3] يبيعها حسب التعبير القرآني.

الخميس، 20 نوفمبر 2008

إشكالية الفكر والسلوك في الحركة الإسلامية

خاطرة على أثر اجتماع لحركة طلابية إسلامية
كان فصل المقال ثقيلاً.. كما أنّ ناشئة الليل أشد وطئاً وأقوم قيلا.. تجلت حكمته سبحانه، وتقدس كلامه العلوي.. فوضعت جهازي على طاولة المصحف الخشبية.. وكأني أقرأ كتابه المسطور في آفاق خلقه المفطور.. فأسطر فيه كلماتي الثقيلة .. وأحفر في قلبي جروحاً عميقة.. وفي عقلي معانٍ أبدية.. وأمامي من على الشرفة ثلة من السكارى العرب في "قرية" الطلاب الغربية[1]… وفي خيالي أبناء حركتي الحيارى في "حارتنا" الإسلامية!! فوجدت نفسي أمام وجهتين كلتاهما هلاك للإنسانية.. هلاكٌ للخُلُقِ جنوبية وهلاك للفكر شمالية… فدعوت ربي هدايتي الربانية.. فهل من منقذ للبشرية.. في هذه الأزمة العقائدية حتى المالية!!
لقد بلغت تجربتي في ظل الحركة الإسلامية في البلاد لقناعة راسخة- وخاصة من خلال مسيرتي الحركية في العمل الإسلامي في الجامعة العبرية- خلاصتها أنّ الحركات الإسلامية تنقسم بمجملها إلى نوعين: الأولى تقود المسلمين وبالأخص أبنائها وتابعيها إلى حالة من التردي الأخلاقي، بعيداً عن مبادئها وقيمها التي أسست على ضوءها، وتسعى لتحقيقها في واقع المسلمين المعاصر. أمّا الآخرى ، فتقود المسلمين وبالأخص أبنائها وتابعيها لحالة من النكوص الفكري، بعد أن اكتسبت علة وجودها كي تُخرِج الواقع الإسلامي من شح الاجتهاد، والتخلف الفكري المستعصي منذ قرون. وهذه القناعة تكرست في تجربتي من خلال اطلاعي على الحركات والتيارات الإسلامية، على مستوى العالم العربي الإسلامي. فما الحالة الإسلامية في الجامعة العبرية إلا أنموذج مختزل لهذا الحال الممتد من طنجة إلى جاكرتا.. فإذا استحالت الخلافة في الجامعة .. استحالت بلا ريب حيث كان!!

ولكننا هنا لن نناقش الخلافة وإشكالياتها الحركية.. إنّما سنخص بالذكر نمطين الأول في التفكير وآخر في السلوك الحركي! لأنهما أساس الخلافة ومقدماتها! ولن تتحقق الخلافة واقعاً إلا إذا أسس لها فكرياً وسلوكياً. وسنبين الواجب الملقى على شباب هذه الأمة كي يتجاوزوا النمطين، علّنَا نخرج من مرحلة الترهل والإفلاس الحركي.

لقد ظهرت دعاوى الإصلاح الإسلامي والمتمثل في عدد من العلماء قبل سقوط الخلافة العثمانية في الربع الأول من القرن العشرين.. مما ينقض مقولة أنّ وجود الفساد –الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي- أو عدمه يتعلق بمجرد حضور الخلافة. ولكن مما لا شك فيه، أنّ اعلان نهاية الخلافة يشكل منعطفاً خطيراً في عقيدة وثقافة وشعور المسلمين وبالأخص القادة المؤسسين لفكرة الحركات الإسلامية. لذلك نجد أنّ أهداف وغايات الحركات الإسلامية تتمحور في أمرين فكرياً وسلوكياً: استرجاع وإحياء الفكر الإسلامي بين المسلمين، بعد قرون من الجمود والتخلف الفكري الاجتهادي. من ثم إحياء السلوك الأخلاقي والاجتماعي والسياسي المبني على الفكر الإسلامي. وهذا المزج بين الجانب الفكري والسلوكي ما يطبع هذا التيار الحركي بصفة الشمولية، فإذا اختل جانب من الجانبين فقدت الحركة مصداقيّتها وفشلت في تحقيق غاياتها وبرامجها.

