السبت، 13 ديسمبر 2008

إسرائيل- إشكالياتها الوجودية.. والحركة الإسلامية

بقلم:- أسامة عباس
كنا قد عرضنا سابقاً منطق النظام الكوني الذي أنشأه الإسلام، وكيف أنّه يختلف تاريخياً وجوهرياً عن تجارب أممية في التاريخ البشري. ذلك أنّ نشاته تختلف وتطوره يختلف.. وكذلك الحلول لإشكالياته تختلف اختلافاً كبيراً -بل قل جوهرياً- عن إشكاليات ثقافية أو سياسية أو اقتصادية لأمم آخرى عظيمة.

وإذا اتهِمنا بنمطية التفكير والتحليل.. فهذا يدل على عدم تعمق -المُدَّعي- وإحاطته بالمفاهيم التي أستثمرها بكتاباتي (خاصة مفهوم "العقل الكوني").. وطبيعة التحليل الذي تخطه هذه المفاهيم. ولكن بدايةً، يكفيني حقيقة تاريخية ساطعة، تدفعني للتساؤل حتى أطمئن لتحليلي: هل شهدنا في التاريخ الإنساني -القديم والحديث- أنّ كياناً يلصق بنفسه صفة الدولة.. يُؤَسَس بصورة غريبة!!.. في محيط معادٍ له بالفطرة والفكرة !!.. وكأنّه حلم في رواية خيالية ما له مكان في واقعنا الجغرافي والسياسي؟!! هل يعقل أن يتحقق هذا الحلم بهذه البساطة لتصل حد "التفاهة" التاريخية؟! وكأن هذه الإشكالية التي رافقت دولة إسرائيل -منذ نشأت فكرتها مروراً بتطبيقاتها حتى تجليات أزمتها الوجودية حالياً- تتعلق بشكل جوهري بمنطق النظام الكوني للإسلام!! إذاً لماذا لم تتكرر ذات الظاهرة الغريبة في أمم أخرى؟! وهل حالتها الإستثائية تدل على مميزات النظام وتفرده الوجودي؟! وتعبيراً عن تفرد حلوله الحضارية والثقافية الاستثنائية!!!
لماذا أنشأت إسرائيل في واقع اعتبر أصلاً محضناً آمناً لليهود خاصةً؟! أوَ كانت لتنشأ في بيئة معادية نفسياً وأخلاقياً وسياسياً وعقائدياً لمجرد يهودية الإنسان؟! كما هو الحال في السياق الأوروبي المسيحي!. فبعيداً عن تقديس التاريخ وتحنيطه في المثالية "السلفية".. مّثل الواقع الإسلامي بالنسبة لليهود وضعية وجودية خاصة-إن لم تكن فريدة- بل هي فريدة، ولم تتوفر لهم قروناً عبر شتاتهم بين أمم الأرض.
أسئلة كبيرة تحتاج لدراسات تاريخية متعمقة ومستفيضة.. ولكنها لن تغير حقيقة كون إسرائيل حل لمشكلة وجودية يهودية (أو ممكن أنّ تعبر عن الوجود اللاإنساني الغربي).. منبتها الغرب الأوروبي وتجلياتها السياسية والثقافية لم تخرج من الحيز الجغرافي الأوروبي.. ولكنَّ حلها "الافتراضي" أخطأ المكان ولم يخطأ الزمان. أخطأ المكان، لإنَّ تقديرات الحركة الصهيوينة لجغرافية الحل لم تتعدى كونها تهور استراتيجي في الوجود اليهودي الإنساني. ولم تخطأ الزمان حين لعب لصالحها..! حيث تخلف المسلمون عن مستوى تحديات عصرهم ونكصوا على صعيد دورهم الإنساني الكوني، فمثلوا أمة واهنة أمام "حلم شعب" وسياسات مصالح دول عظمى.
لقد مثلت –جغرافية الحل- كارثة استراتيجية بالنسبة للوجود اليهودي الإنساني، فالزمان ممكن التبدل والتقلب.. تارة لصالح المسلمين وتارة لصالح آخر.. وهذا يعطي للحل الافتراضي[1] احتمالات تطبيق وليس مطلق التطبيق!. ولكنَّ المكان ينفي الوجود الافتراضي للإسرائيلي.. فالمكان ثابت غير متبدل. ففلسطين ستبقى فلسطين وإن هُجِّر وشُرِّد إنسانها.. وإن هُدِّمت المعالم والآثار.. وإن عُقِّدت الاتفاقيات أو بنيت الجدران. إذاً عامل الزمان النسبي ممكن أن يقف في صف إسرائيل ولكن عامل المكان (النسبي والمطلق) لن يخرجهم من إشكالياتهم الوجودية المتعلقة بحلهم الافتراضي.. ولن يطرح الحلول للمشكلة اليهودية التاريخية، بل سيعقد المشكلة.. ويحوِّلها من إشكالية غربية الفكر والسلوك إلى عالمية (أو ما نطلق عليه "عولمة الإشكالية اليهودية") الأبعاد والارتباطات[2].
