الجمعة، 29 أغسطس 2008

أزمة الغرب ودور العالم الإسلامي في لحظة الانهيار الكوني

بقلم: أسامة عباس-القدس
المواضيع:
- انتفاض الدب الروسي: الأزمة الجورجية والقطب المحتمل!!
- الانهيار الأمريكي: الارتباك ومستقبل القطب الواحد!!
- البديل الإسلامي الكوني!! هل آن الآوان؟؟
كنت قد جلست مستقراً على مقعد استراتيجي في الحافلة على خط تل أبيب-القدس, وما ظننت أنيّ في هذه الليلة سأطرق باب الاستراتيجية الكونية ومصير "الانسان المدني" ..من اعظم وحدة سياسية معاصرة-كالولايات المتحدة الأمريكية- حتى أصغرها حجماً وتأثيراً الحركة الإسلامية في الجامعة العبرية في القدس، ولو أنّ هذه الأفكار والخواطر ما زالت تختلج في داخلي وتتقلب في أشكالٍ وصورٍ وموجات متباينة منذ زمن. فلم ألبث حتى وضعت جهازي "الأمريكي" الصنع لأستمع مستغرقاً للقرآن الكريم, وخواطر الإمام الشعراوي رحمه الله, وأبيات الشعر العربي السياسي, ومقاطع موسيقية هادئة ترتفع بي من هموم السفر المؤقت وكروب واقعنا الإسلامي المزمنة. في تلك اللحظات، وإذ بسائق الباص يعرض للمسافرين فيلماً سينمائياً أمريكياً.. محاولاً بذلك تحسين مستوى الخدمة ورفاهية المسافرين ضمن شركة المواصلات العامة (أجِد). والحقيقة أنّ مضمون الفيلم، والعبقرية البشرية التي تمثلث في فكرته وطريقة عرضها- بعيداً عن عدم واقعية الأحداث بل خيالية المخرج- دفعتني في لحظة فكرية لها خلفياتها سؤال نفسي: ماذا يخسر العالم إذا انهارت أمريكا كقوة إقتصادية وسياسية وعلمية وثقافية؟؟ وما القوة البديلة التي من البديهي أن تملئ الفراغ من بعدها؟؟ هل هي روسيا ؟ أم هي الصين؟ أم الهند؟ أم منّ؟. وهل البديل المحتمل أفضل؟!.
وفي ظل هذا السؤال الوجودي للواقع السياسي الكوني- المهيمن منذ عقود قليلة- وتداعياته الحضارية والثقافية، دفعني لربط أحداث كونية بعضها ببعض بالاضافة لترتيب أحداث آخرى محلية ضمن سياقاتها الكونية.. باحثاً عن منظومة استراتيجية لتنظيم وإدارة الأفكار والأحداث والتأملات والتطلعات السياسية والحضارية للمراقب المسلم .. وفي ظلال الحالة الفكرية انيثق التساؤل الفطري والمنطقي للسؤال ذاته: وما هو دور العالم الإسلامي في "لحظة" الأنهيار الأمريكي ونتائجها الدولية والأقليمية.. وهل حقاً من مصلحتنا أنهيار النظام الكوني الأمريكي في هذه المرحلة التاريخية؟ وما موقفنا السياسي والحضاري من اللاعبين المحتملين لملئ الفراغ الكوني المحتمل؟!.
إذا اعتبرنا أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر، كانت منعطفاً خطيراً في السياسة الأمريكية وتحديدها للخارطة السياسية الدولية, بناءاً على حملة الحرب على "الإرهاب" وتصنيف العالم إلى فسطاطين: من معنا ومن ضدنا. فإنّ مراقبين كُثر، اعتبروا أن الحرب الروسية-جورجية هي المنعطف المضاد للسياسية الأمريكية وإعادة رسم الخارطة الدولية السياسية.. بل العودة إلى الحرب الباردة ثنائية الأقطاب وتجاوز مرحلة احادية القطب المتمثل بالهيمنة الأمريكية. إنّ الهجوم الخاطف للدب الروسي، على حليفة الولايات المتحدة على الحدود الروسية, قلَبَ الدبلوماسية الروسية المعهودة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي - من دولة تسعى للحفاظ على وجودها السياسي في حدودها الجغرافية، إلى لاعب دولي، تحسب له القوى العظمى حساباً، ولا يستأذن أحد للسيطرة على دولة مستقلة آخرى والهيمنة على الفعل ورد الفعل. إذا قارنّا هذه الخطوة، بالتخلي الروسي بقيادة يلتسين عن الحليف الاستراتيجي ميلوسوفيتش اليوغسلافي، حتى عدم محاولة ردع الولايات المتحدة في قصف يوغسلافيا- بغطاء حلف الناتو الأطلسي- وإسقاط مليسوفيتش، واختراق أوروبا الشرقية ودولها التي شكلت من فترة وجيزة جزءاً مهماً من الاتحاد السوفيتي القطب الكوني الثاني سابقاً.