بناءاً على هذا التناسق والانسجام بين الفكر والسلوك، فما من إشكالية أو أزمة تواجه الحركة إلا وارجعت لأحد طرفيّ المعادلة أو كلاهما. فإذا بحثنا في الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني منذ تأسيسها مروراً في فتنة الانشقاق ومتعلقاتها وحاضر الحركتين الإسلاميتين، لوجدنا أنّ المشكلة مشكلة حضارة كما وسمها مالك بن نبي رحمه الله: أفكار ميتة استباحت الفكر وأفكار مُميتة استباحت السلوك. ولن أعطي الأمثلة الكثيرة المنتشرة من النقب حتى الجليل ومن المثلث حتى الساحل.. ولكننا نشير لنماذج حتى لا نشخص الإشكالية فتضيع الفكرة والغاية تحت وطئة تقديس وعصمة الشيخ أو الحركة أو الصنم.
هلاك السلوك!!!
حين يبدأ الشيخ المؤسس العمل ضد مصالح حركته في بلد الشهداء كفر قاسم.. وحين ينغمس في العائلية التي حاربها أو أعلن محاربتها من صفوف الحركة الإسلامية، حتى دعاه الأمر كما علمت من مصادر حركية أنه غير اسم عائلته إلى"درويش" .. وقد علمنا أن الشيخ لا ينقصه عقلاً راجحاً ولا فكراً مستنيراً، إنّما يشهد له العدو والصديق والذين انشقوا عنه أنّه يحمل علماً غزيراً.. إذاً.. فما دهى الشيخ المؤسس؟!! وهذا نموذج يعكس السلوك الحركي الذي انطبعت به حركته المباركة.. حتى سمحت لنفسها أن تحتضن الشيخ سنوات طويلة رغم انحرفاته الحركية واستباحته للمنطق الحركي. وهذا سلوك غير أخلاقي يسمح للحركة أن تخرج إبناً لها بالأمس انتخبته لتمثيلها في الكنيست، واليوم تتبرأ منه .. فكم بالحريّ أن تطرد المؤسس الذي انغمس حتى أنفه بأخلاقيات المنفعة الشخصية والعائلية والسياسية. هذا التسيب الأخلاقي في منطق الحركة وسلوكها، ما أتاح لأبنائها المخلصين للتخلي عنها وتركها للذئاب لتنهش من أموالها ومقدراتها.. هكذا طبعت الحركة بسوء الخلق والسلوك.. وقد علمنا أن حسن الخلق والسلوك طرف من مقومات وجودها.
هلاك الفكر!!!
نعترف مسبقاً أن البحث في نمط التفكير يشكل تحدي من نوع آخر. فبعكس دراسة سلوك الحركة فإن التفكير الحركي يحتاج لسبر غور العقل الحركي ومتابعته في السر والعلن وفي الليل والنهار.. وهو يحتاج لاختراق كثافة الفعاليات والبرامج والمهرجانات وتسليط الضوء على نمط وأسلوب التفكير. وهذه الإشكالية إذا انطبعت بها الحركة كانت أخطر من الانحراف السلوكي. فالأخير ظاهر للعيان لا يحتاج لتبيان، ويلاحظه أي متابع لمسيرة الحركة الإسلامية.. وقد تتدارك الحركة امرها وتصلح ذاتها بذاتها أو يستبدلها ربها بقوم آخرين. أما الإشكالية الفكرية المتمثلة في شح التفكير المنطقي والبرهاني واستبداله بنمطق البيان الخطابي السطحي.. فهي إشكالية عميقة تُحفظ في دهاليز الحركة لا تخرج للنور ولا تتكشف للمسلمين إلا بعد فوات الآوان..