يعتقد المسلم أن عامل الزمن لصالحه.. واليهودي يحكمه شعور بالخوف من المستقبل المُغيّب، فهو على يقين أنّ حله الافتراضي لمشكلته التاريخية لن يخلد أبداً: أولاً، لأنه يغرق في محيط إسلاميٍّ بشريٍّ يُخيف كل من يتأمل الخارطة ويتصورها في ذهنه. ثانياً، لا يمكنه تجاهل اختلال التوازن العسكري كلما تقدم في العمر بعد الستين عاماً (سياسياً). ثالثاً، لا يمكنه إخفاء عمق الجرح الذي سببه لأهل الأرض نفسياً وثقافياً وسياسياً. رابعاً، لن يقدر على تصحيح خطأه التاريخي، فهو منهمك في تبرير ما فعله وسيفعله مستقبلاً بتكريس الكراهية والعنصرية والخوف في المجتمع اليهودي. خامساً، لقد وصل مشروعه الصهيوني(الحل) لطريق مسدود بل زاد مشكلته اليهودية تعقيداً وقساوة.
واقعياً ليس بالسهل على المجتمع (كشعب) اليهودي المُستعمِر العودة لدول المنشأ (بولندا- روسيا- ألمانيا...إلخ) لإعادة شرعية وجوده هناك... والمجتمع اليهودي الشرقي( العربي على الأغلب) قد انفصل وبادر لقطيعة مع منشأه الإسلامي العربي. فإسرائيل تربط هويتها الثقافية والسياسية مع الثقافة الغربية الأوروبية (الديمقراطية!! ) ولكنّها لا تفتأ تذكر نفسها أنها في محيط شرق أوسطي معادٍ. وهذا التناقض بين الإنتماء الثقافي والإنتماء الجغرافي يزيد من إشكالية الوجود اليهودي تعقيداً وارتباكاً وثم خطورة. فإذا افترضنا سلاماً ممكناً فلا بد من إزالة حدود جغرافية مفتعلة- إرادياً أو غير أرادياً. أمّا خيارة الإرادي بالانتماء الثقافي فلن يزيد إشكاليته إلا تعقيداً ولا وجوده إلا تدميراً.
في هذا السياق الثلاثي (الزمان والمكان وعولمة الإشكالية) يدخل الإسلام كمنظومة كونية في تحديد طبيعة وصور الوجود اليهودي والمتمثل: بالإشكالية، والحل (الصراع)، وتفكيك الحل(الصراع). ولكن علينا أن نضع هذا التثليث في سياق مفهوم العقل الكوني. هدفنا بذلك تجاوز الحلول الاستسلامية وعدم اجترار مواقف وقرارت تسمى "الشرعية" الدولية.
فعندما بدأ نزول القرآن كلام الله تعالى على محمد (صلى الله عليه وسلم) ثَّم نطق الرسول بلسانه المبين بدأ العقل الكوني نشأته وتكوينه. بدأت ترتسم مقوماته ومميزاته العقدية والإنسانية ومن أهمها: تجاوز الزمان والمكان وثَمَّ تفكيك القبلية أو القومية. ونحن لا نقصد أنَّ محمداً تصرف خارج زمانه ومكانه.. بل الحق أنه -من خلال واقعه المرتبط بعامل المكان والزمان- وضع إشكالية الإنسان الوجودية –أيّ إنسان- في المركز (وهنا الفرق بين الأنسنة والإسلام)[3] .. هكذا عولم الدعوة والرسالة.. فغدت "رحمة للعالمين".. فنصفها تبعاً لذلك بالكونية لأنها تَحُل إشكالية الإنسان وارتباطاتها مع ذاته والكون والخالق. والعقل يقصد به تلك الآلة التي تستوعب هذه الإشكالية وتذوتها فكرياً وسلوكياً وشعورياً.. وترتقي في أدائها ومقصدها لمنهجية (ومنطق) العقل الكوني، التي تتجاوز التثليث وتبعاته البرغماتية المحدودة والترابية.