ولو أنّا لا نريد تحميل الاجتياح الروسي لجورجيا أكثر مما يحتمل عسكرياً.. إلا انه لا يخفى على المراقب مدى الارتباك الأمريكي في التعامل مع المباغتة الروسية, وانقلاب الدبلوماسية الروسية في إدارة الأزمات. فحتى هذه اللحظة، بالرغم من توقيع التفهام على النقاط الستة التي يتخللها انسحاب القوات الروسية، إلا أنّ الجيش الروسي ما زال على الأراضي الجورجية وقد أعلن الدومة عن تأيديه لاستقلال أبخازيا ضد الإرادة الدولية –الدول الغربية- ضارباً بعرض الحائط موازين القوى التي اعتدناها حتى الآن. زد على ذلك تهديدات روسيا بتجميد العلاقات مع حلف الناتو ووقف المفاوضات حول منظمة التجارة العالمية (وهناك تطورات متسارعة لن يحصيها هذا المقال).
وكمؤشر خطير للارتباك في السياسة الأمريكية، تم تسريع الإتفاقية التي تتيح نشر منظومة الصواريخ الأمريكية في بولندة. وبموجب هذا الاتفاق ستتمكن الولايات المتحدة من نشر عشرة صواريخ اعتراضية قادرة على تدمير صواريخ بالستية بعيدة المدى بحلول العام 2012، مع إنشاء محطة رادار متطورة، وذلك استكمالا لنظام قائم أصلا في كل من الولايات المتحدة وغرينلاند وبريطانيا. ويأتي الاتفاق بعد أن قبلت واشنطن بشروط الحكومة البولندية بشأن نصب منظومة دائمة من صواريخ باتريوت ومنحها تسهيلات لشراء خمس منظومات أخرى بأسعار مخفضة. فإن الخطوة هذه كشفت عن قلب الدبلوماسية والسياسة الأمريكية كسياسة رد فعل، مما يفقدها الأسبقية وقوة الحسم الدولي.. ويظهرها بموقفٍ حرجٍ، أعلامياً واستراتيجياً، خاصة بعدما ادعت سابقاً أن منظومة الصواريخ إنّما موجهة لحماية أوروبا من الصواريخ الأيرانية والكورية بعيدة المدى، ولا تستهدف روسيا.
وعلى الصعيد الأقليمي، فبعد الحرب الإسرائيلية على لبنان أقيل من الجيش الإسرائيلي، واستقال منه عدد لا بأس به من قادته وجنرالاته. وقام بتصدير بعض هؤلاء الجنرالات الفاشلين كالجنرال غال هيرش الذي ذهب الى جورجيا واوكلت اليه تلك الحكومة الجورجية أمر تأسيس وتدريب وتأهيل القوات الخاصة الجورجية . جورجيا التي اعتمدت خبراء اسرائيليين واسلحة اسرائيلية في مواجهة روسيا ها تواجه الفشل الذي تتعلمه من جنرالات فشلوا في حربهم ضد مليشيات جزب الله اللبناني.. فإنّ ما جرى في جورجيا يعطي الضوء الأحمر لكل اولئك الذين يقبلون ان تزج بهم امريكا في مغامرات وصراعات غير محسوبة وفي مواجهات مسدودة الأفق وفي نهاية المطاف تتخلى عنهم امريكا, تهملهم وتكتفي باصدار موقف شجب لأن مصالحها فوق كل المصالح والتحالفات .