أمّا نوذجها الغير مشخص!!
في أحدى المحاضرات للشيخ أمام جموع طلاب الجامعات، تحدث عن صخرة تسقط من السماء على الولايات المتحدة لتغرقها في المحيط.. وقد مرت أعوام كثيرة ولم تصل هذه الصخرة إلى الأرض.. وأعترف حينها أني قلقت على أخ لنا سافر لدراسة الاقتصاد في نيويورك. ومؤخراً، إنّما غرقت الولايات المتحدة في أزمة مالية من داخلها بدون خرق للعادات وبدون معجزات..وكأن الله سبحانه وتعالى بحاجة لخرق سننه ونواميسه حتى يعاقب عباده الطاغين. وهذا التفكير الغير منطقي والمبني على خطابات بيانية أساسه شح الفكر.. يخترق صفوف الحركة وإن تعددت صوره وأشكاله ومواضيعه. ولأن الاعلام لا يترقب تصريحات الشيخ ولا يتناولها بالتحليل فإن نمط التفكير يكرس نفسه في عقول وأذهان أبناء الحركة دون رقيب أو حسيب.

إنّ هلاك الفكر في هذه الحركة يتمثل في عجزها عن إدارة الحوار مع الذات ومع الآخر.. وإدارة الحوار يعني هنا: آلية التفكير وبنية الفكر. والإشكالية ليست وجود آلية وبنية أو عدمه؟! فما من جماعة تنظيمية أو فكرية إلا بنت لنفسها أو تبنت شكل من أشكال الحوار !! إنّما.. أيّ نوع من آلية التفكير وبنية الفكر تنميها هذه الحركة؟! وهل تكرس اللامنطق واللامفكر فيه حركياً وفكرياً؟! وعندما تنحرف الحركة فكرياً .. نسمع من قادتها و"مفكريها" امكانية التحالف مع قوى علمانية بل عدوانية لذات الفكر والحركة.. بالأمس حاربتها وإلى اليوم تعاديها خطابياً.. ولكنهم يصَّرِحون في امكانية تقاطع المصالح في المدن والقرى العربية. ولكن من الجهة الآخرى، ترفض رفضاً قاطعا التحالف مع حركة إسلامية آخرى خرجت من مشكاة واحدة.. بل رفضت الحوار معها أعواماً كثيرة بعد الانشقاق. فأحلت الحوار وحرمته بناءاً على إشكالياتها الفكرية.
إنّ تفكيك السلوك الحركي يحتاج للاعلام أما تفكيك الفكر الحركي فيحتاج للحكمة (أنظر الفرق بين الفلسفة والحكمة)[2]، فإذا اجتمعت الحكمة بالاعلام لدى المسلمين عامة، واجتمع الوعي الإعلامي وحكمة الوعي لدى أبناء الحركة الإسلامية لتجاوزت الحركة إشكالياتها الفكرية والسلوكية.. وحققت إصلاحاتها الداخلية العميقة المطلوبة في هذه المرحلة من تاريخها الممتد، منذ انهيار الخلافة حتى انهيار تجاربها المختلفة في الجزائر والسودان وافغانستان والعراق وسوريا... وحتى أزماتها الداخلية في مصر وفلسطين والأردن وباكستان... وحتى تنوعاتها المتناقضة في إيران وتركيا ولبنان وماليزيا.
هذا التجاوز لن يقوم به مشايخ الطريقة القديمة وأتباعهم وورثتهم.. ولا منطق الفكر الميت ولا منطق السلوك المُميت... على شباب الحركة الواعي والمدرك لإشكالياتها الفكرية والسلوكية أن يجتمعوا معاً.. ولو تطلب الأمر تأسيس حركة ثالثة في الداخل الفلسطيني، تتجاوز سلبيات الحركة الأم.. فهذا أمر أقل خطورة من استمرارية الحركة وإشكالياتها . . .