لا يمكن للمسلم مهما انغمس في علاقات الصراع (ما يسمى العربي-الإسرائيلي) أن يغفل عن إشكالية الإنسان التي وضعها القرآن والإسلام في مركز الحياة الدنيا. ولا أملك حالياً تعبيراً أو تعريفاً دقيقاً لهذه الإشكالية إلا: " إحداث التوازن والإنسجام بين عبودية الإنسان لخالقة وبين تحقيق خلافته الآدمية في الكون". والخطورة أنّ إسرائيل كحل للمشكلة اليهودية جاءت لتحد وتعطل من إمكانية تفكيك الإشكالية الإسلامية وتطبيق معادلتها سياسياً وحضارياً. ولا تقل خطورة أنّ عملية تفكيك الإشكالية على ضوء المنظور الإسلامي، يواجهها إشكالية إنسانية هي المشكلة اليهودية. ولكنّ الحركة الصهيونية كمنظومة استعمارية وحركة عنصرية، لم تأخذ بحساباتها -ليس فقط لاإنسانية الحل بالنسبة لأهل الأرض والمكان- بل أيضاً تداعيات "الحل" وتبعاته على المشكلة اليهودية: عولمة الكراهية لليهود، وتكريس الخوف الوجودي لدى اليهودي، وحصر اليهود في حيز جغرافي يهدد وجودهم، ونزع شرعية المشكلة اليهودية وجودياً من الضمير الإنساني العالمي. وجميع هذه التداعيات تتمحور حول: المكان والزمان وعولمة (الحل)الصراع.
الحركة الإسلامية وإشكاليّتها الكونية!
إنّ الوجود اليهودي في الواقع الإسلامي منذ قرون لم يصطدم مع إشكالية الإنسان التي وضعها الإسلام. فلا يمكننا الحديث عن تهديد وجودي لليهود بين المسلمين. بينما كان اليهود -في أوروبا والغرب بشكل عام- يعانون من التهديد النفسي والديني والثقافي والسياسي.. وما المحرقة (Holocaust ) خلال الحرب العالمية الثانية إلا تعبيراً عن تاريخ حافل بالتصفيات الوجودية واحتقاراً لإنسانية الإنسان وخاصة اليهودي. ولكن برغم نزعنا للقداسة لم نشهد ظواهر شبيهة أو تقترب في الحالة الإسلامية.
الإشكالية التي طرحها الإسلام هي إشكالية يتبناها المسلم متى أعلن إنتماءه لهذا الدين.. وهي إشكالية داخلية عند المسلمين. في هذا السياق جاءت الحركة الإسلامية لتقوم بدور تفكيك الإشكالية فتطالب وتعمل -بُعيد انهيار الخلافة العثمانية- لاستعادة هوية الأمة -عبودية الإنسان والمجتمع لخالقه- واسترجاع الخلافة لتحقق للمسلمين وجودهم المعاصر. أما المشكلة اليهودية وإسرائيل فهي إشكالية خارجية (سياسياً)، ولكنها تضع بين يدي الحركة الإسلامية مشكلة داخلية (إنسانياً). وعملية خلق التوازن بين السياسي والإنساني، بين تحقيق الخلافة وبين تحقيق العبودية[4] هي لب إشكالية الإنسان التي تبنتها الحركة الإسلامية منذ يومها الأول. فإذا تنكرت لذلك فقد تنكرت لعلة وجودها ووظيفتها الأساسية. وإذا عجزت عن مواجهة الإشكالية ثم تفكيكها، فقد نكصت وحتماً تستبدل بغيرها ولا يضر الله شيئاً.
وهذه إشكالية كونية تواجهها الحركة الإسلامية، ولكننا نشهد واقعياً- أنها إما تتهرب من مواجهة إشكاليتها - التي فرضها عليها انتماءها الإسلامي - عن طريق الاختباء وراء خطاب إنشائي ميتافيزيقي متخبط. وإما تنخرط في حلول وضعية إستسلامية قد تركها أصحابها ولم تعد ذات جدوى سياسياً وإعلامياً. ولو أني لست من فريق مخاطبة الداخل اليهودي أو المتحمس له.. ولكن هذا لا يمنع الحركة الإسلامية من نزع بساط الحل الافتراضي من تحت "أقدام" الحركة الصهيونية. الحركة التي أقنعت اليهود بضرورة دولة مستقلة في فلسطين كي تحل الإشكالية اليهودية وتحقق لهم وجودهم الإنساني والسياسي. ولكنها لم تزدهم إلا خسارا.