بالمقابل في زيارة مكوكية لروسيا، عبر الرئيس السوري بشار الأسد خلال لقائه مع نظيره في موسكو عن دعمه للعملية العسكرية الروسية ضد جورجيا. وقالت وكالات الأنباء الروسية إن الأسد أكد خلال اللقاء أن بلاده تتفهم الموقف الروسي، و"نقدر أن رد الفعل العسكري جاء ردا على الاستفزاز الجورجي". وقال الأسد في حوار مع صحيفة "كوميرسانت" الروسية "إن صراع روسيا مع جورجيا -الذي تقول فيه موسكو إن الأخيرة استخدمت معدات زودتها بها إسرائيل- أكد الحاجة لأن تعزز روسيا وسوريا تعاونهما العسكري". ووفقا للرئيس السوري فإن العالم يدرك الآن الدور الذي تلعبه إسرائيل ومستشاروها العسكريون في الأزمة الجورجية، مشددا على أهمية "التعاون العسكري والفني، مشتريات الأسلحة مسألة بالغة الأهمية، ويجب أن نسرع بذلك، وعلاوة على ذلك فإن الغرب وإسرائيل يواصلان الضغط على روسيا".
وأعرب الرئيس السوري عن استعداد بلاده لدراسة مسألة نشر شبكة صواريخ "إسكندر" الدفاعية على أراضيها، غير أنها لم تتلق عرضا روسياً رسميا بذلك. وكانت وسائل الإعلام الإسرائيلية ذكرت أنّ روسيا تخطط لنشر صواريخ إسكندر أرض/أرض في سوريا وفي مدينة كالينينغراد على بحر البلطيق، في رد على شبكة الصواريخ الدفاعية الأميركية في وسط أوروبا والمساعدات العسكرية الإسرائيلية/الأميركية إلى جورجيا. ووفقا للأسد فإن الحرب التي اندلعت في جورجيا هي محاولة أخيرة لتطويق وعزل روسيا، واصفا هذه المحاولات بأنها مواصلة للسياسة الأميركية التي كانت معتمدة في حقبة الحرب الباردة، داعيا الكرملين إلى التحول عن الغرب والعودة إلى أصدقائه القدامى. وفي السياق ذاته، قال مصدر دبلوماسي في موسكو إن روسيا وسوريا تعدان لإبرام صفقات تشمل نظما صاروخية مضادة للطائرات وللدبابات. وأشار إلى أن سوريا مهتمة بشراء نظم صاروخية دفاعية من طراز "بانتسيراس1" ونظام صواريخ أرض/جو المتوسطة المدى من طراز "بييوكيهام1" وطائرات عسكرية ومعدات أخرى. (المصدر: الجزيرة نت)
بغض النظر عن التطورات المستقبلية المحتملة على صعيد تشكيل التحالفات الأقليمية والاستقطاب الدولي على أثر أزمة روسيا-جورجيا.. فإن المؤشرات تعبر عن تعطش السياسة الدولية ودول أقليمية للاستقطاب الثنائي للتخفيف من الضغط الأمريكي على الدول "المارقة" والعودة لموازين الحرب الباردة، وإن تجنب القادة والساسة الإشارة لذلك. إن احتمالات المستقبل تبدو بالغة الأهمية والخطورة، خاصة كونها تحمل في طياتها انهيارات لأنظمة أقليمية أو لسياسات مرهونة. فعلى مستوى العالم العربي والإسلامي نشهد تطورات تأكد هذه الاحتمالات:
لبنانياً، تشكيل حكومة الوحدة التي يعد فيها حزب الله ركيزة أساسية، وهو التنظيم الذي حاربت أمريكا كثيراً لعزله لبنانياً على حساب تعزيز حلفائها الداخليين. وقد تعزز موقف حزب الله لبنانياً وأقليمياً وارتدع حلفاء أمريكا عن تسويق المشروع الأمريكي. والأمر مرتيط بعلاقات المملكة العربية السعودية الداعم القوي لفريق 14 آذار اللبناني، إذ يحتمل تهميش التأثير السعودي على لبنان، مما يدفعها لإعادة التفكير في سياساتها العربية ليس فقط لبنانياً، والأمر سواء بالنسبة لدول "المعدّلين" مصر والأردن.