[1] هي قرية الطلاب كما يطلق عليها في الجامعة العبرية في القدس... وهي قرية مصغرة للحياة البشرية في تعددها العقائدي والثقافي .. يطغى عليها بل تحكمها أساليب الحياة الغربية وما تشتمل عليه من استلاب حضاري للشباب المسلم والعربي.. إحدى تجليلته ثلاث شباب سكارى يصرخون ويلههم المرح.

[2] أما الفلسفة فهي منظومة التفكير التي تبيح للعقل البشري التخلص من محدوديته وتحرره من الغيبيات والمطلق العقائدي والأخلاقي. أما الحكمة فهي منظومة التفكير التي تبيح للعقل التفكير في محدوديته ونسبيته وادراكه لوجوب الغيب.
المغار
20\11\2009

الاثنين، 17 نوفمبر 2008

" إسرائيل" في النظام الكوني المحتمل (2)

بقلم: أسامة عباس
مدخل في منطق النظام:
مما لا شك فيه عندنا، أنّ ميلاد النظام وسياقاته يكونّ المعامل الأساس لمنطقه وأنّ سياقاته العقائدية والثقافية والاقتصادية تحدد صيرورته ووجهة تطوره التاريخي. فإذا اعتبرنا أنّ المحرك الرئيسي للتاريخ الإسلامي هم العرب، وذلك لحقيقة كون الرسالة المحمدية، حملها منذ بدايتها شخص عربي، وانتشرت في أرض عربية- فإنّ ممّا لا شك فيه، أنّهم هم العصب المركزي لهذا التاريخ، وهذا ليس لطبيعة قومية أو جينية وراثية لدى العرب، إنما لمتعلقات موضوعية لتطورهم التاريخي، وممّا يعبر عن هذه الحقيقة كون المسلمون من غير العرب وجدانياً وعملياً ينتظرون تحرك العرب في إقامة الاسلام وتمكينه مجدداً.
ونرى أنّ العرب حضارياً، كانوا قبل الإسلام يقبعون في هوامش الحضارات الإنسانية، بل يكاد لا يذكر لهم تاريخ ولا حضارة ولا انجاز على المستوى الإنساني. إلا ذلك الشعر العربي الذي حفظه لاحقاً الإسلام وعلومه الشرعية والأدبية، ليحرره بذلك من خصوصيته اللغوية القبلية الضيقة لينطلق بها من خلال رؤية قرآنية كونية، لتخترق حدود الشعر الجاهلي باتجاه مواضيع إنسانية في الفلسفة والسياسة والأخلاق والاجتماع والكون.
كذلك اللتقط الاسلام العربية من كونها لغة قبائل متفرقة، لتغدو لغة أمة حيّة، من علوم وثقافة وابداع وقيادة. فقد انتقلت لتصبح لغة لها مكانتها بين نظيراتها الحضارية كاللاتينية والفارسية وغيرها، بل قل أكثرها حضوراً وهيمنة. وكما أنّ هذه اللغة التي ارتبطت بالقرآن الكريم- كلام الله- دخلت في طور جديد، فإنّ مقومات ومكنونات العربي ارتقت نحو قمم سامقة. وهذا الطور الجديد، هو نظام كوني غيّر وضعية العرب النفسية والاجتماعية والثقافية والسياسية والحضارية. فميلاد العرب الحضاري هو ميلاد النظام الكوني الذي أنشأهم وصاغ واقعهم وتاريخهم.