القدس
13\12\2008
==================
[1] لتوضيح المصطلح نستعمل صيغة "نفرض أنّ".. على سبيل المثال: نفرض أنه توفر للحركة الصهيونية احتمالات تطبيق حلها في أوغندة وليس في فلسطين!! لو فرضنا أنّ واقع فلسطين عام 1948 كان مختلفاً.. أين يمكن للصهيونية تطبيق مخططاتها؟! وهل جغرافيا معينة ذات أهمية في حال استحالة الحل في فلسطين؟! ومطلق التطبيق هو توفر عامل المكان والزمان مطلقاً دون البحث عن تبريرات دينية توراتية أو تاريخية ميتافيزيقية.
[2] ممكن أن تكون عملية بومباي الأخيرة ضد اليهود (والأجانب) مثال ساطع لعولمة المشكلة اليهودية.. حتى يغدو اليهودي لا يشعر بالآمان في أيّ مكان أو حيز جغرافيِّ على وجه الأرض.. وهناك الجوانب النفسية والثقافية والسياسية والدبلوماسية وغيرها التي تعمق مشكلة اليهود عالمياً.. وليس فقط العمليات الميدانية القاسية.
[3] الأنسنة (Humanism) الفلسفة ذات الأصل الغربي والتي تضع الإنسان في المركز.. ولكن الإسلام بنظري يضع إشكالية الإنسان في المركز. والخطأ الفادح أنّ فلاسفة الأنسنة وحتى تلاميذهم الأشقياء من عرب ومسلمين (محمد أركون كنموذج) صنفوا الأديان ومن بينهم الإسلام أنه يضع الله في المركز.. تعالى الله عمّا يقولون علواً كبيراً .. فهو غني عن التمركز والتمحور مادياً ومعنوياً في منظورنا البشري فهو العلي المتعال . ولكن وإن فهم المسلمون دينهم بهذا الشكل المخطأ مما سمح للمستغرب بتفسير الإسلام كما علّمه أساتذته في مؤسسات الغرب العلمية .. لكننا نأخذ المفهوم والمضمون من كلام الله ذاته ومن حديث رسوله الكريم وليس من فهم الناس لمصدري التشريع. ولكن ليس هنا مقام التفصيل كيف أنّ آيات القرآن تضع إشكالية الإنسان الوجودية هي المركز لأنّ التكليف واقع عليه حتى يخلص من إشكاليته(فقط بانقضاء أجله-الموت).. وهذا مقصد التكليف. وبهذا التمركز لإشكالية الإنسان يرتبط تكريمه ("ولقد كرمنا بني آدم..") الفطري الأصولي.
[4] العبودية للخالق وما يتعلق بها شكلاً ومضموناً من قضايا التوحيد والعدل والتكريم والسماحة والحكمة والوسطية.. إلخ من معاني الإسلام ومفاهيمه الإنسانية.