فلسطينياً، بعد أكثر من عام على حصار غزة ومحاولة إسقاط حكومة حماس المنتخبة، لم يزدد حليف أمريكا الفلسطيني إلا ضعفاً وتهميشاً. وقد اقتنع فريق أوسلو بعدم واقعية اسقاط حماس، مما دفعه للتراجع عن مواقفه إزاء الحوار مع غزة. وفي هذه الأيام تشهد الساحة المصرية تحركات نحو تجديد الحوار الفلسطيني. ومنذ أيام شهدت الساحة الأردنية زيارات لقادة حماس في الخارج بعد انقطاع العلاقات لأكثر من عشرة أعوام.
وإن كنّا لا نعول كثيراً على تعديل سياسات حلف المُعدّلين" إلا أنها مؤشرات لتطورات مستقبلية على مستوى استراتيجية المنطقة العربية والإسلامية. وفي هذا السياق إن الدور المنوط بدول عربية وإسلامية محورية هو ادراك لحظة الانهيار الكوني وملئ الفراغ الاستراتيجي بفعل عربي-إسلامي يخرج دوله من الأزمات والصراعات الداخلية والخارجية.. ويأسس لمرحلة كونية إسلامية أصيلة ومعاصرة. وبما أن تحقيق الأصالة المعاصرة لا تشكل رد فعل لتغيرات مفاجئة، بل هي صيرورات تاريخية مجتمعية وسياسية فإن الدور المحوري يقع على عاتق دول إسلامية مرت هذه الصيرورة الحضارية. وهي دول قادرة على إدارة سياسات أقليمية-دولية.. وبالأساس لديها الإرادة السياسية والمقدرات البشرية والامكانيات المادية. وفي هذا السياق يأتي دور الحركات الإسلامية على شتى مشاربها الفكرية والساسية. إنّ العالم الإسلامي، باعتقادنا، يتميز بتركيبة حضارية غنية يندر وجودها في أمم آخرى. وهذه التركيبة توفر له طبيعة ثقافية تكاملية يمر في محورها الوجدان العربي الإسلامي, الذي تشكل عبر القرون، من خلال الإسلام كعقيدة وشريعة، والقرآن ككتاب مهيمن على المجتمع والعادات والأعراف والسياسة والثقافة. أمّا التركيبة الحضارية العامة والأساسية فهي: الثقافة العربية والثقافة التركية والثقافة الإيرانية. ويمثل هذه التركيبة دول محورية في العالم الإسلامي في أيامنا مع افتقادنا للاعب أساسي: جمهورية إيران الإسلامية والجمهورية التركية.. أمّا على الصعيد العربي فنفتقد لدولة محورية تنخرط في حلف ثلاثي يجمع من حوله الدول العربية والإسلامية الآخرى. وقد كانت مصر مهيئة لملئ هذا الدور الأساسي في تحالف إسلامي من هذا النوع، لكن الإرادة السياسية المسلوبة لدى النظام المصري، وارتهانها لميزان القوى الأمريكي، نزع منها هذا الدور واخرجها من سياقها العربي الإسلامي.
لقد مرت كل من أيران وتركيا في صيرورة تاريخية، انتقلت بهذه الدول من مرحلة الاستعمار القديم لمرحلة الاستقلال السياسي. إيران استقلت سياسياً من الاستعمار، لكنها ظلت تابعة للغرب خاصة للولايات المتحدة حتى أواخر السبعينات، ومع الثورة الإسلامية عادت إيران لسياقها الإسلامي وانتمائها الحضاري. أمّا تركيا فلها صيرورة خاصة ومميزة، ولكنّها متشابهة في عمومياتها مع التجربة الإيرانية، فما زالت تركيا الأتاتوركية تسير في الركب الغربي، حتى صعود حزب العدالة والتنمية، بعد تجارب إسلامية سبقته ممكن أنها اسست لمرحلته اللاحقة. والان، وبعد تجاوز "العدالة والتنمية" لتحدياته داخلياً، وتفكيك أزمات تركيا الاقتصادية والسياسية والدستورية، فإنه مما لا شك فيه، أهمية الدور التركي في العالم العربي والإسلامي.. بل وأهليته لتشكيل التحالف الثلاثي الإيراني-التركي-العربي.