ولا شك عندنا وعند كل مؤرخ موضوعي.. أنّ ميلاد هذا النظام بحيثياته الكلية والتفصيلية، كان نتيجة لرسالة عقائدية دينية حملها وبلّغها محمد بن عبد الله (صلوات ربي وسلامه عليه)، وقد أسس أركانها القرآن الكريم بكلام عربي مبين. فالمعادلة المنطقية في سياق التاريخ الاسلامي تتلخص بأنّ: العقيدة الدينية أنشأت نظاماً كونياً.. بعبارة آخرى: لم ينشأ لدى العرب نظاماً كونياً إلا بالفكرة الدينية، فبعد أنّ كانت العرب قبائل معدومة مقومات الأمة، جاءت الفكرة الدينية لتخرجها للحضارة والشهود الانساني، بل لتنشأ أمة جديدة ذات هوية وشخصية ومقومات.
وإذا تأملنا تجارب آخرى في التاريخ الانساني، نجد أن هذه الأمم لم تنشأ نتيجة بزوغ نظام كوني. بل كونها نتاج تطورات وصيرورات تاريخية خاصة. فالأغريق كانوا أمة عريقة تخوض الفلسفة والآداب والسياسة، من خلال المدن اليونانية كأثينا واسبارطة وغيرها، ولكنّهم اختزلوا علومهم في وجودهم العرقي وكياناتهم السياسية (polis[1]) . وفي مرحلة تاريخية بدأت فتوحات إكسندر المقدوني (توفي323 ق.م) لتمتد من وسط أوروبا حتى بلاد ما وراء النهر في الشرق. وهذه القوة الاستعمارية قامت بوظيفة نشر وتدويل علوم وثقافة وفلسفة الأغريق.
وإذا تأملنا التجربة البيزنطية والتي ورثت أمبراطوريتها من الامبراطورية الرومانية، نجدها قد أخذت الديانة المسيحية لتنشرها في الغرب والشرق وتكون الدين الرسمي (313 ميلاد). الفكرة الأغريقية أو الفكرة المسيحية لم تنشأ نظاماً كونياً.. بل إنّ الأنظمة السياسية والاستعمارية استغلتها لتكريس وجودها وسلطانها، فنجد أنّ المسيحية بخلفياتها الفلسفية الأغريقية واليونانية سيطرت على حضارة الغرب منذ قرون. بينما نجد أنّ الإسلام أنشأ أمة وصاغ نظاماً كونياً وفق عقائده ومقاصده وأفكاره.. فقد بدأ المسلمون الأوائل (منذ النبوة المحمدية) في بناء نظام كوني لم يكن موجدوداً، وهذا يشكل فارقاً جوهرياً بين التجارب الأممية، لا يمكن إلا أن تترك أثرها في منطق التجربة وسياقاتها السياسية والاقتصادية والثقافية.

بناء على هذا المنطق التاريخي، يكون خوضنا في نوعية النظام الكوني إنّما ربطٌ لسياقاته السياسية والثقافية المناسبة. ولا يمكننا إجراء اسقاطات تاريخية من تجربة أممية معينة على تجربة آخرى. فعند دراسة ظاهرة معينة في التجربة الإسلامية فعلينا تحليلها ودراستها ضمن سياقاتها الخاصة والمتعلقة، وهذه منهجية تعمق فهمنا وادراكنا لتاريخ وواقع الظاهرة بل التجربة بكلياتها الكونية.
من هذا المدخل... ندخل لتحليل وضعية إسرائيل وإشكاليتها الوجودية!!
يتبع .... (3)
ملاحظات: [1] "البوليس"- تجمع أو وحدة سياسية مستقلة انتشرت في اليونان القديمة، ويطلق عليها (مدينة-دولة) زودت سكانها بالحاجيات من الأمن والحماية والقضاء والثقافة والطقوس الدينية والتربية والرفاه. وقد كانت بمثابة مركزمدني للمناطق القروية.. وقد تميزت بالتقسيم الطبقي بين سكانها: المواطنون والغرباء والعبيد.