الخميس، 27 نوفمبر 2008

قول في الحرية والسعادة وما بينهما

بقلم: أسامة عباس
أو.. حتى يصير الجانب الروحاني واقعاً إجتماعياً !!

إنَّ أشد ما ابتليت به الإنسانية في العصر الحديث وبالأخص بعد هيمنة المادية الغربية على الحياة بكل تفصيلاتها وكلياتها.. هي القطيعة المعنوية والواقعية بين الروح والمادة.. بين المعاني الإنسانية لآدم وبين وظيفته كخليفة في الأرض...
فلم يلبث جون بول سارتر[1] أكثر من نصف قرن بعد اعلان الفيلسوف الألماني نيتشة عن "موت الآلهة".. إلا وقد نطقها- وكأن يد التاريخ الخفية تخط صيرورة هذا الإنسان- معلناً عن "موت الإنسان". هذه العلاقة الحتمية بين الألهة والإنسان في الخط الفلسفي أو في الحياة إطلاقاً.. يدفعنا بدون تردد لربط الحرية بالسعادة.. ولكن يمكن تعقل هذه العلاقة في سياقها الغربي الأوروبي!! ويمكن تفهم ما الذي أوصلها لهذه الصيغة الفلسفية والحياتية دون غيرها!! وبالمقابل ما السعادة وما الحرية وما بينهما في وجودنا وسياقنا الإسلامي؟!!