لقد شاهدنا منذ أيام تطورات آخرى رافقت التغيير الاستراتيجي الكوني، ألا وهو استقالة برفيز مشرف من الرئاسة الباكستانية. وهو الحليف المهم والخطير للإدارة الأمريكية منذ أحداث 11 سبتمبر. في انتظار الاحتمالات المتعددة للحالة الباكستانية بعد مشرف، فمما لا شك فيه، أن رجوع باكستان لسياقها الإسلامي، يدعم ويعزز امكانية نجاح تحالف إسلامي تكون فيه باكستان لاعباً مركزياً. هذا التحالف لا أستبعد أن يكون بذرة مهمة لخلافة معاصرة، تختزل داخلها لأول مرة في التاريخ الإسلامي الخلافة بتجاربها المتعددة: العربية والايرانية والتركية والهندية. هذه الخلافة (التحالف) تتميز بالتكاملية الثقافية في سياق الحضارة الإسلامية، وتكون مؤهلة لتجاوز الترسبات التاريخية للشعوبية والطائفية والمذهبية.. وتأسس لنظام كوني جديد يتمحور حول الإيمان والعدل والإنسانية. فقط في هذه الحالة ممكن أن يرتقي المسلمون بدورهم في لحظة الانهيار الكوني !! وعدم انتظار لاعب آخر مثل روسيا أو الصين أو الهند أو ألمانيا.. فإن استبدال الولايات المتحدة بقوة آخرى لا يغير من واقعنا السياسي والحضاري السيء. بل أقول إنّ الولايات المتحدة كقوة كونية ممكن أن تكون أقرب منّا كمسلمين، من قوى آخرى محتملة كالصين الكنفوشسية أو الهند الهندوسية او روسيا المتصلبة هاتكة أعراض وأراض المسلمين في الشيشان ودغستان. فالولايات المتحدة قابلة للاختراق الإسلامي إذا أحسن المسلمون إدارة "الصراع" السياسي والاعلامي والتدافع الحضاري.
إن التحالف الرباعي (التركي-الإيراني-الباكستاني-العربي) يؤدي في النهاية لانخراط باقي الدول العربية والإسلامية في كتلة جغرافية وبشرية هائلة، ترتكز على الإسلام والحضارة الإسلامية في استلهام النظام الكوني الجديد. ويكون هذا النظام المرحلة الأولى لاستعادة الإنسان- أيّاً كان معتقده وقوميته ولونه – بعد موته في الحضارة الغربية المادية. فهو نظام وسطي ليس فقط جغرافياً بل يسعى لخلق توازن كوني بين القوة والحق.. بين قوة النظام الكوني وهيمنته على التكتلات السياسية وبين حق الإنسان والشعوب في تحقيق ذاتها اعتقادياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً. فإن أقطاب هذا النظام تنطلق لتتواصل مع محيطها الإنساني والكوني وابعادها الجيوسياسية: فتركيا بوابة الإسلام إلى الغرب.. ومصر (؟) بوابة الإسلام إلى افريقيا.. وأيران بواية الإسلام إلى الشمال والقوقاز ووسط اسيا والشرق.. وباكستان بوابة الإسلام إلى القارة الهندية والجزر الهندية.
إن المحرك الأساس لهذا التحالف (الخلافة المعاصرة) هي القوى الإسلامية الحيّة في الأمة. ومما لا شك فيه، أنّ الحركات الإسلامية (بشتى اجتهاداتها) هي اليوم في صدارة الدفاع والمقاومة والجهاد خارجياً.. وهي القوى المنظمة والمهيمنة على الصعيد الداخي في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. والذي يميز الحركات الإسلامية هي جذورها المتأصلة في حياة الناس وواقعهم، بعكس تيارات آخرى علمانية متعالية على الناس وهمومهم وهويتهم الإسلامية الأصيلة. وهذه الأصول المتجذرة تستمد قوتها من الإسلام الذي تدين به الغالبية المطلقة من الناس في العالم العربي والإسلامي، فمن الطبيعي إذاً، أنّ يُبنَى نظامها الكوني على معتقد وهوية هذه الشعوب على مستوى الاقتصاد والسياسة والثقافة.