الأربعاء، 12 نوفمبر 2008

أوباما ولقمان الحكيم !!! الحلم الأمريكي وسياسة بناء الأسطورة

بقلم: أسامة عباس
من المثير للعجب!! كيف تتبدل المشاعر الجماهيرية والشعبية خلال فترة زمنية وجيزة!! وكيف تتغير مواقف وقناعات جماهيرية ونخبوية من حدث لآخر!! وكيف توجه السياسة الاعلامية في مواجهة حقائق سادت دهراً، سياسياً ودولياً واعلامياً!! تحاول اقناعنا ببزوغ فجر جديد وبداية عهد ذهبي. وكأن هذه الأطراف تنتظر الفرص الذهبية من أجل إعادة صياغة مصالحها ومواقفها وسياساتها المعهودة. لقد واجهنا صيرورات كهذه منذ اعلان فوز المرشح الديمقراطي باراك حسين أوباما في انتخابات الرئاسة الأمريكية.
إننا لن نناقش شخصية أوباما وانجازاته حتى دخوله للبيت الأبيض. فهي تدخل في سيرته الذاتية وظروفه وسياقاته الثقافية ونشاطه السياسي. فلا شك أن أوباما كشخصية سياسية تثير الاهتمام والرغبة في البحث عن حقائق تجربته الجماهيرية في سياقها الثقافي الأمريكي، وما يتعلق بالديمقراطية وممارساتها والعنصرية ضد السود والتطهير العرقي. والأمر لا يدعيني للبحث والكتابة والتفرغ للموضوع على المستوى الشخصي، ولا أعتقد أنه في سلم أولوياتنا كمسلمين. خاصة أن على آثر فوز أوباما، تحاول بعض الجهات اقناعنا بأن عهداً مثالياً قد بدأ، عهداً طوى صفحة الظلم والتمييز والفوقية البيضاء. والأخطر أن هذا العهد يُسقََطُ على العالم أجمع.. وكأن ما ينطبق على الولايات المتحدة ينطبق على البشرية جمعاء.. وما يتعلق بصيرورة الولايات المتحدة تخضع له الإنسانية كافة.. وكأن العنصرية المتجذرة ضد السود في النفسية والثقافة الأمريكية سادت كذلك عند الشعوب الآخرى.
الأسطورة ووظيفتها
يُصور لنا أن انتخاب أوباما للرئاسة الأمريكية هو تغيير-شعار أوباما الانتخابي- على المستوى العالمي، وكأن العالم انتخبه بل انتظره كمخلص آخر الزمان، وهذه هي العولمة الأمريكية في أبشع صورها، وخاصة عندما تتمثل في نفسية وشعور الجماهير والشعوب المغلوبة ثقافياً واعلامياً.. والأخطر عندما تشارك نخب سياسية واعلامية وثقافية مسلوبة في بناء وتكريس هذه الأسطورة المعولمة في نفوس هذه الشعوب. يكفيني أن أدعي حقيقة كونها أسطورة أحكم تصميمها داخلياً في الولايات المتحدة بناءاً على مصالح وسياقات سياسية واقتصادية داخلية.
خلال فترة رئاسة جورج بوش، غرقت الولايات المتحدة نتيجة سياساته الغبية والمتهورة في مستنقعات عديدة، أخطرها في أفغانستان والعراق، مما شكل صورتها الاستعمارية في أذهان الشعوب، خاصة العربية والإسلامية، وتكرست الكراهية للإدارة الأمريكية برموزها وقيمها في الديمقراطية والحرية. حتى ظهر السؤال الأمريكي: لماذا يكرهوننا؟! وكأن السؤال بحاجة لإجابة. هذه الصورة الذهنية-الواقعية لدى شعوب العالم وارتدادها على الشعب الأمريكي داخلياً وتأثيراتها عليه..بالإضافة لأسباب موضوعية (السياسة الداخلية ومؤخراً الأزمة المالية) تعبر عن فشل الإدارة السابقة، سهلت على أي مرشح ديمقراطي انهاء حقبة الحزب الجمهوري وخاصة ثلة المحافظين الجدد.