عندما صرخ نيتشة بموت الإله.. لم يصرخ من فراغ! بل جاءت صرخته بعد قرون من الصمت الغربي تحت هيمنة الكنيسة على الإنسان ومقوماته وكرامته الفطرية. فقد مثلت الكنيسة -كما آمن بذلك ءاباء الكنيسة أنفسهم- عبر العصور، سلطة الله على الأرض.. وكان البابا ظل الله على الأرض، فهو الحكم الفصل في تحديد إرادة الله في الاجتماع والسياسة والاقتصاد والحرب والسلم. فالحروب الصليبية -كما أطلق عليها قادة الكنيسة- هي إرادة الله في تحرير الأرض المقدسة وتطهير العالم من الكفار والمرتدين. ومن بعدها محاكم التفتيش عبرت عن تطهير الكنيسة والمسيحية وأوروبا الكنسية من المشعوذين والفسقة والكفار من يهود ومسلمين ومسيحين... فقد كانت الكنيسة رمزاً للإله الظالم والمستبد والمتخلف والظلامي والجاهل ... وأسماءه وصفاته السيئة.
وحين سنحت الفرصة للعقل والروح الغربية التحرر من هذا الإله.. لم يتردد في إعلان وفاته بل صلبه ثم قتله.. وحمله في جنازة مهيبة تابوتها عقلانية مُنتقِمة، انتظرت قروناً عديدة تكفين جسدٍ مريض حبسها في ظلمات من فوقها ظلمات. هكذا في سياق تاريخي وسناريو تراجيدي انطوت صفحة الروح والمعاني في حضارة الغرب ليحل مكانها العقل بتجلياته "العقلانية".. معبراً عن حضور المادية وهيمنتها على الفكر والعلم والمنطق. فلم تكن نتيجة هذه الهيمنة إلا موت الإنسان .. الإنسان المعنى والروح.
إنّ الإشكالية وقعت عندما استطاع إنسان اللامعنى أن يستحدث حضارة متقدمة علمياً وتقنياً، وقد ابتدع فنوناً جمالية ومعارف إنسانية في النفس والاجتماع والكون، اجتمعت جميعها لتشكل أسلوبَ حياةٍ بديلٍ للغرب المتخلف قروناً طويلة. في هذه اللحظة التاريخية، وقف المسلم حائراً ينظر لذاته المتخلفة تارةً .. ويتطلع للغربي المتقدم تارةً آخرى، يكبله ماضٍ ذهبي.. ويشده حاضرٌ تعيسٌ.. في ازدواجية نفسية وثقافية تسري به روح سماوية قروناً.. ومادة ترابية تأكل من جسده حالياً.
هذه الازدواجية بين حرية الروح وجبرية المادة والواقع، دفعت المسلم للتعلق بحضارة الغرب، والتسول على باب فلسفاتها.. فحين انكشف[2] على مفاهيم الغرب كالحرية والعقلانية والتقدم والحداثة وغيرها.. استحوذت عليه وسلبته من روحه الأصيلة مبررة ذلك بواقعه المستحيل إنسانياً. ولو أنه كان سعيداً بواقعه ما اصتدم مع ذاته وروحه.. وما اختار أن يشريها[3] ابتغاء سعادة وهمية.. وعد نفسه أو وعدوه بتحقيقها إذا تبنى حرية الغرب بكلياتها العقلانية والحداثية وما بعد حداثية.
السعادة بالنسبة لي هي انسجام بين الروح والمادة، بين الذات والواقع.. بين حقيقة الآخرة والحياة الدنيا.. ولا ريب أنها أسلوب حياة في التفكير والسلوك وما بينهما… ولكن الأمر ليس نظرياً في كتاب مبين.. فعليَّ كمسلم أنّ أبدل جانبي الروحاني لواقع اجتماعي.. كي يبرر هذا الواقع الحقيقة القرآنية وصلاحيّتها.. أمّا إذا تمسكت بها بوضعها في صندوق مجوهرات وأحكم اغلاقه.. فحتماً سأخلع عني روحي الأصيلة موليَّاً قبلتي نحو سرابٍ خادع وشطر غربٍ غارقٍ.. لا يزيدني إلا شقاءاً وخلوداً في جبرية واقعية.. لا تحقق لي معاني الخلافة الذاتية والجماعية.
معاني الخلافة هي معاني السعادة والحرية.. ولكن من يكتشف هذه المعاني!؟! .. ومن يستشعرها!؟!
[1] فيلسوف وروائي مسرحي فرنسي (1905-1980) .. برز كأحد أكبر القلاسفة الوجوديين المعاصرين (الفلسفة الوجودية).
[2] متى انكشف المسلم على حضارة الغرب؟ سؤال عميق وكبير.. ولكن على الأقل يبدأ بعض المؤرخين بالحملة الفرنسية على مصر.
[3] يبيعها حسب التعبير القرآني.