الحراك المدني-الجماهيري أصل النظام الكوني
قلت أنّ القوى الإسلامية الحيّة في عالمنا العربي والإسلامي هي المحرك الأساسي للنظام الجديد، ولكن هذه الحقيقة لا تنبع من موقف أيديولوجي مستعلي، إنّما تتعلق بخصائص موضوعية لهذه القوى، منها: أولاً أنها تحمل عقيدة مطلقة هي مكونٌّ جوهري في وجدان وعقلية الإنسان العربي والمسلم، فهي عقيدة دينية لا يختلف عليها الفرد ولا المجتمع لذلك لن تقف كعائق أمام الترابط والانسجام العقائدي والوجداني بين هذه القوى وشعوبها ومجتمعاتها. ثانياً، هناك قناعة مطلقة لدى المجتمعات العربية والإسلامية أنّ شريعة هذه العقيدة لا تصتدم بتطلعاتها نحو التقدم والرقي والشهود الحضاري المعاصر، إنّما ذات الشريعة قبل قرون جعلت منهم أمة متحضرة وأساسية في النظام الكوني.. بل إن التخلف عن هذه الشريعة هو نكوص إلى الوراء ثقافياً وسياسياً واقتصادياً. ثالثاً، المرونة الفكرية والاجتهادية للقوى الإسلامية الحية، مستمدة من طبيعة الإسلام، بما يجعل منها محرك أساسي لتطوير الحياة المدنية وفق الإسلام، واستيعاب متجددات الحضارة المعاصرة، من علوم ومعارف ومكتسبات إنسانية. رابعاً، وهي خصيصة نابعة من اللتي سبقتها.. وهي تاريخية القوى الإسلامية، بمعنى أنها تطور تاريخياً مع متطلبات عصرها، مع محافظتها على أصولها العقائدية والتشريعية المطلقة.. فهذه القوى لم تُقدم لشعوبها بقوالب جاهزة، مستوردة من الغرب أو الشرق. قوالب أنتجها أصحابها من فلاسفة وساسة وقادة في سياقاتهم الثقافية والسياسية والاقتصادية الخاصة.
منطق هذه الخصائص وتدعاياتها، يحتم على هذه القوى أنّ تكون المحرك المدني والجماهيري للشعوب العربية والإسلامية. وهذا الحراك إنما عليه يؤسس النظام الكوني (التحالف). فهذا النظام لا يُؤَسَس على أنظمة دكتاتورية فاسدة.. أو أنظمة متعالية على شعوبها، لا تملك مقومات الإرادة السياسية والاستراتيجية والإنسانية. بمعنى أنّ هذا النظام يمتد من الحراك المدني والجماهيري في المجتمع المصغر (الجهاز التربوي والتعليمي والعائلي والمؤسساتي ) عبر الأطر المدنية للمجتمع (الحركات والمؤسسات الاجتماعية والسياسية والفكرية) مروراً بالتجمعات الاقتصادية والمالية ومؤسسات الدولة، "انتهاءاً" بالإرادة السياسية والاستراتيجية للنظام الكوني.. وهي حلقة مفرغة بحيث يمتد النظام نحو البنى التحتية المدنية والجماهيرية المذكورة آنفاً. هذا الامتداد العامودي والأفقي للنظام الكوني فقط القوى الإسلامية الحية- وبخصائصها أعلاه- قابلة وقادرة على صياغته وتنفيذه. هذا النوع من النظام، الوحيد الذي يمكن أنّ يحقق التوازن والتوافق بين الإنسان الفرد (المسلم وغير المسلم) والمجتمع والدولة والنظام والطبيعة والكون في الناحية المادية، ويحقق الانسجام والتكامل بين الإنسان والعقل من جهة والإيمان والعقيدة من جهة آخرى.
لقد كان النظام السياسي عبر التاريخ الإسلامي، يمثل الإشكالية الحضارية لدى المسلمين، بحيث أنّ النظام الراشدي النموذجي تعطل بعد وفاة الرسول بثلاثين عاماً تقريباً، ولم يُسترجع مجدداً، بل حل محله أنظمة وراثية وانقلابية تتميز بسلطانها القاهر والمتمذهب.. وإن حافظت على عقيدة الأمة ومكتسباتها السياسية والحضارية. وهذه الأنظمة (الخلافة الوراثية والانقلابية) جعلت من مشاكل وأزمات الأمة تتراكم وتتكرس عبر القرون، دون أن تتحقق إصلاحات جذرية تعيد للإسلام وحضارته أصالته، حتى اصتدم المسلمون بالتفوق الغربي على كافة الأصعدة. لذلك فإنّ إصلاح النظام السياسي الإسلامي، بنظرنا، هو المهمة الأساسية نحو تجاوز التراكمات السلبية، من طائفية وتمذهب وتوريث وفساد وظلم، وتنكرٍ لمكنونات الإنسان المسلم، ومقوماته في الحراك والمشاركة والتقدم.