في ظل التعقيدات الداخلية والخارجية، كان على النخب الأمريكية صياغة أسطورة معولمة تخرج الولايات المتحدة من أزماتها وتعيد ثقة الشعب الأمريكي بذاته، وتستعيد صورة الحلم الأمريكي في نفوس شعوب العالم. فكان بارك أوباما الفرصة لاحكام سياسة الأسطورة وتسويقها في الداخل والخارج، وهذا لا ينقص من قيمة أوباما الذاتية وتجربته المثيرة.. ولكن لا يمكنها أن تخدعنا وتلهينا عن القضية الجوهرية: أنّ السياسة الأمريكية لا تتبدل بانتماء الرئيس الأمريكي السياسي والحزبي أوالإثني والعنصري.. ولا تنتفي عنها صفة الهيمنة والتمييز واستغلال ثروات الشعوب بمجرد انتخاب إدارة جديدة.
لون البشرة والفرصة!!!
ولا بد لنا ختاماً، من التعليق على لون بشرة أوباما.. وكون الأسطورة وهمية ولكنها في عصر الاعلام والعولمة الثقافية تتحرك بحرية وترافقها هيمنة النموذج الأمريكي والغربي. كما كان سائداً في الثقافات البدائية مما اتاح لنا دراسة حقيقة الأساطير وعلة انتاجها. واعترف أني علمت مؤخراً، حقيقة لقمان الحكيم بالرغم من حفظي لسورة لقمان منذ سنوات. فقد كان عبداً أسوداً حبشياً من سودان مصر، عظيم الشفتين والمنخرين، قصيرا أفطس مشقق القدمين، ولكن لا يضره ذلك عند الله عز وجل، فقد شرفه بالحكمة بقوله تعالى: (ولقد آتينا لقمان الحكمة). وقد قيل في الأثر: خير السودان أربعة رجال: لقمان بن باعوراء. وبلال بن رباح المؤذن: الذي عذب في الله ما لم يعذبه أحد، وهو يقول: أحد أحد. والنجاشي: ملك الحبشة. ومهجع: مولى عمر يقال أنه من أهل اليمن، وهو من المهاجرين الأولين وهو أول من استشهد يوم بدر.
وهذه بعض من نصائح ومواعظ لقمان لابنه: يا بني : كذب من قال: إن الشر يطفئ الشر، فإن كان صادقا فليوقد نارا إلى جنب نار فلينظر هل تطفئ إحداهما الأخرى؟ وإلا فإن الخير يطفئ الشر كما يطفئ الماء النار. وقال يا بني: الرفق رأس الحكمة. وهذ حكم تكفي لأوباما والرؤساء البيض من قبله لتغيير سياسات الولايات المتحدة اتجاه الشعوب المستضعفة.
إنّ مجرد وجود سورة قرآنية تُتلى وتقص علينا حمكة لقمان العبد الأسود.. وحقيقة التصور العقائدي والتشريعي والفكري الذي صاغه القرآن الكريم وحديث رسولنا الكريم، لا يجعلنا نعتقد بثورية رئاسة أوباما الأسود على الشعب الأمريكي. بل يثبت أمامنا، تخلف الحضارة الغربية والديمقراطية الأمريكية وراء حضارة القرآن والإسلام الذي نزع من ضمير المسلم، منذ قرون، الشعور بالفوقية والاستعلاء البشري على ضوء اللون أو العنصر. إذاً أسطورة أوباما، هي نتاج ضمير غربي عاش دهوراً وقروناً في عنصرية جاهلية، لا يمكن لضمير مسلم تعقلها وهضمها نفسياً وسياسياً وعملياً. وليس من الموضوعية والتجرد العلمي عولمة الضمير والشعور الأمريكي-الغربي واسقاطه على تجارب حضارية آخرى (خاصة الإسلامية) تجاوزت أزماته وإشكالياته الثقافية والسياسية والاقتصادية.
والفارق أن أوباما أسطورة وحلم لن نبخل عليه بفرصة، ليحقق ذاته في عالم واقعي.. ولكنّ لقمان الحكيم كان واقعاً مثالياً.. يقدم لنا مقاربة عميقة بين الأصالة والمعاصرة.. معبرة عن حضورمثالي للواقع.. وحضور واقع للمثالية.