الخميس، 20 نوفمبر 2008

إشكالية الفكر والسلوك في الحركة الإسلامية

خاطرة على أثر اجتماع لحركة طلابية إسلامية
كان فصل المقال ثقيلاً.. كما أنّ ناشئة الليل أشد وطئاً وأقوم قيلا.. تجلت حكمته سبحانه، وتقدس كلامه العلوي.. فوضعت جهازي على طاولة المصحف الخشبية.. وكأني أقرأ كتابه المسطور في آفاق خلقه المفطور.. فأسطر فيه كلماتي الثقيلة .. وأحفر في قلبي جروحاً عميقة.. وفي عقلي معانٍ أبدية.. وأمامي من على الشرفة ثلة من السكارى العرب في "قرية" الطلاب الغربية[1]… وفي خيالي أبناء حركتي الحيارى في "حارتنا" الإسلامية!! فوجدت نفسي أمام وجهتين كلتاهما هلاك للإنسانية.. هلاكٌ للخُلُقِ جنوبية وهلاك للفكر شمالية… فدعوت ربي هدايتي الربانية.. فهل من منقذ للبشرية.. في هذه الأزمة العقائدية حتى المالية!!
لقد بلغت تجربتي في ظل الحركة الإسلامية في البلاد لقناعة راسخة- وخاصة من خلال مسيرتي الحركية في العمل الإسلامي في الجامعة العبرية- خلاصتها أنّ الحركات الإسلامية تنقسم بمجملها إلى نوعين: الأولى تقود المسلمين وبالأخص أبنائها وتابعيها إلى حالة من التردي الأخلاقي، بعيداً عن مبادئها وقيمها التي أسست على ضوءها، وتسعى لتحقيقها في واقع المسلمين المعاصر. أمّا الآخرى ، فتقود المسلمين وبالأخص أبنائها وتابعيها لحالة من النكوص الفكري، بعد أن اكتسبت علة وجودها كي تُخرِج الواقع الإسلامي من شح الاجتهاد، والتخلف الفكري المستعصي منذ قرون. وهذه القناعة تكرست في تجربتي من خلال اطلاعي على الحركات والتيارات الإسلامية، على مستوى العالم العربي الإسلامي. فما الحالة الإسلامية في الجامعة العبرية إلا أنموذج مختزل لهذا الحال الممتد من طنجة إلى جاكرتا.. فإذا استحالت الخلافة في الجامعة .. استحالت بلا ريب حيث كان!!

ولكننا هنا لن نناقش الخلافة وإشكالياتها الحركية.. إنّما سنخص بالذكر نمطين الأول في التفكير وآخر في السلوك الحركي! لأنهما أساس الخلافة ومقدماتها! ولن تتحقق الخلافة واقعاً إلا إذا أسس لها فكرياً وسلوكياً. وسنبين الواجب الملقى على شباب هذه الأمة كي يتجاوزوا النمطين، علّنَا نخرج من مرحلة الترهل والإفلاس الحركي.

لقد ظهرت دعاوى الإصلاح الإسلامي والمتمثل في عدد من العلماء قبل سقوط الخلافة العثمانية في الربع الأول من القرن العشرين.. مما ينقض مقولة أنّ وجود الفساد –الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي- أو عدمه يتعلق بمجرد حضور الخلافة. ولكن مما لا شك فيه، أنّ اعلان نهاية الخلافة يشكل منعطفاً خطيراً في عقيدة وثقافة وشعور المسلمين وبالأخص القادة المؤسسين لفكرة الحركات الإسلامية. لذلك نجد أنّ أهداف وغايات الحركات الإسلامية تتمحور في أمرين فكرياً وسلوكياً: استرجاع وإحياء الفكر الإسلامي بين المسلمين، بعد قرون من الجمود والتخلف الفكري الاجتهادي. من ثم إحياء السلوك الأخلاقي والاجتماعي والسياسي المبني على الفكر الإسلامي. وهذا المزج بين الجانب الفكري والسلوكي ما يطبع هذا التيار الحركي بصفة الشمولية، فإذا اختل جانب من الجانبين فقدت الحركة مصداقيّتها وفشلت في تحقيق غاياتها وبرامجها.