إنّ القوى الإسلامية الحية في الأمة، قادرة على صياغة هذا النظام الكوني الجديد، نتيجة لتوفر هذه الخصائص فيها. وبما أنّ هذه القوى منزوعة القدسية، ولا تمتاز بالعصمة- مثلها مثل أيّة قوة آخرى على الساحة الإسلامية- بل هي تاريخية كما قلنا سابقاً.. فيقع على كاهلها، واجبات وتحديات في تحقيق هذا النظام والوصول إليه. وهذه التحديات تتعلق في مدى تجاوز هذه القوى لأزماتها وإشكالياتها الداخلية، ثمّ العمل وفق رؤية استراتيجية -محلية وإقليمية وكونية- واعية لذاتها وأهدافها وسلوكياتها.
الحركة الإسلامية: عصر جديد ومتجدد
الحركة الإسلامية هي مكمن الطاقة والفعل في القوى الإسلامية العامة، وأقصد تلك التي بصيغة أو آخرى تعتبر امتداداً لحركة الأخوان المسلمين التاريخية. وهذا نابع من مميزتين تتوفر لدى هذه المدرسة: أولاً الاستمرارية والقدرة على التجدد، فهي حركة تاريخية اتخذت من الإسلام عقيدة راسخة، واتسعت في رؤيتها لتمكنها من استيعاب عصرها. ثانياً، جماهيريتها الواسعة، فهي قادرة على استقطاب الجماهير حولها واستيعابهم في اتجاه التغيير الشامل والانخراط في تحديات العصر الجديد للنظام الكوني.
الحركة الإسلامية بالرغم من أسبقيتها على أحزاب وقوى سياسية آخرى، ما زالت عاجزة عن تحقيق قدراتها المكنونة، وصياغة رؤيتها المستقبلية المعاصرة وفق أصالتها، التي تخول لها القيام بدورها الكوني. وذلك راجع لعدة أسباب:
أولاً، عدم اتاحة الفرصة لتقدم قيادة سياسية متجددة للحركة الإسلامية، تنتمي لأرث الأباء ووتتجاوز بذات الوقت المعوقات التنظيمية والفكرية والسلوكية والتخطيطية للعهد السابق. ثانياً، على الحركة الإسلامية الانتقال بفلسفتها وسلوكها من تنظيم خدماتي بحت، لتيار سياسي واستراتيجي يتحمل مسؤوليته الكونية، وتحويل السلوك الخدماتي لمؤسسات المجتمع المدني والأهلي، بل الخدمات من وظيفة مؤسسات الدولة والنظام. ثالثاً، الانطلاق نحو دراسة علمية معمقة للواقع المحلي والأقليمي والكوني، هذه الدراسات توظف لتعميق الرؤية الاستراتيجية والخطط العملية للحركة الإسلامية وللنظام الكوني، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة. رابعاً، الربط العميق والأصيل بين مشروعها الكوني وبين العقيدة والشريعة. وهذا الأمر يتطلب دراسات شاملة في الإسلام وحضارة الإسلام، لاستيعاب الماضي ومكنونات القوة والأصالة واسترجاعها في صياغة معاصرة للمسلمين وغير المسلمين، وتجاوز التراث البشري وأفكاره الميتة وتلك المُميتة.
أخيراً، مع الأزمات والتطورات المتسارعة على المستوى الدولي.. وبداية تشكل تحالفات واستقطابات تذكرنا بالحرب الباردة. يتوجب على العالم العربي والإسلامي استثمار اللحظة التاريخية لصياغة نظام كوني جديد، يضع البديل الإسلامي أمام بدائل آخرى محتملة، كروسيا أو الصين أو الهند. هذا البديل، لا شك، تحمله القوى الإسلامية الحية، وبالأساس الحركة الإسلامية الواعية لذاتها ودورها وسلوكياتها، والتي تجاوزت أزماتها وإشكالياتها الداخلية، لترتقي لمستوى الدور الكوني الذي يرسمْ لها معالمه وأصوله القرآنُ الكريم. وإنّ الحركات التي مرت هذه الصيرورة قادرة على قيادة دولها نحو تحالف إسلامي، يؤسس لخلافة معاصرة وأصيلة بلغة العصر والكون.