بناءاً على هذا التناسق والانسجام بين الفكر والسلوك، فما من إشكالية أو أزمة تواجه الحركة إلا وارجعت لأحد طرفيّ المعادلة أو كلاهما. فإذا بحثنا في الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني منذ تأسيسها مروراً في فتنة الانشقاق ومتعلقاتها وحاضر الحركتين الإسلاميتين، لوجدنا أنّ المشكلة مشكلة حضارة كما وسمها مالك بن نبي رحمه الله: أفكار ميتة استباحت الفكر وأفكار مُميتة استباحت السلوك. ولن أعطي الأمثلة الكثيرة المنتشرة من النقب حتى الجليل ومن المثلث حتى الساحل.. ولكننا نشير لنماذج حتى لا نشخص الإشكالية فتضيع الفكرة والغاية تحت وطئة تقديس وعصمة الشيخ أو الحركة أو الصنم.
هلاك السلوك!!!
حين يبدأ الشيخ المؤسس العمل ضد مصالح حركته في بلد الشهداء كفر قاسم.. وحين ينغمس في العائلية التي حاربها أو أعلن محاربتها من صفوف الحركة الإسلامية، حتى دعاه الأمر كما علمت من مصادر حركية أنه غير اسم عائلته إلى"درويش" .. وقد علمنا أن الشيخ لا ينقصه عقلاً راجحاً ولا فكراً مستنيراً، إنّما يشهد له العدو والصديق والذين انشقوا عنه أنّه يحمل علماً غزيراً.. إذاً.. فما دهى الشيخ المؤسس؟!! وهذا نموذج يعكس السلوك الحركي الذي انطبعت به حركته المباركة.. حتى سمحت لنفسها أن تحتضن الشيخ سنوات طويلة رغم انحرفاته الحركية واستباحته للمنطق الحركي. وهذا سلوك غير أخلاقي يسمح للحركة أن تخرج إبناً لها بالأمس انتخبته لتمثيلها في الكنيست، واليوم تتبرأ منه .. فكم بالحريّ أن تطرد المؤسس الذي انغمس حتى أنفه بأخلاقيات المنفعة الشخصية والعائلية والسياسية. هذا التسيب الأخلاقي في منطق الحركة وسلوكها، ما أتاح لأبنائها المخلصين للتخلي عنها وتركها للذئاب لتنهش من أموالها ومقدراتها.. هكذا طبعت الحركة بسوء الخلق والسلوك.. وقد علمنا أن حسن الخلق والسلوك طرف من مقومات وجودها.
هلاك الفكر!!!
نعترف مسبقاً أن البحث في نمط التفكير يشكل تحدي من نوع آخر. فبعكس دراسة سلوك الحركة فإن التفكير الحركي يحتاج لسبر غور العقل الحركي ومتابعته في السر والعلن وفي الليل والنهار.. وهو يحتاج لاختراق كثافة الفعاليات والبرامج والمهرجانات وتسليط الضوء على نمط وأسلوب التفكير. وهذه الإشكالية إذا انطبعت بها الحركة كانت أخطر من الانحراف السلوكي. فالأخير ظاهر للعيان لا يحتاج لتبيان، ويلاحظه أي متابع لمسيرة الحركة الإسلامية.. وقد تتدارك الحركة امرها وتصلح ذاتها بذاتها أو يستبدلها ربها بقوم آخرين. أما الإشكالية الفكرية المتمثلة في شح التفكير المنطقي والبرهاني واستبداله بنمطق البيان الخطابي السطحي.. فهي إشكالية عميقة تُحفظ في دهاليز الحركة لا تخرج للنور ولا تتكشف للمسلمين إلا بعد فوات الآوان..

أمّا نوذجها الغير مشخص!!
في أحدى المحاضرات للشيخ أمام جموع طلاب الجامعات، تحدث عن صخرة تسقط من السماء على الولايات المتحدة لتغرقها في المحيط.. وقد مرت أعوام كثيرة ولم تصل هذه الصخرة إلى الأرض.. وأعترف حينها أني قلقت على أخ لنا سافر لدراسة الاقتصاد في نيويورك. ومؤخراً، إنّما غرقت الولايات المتحدة في أزمة مالية من داخلها بدون خرق للعادات وبدون معجزات..وكأن الله سبحانه وتعالى بحاجة لخرق سننه ونواميسه حتى يعاقب عباده الطاغين. وهذا التفكير الغير منطقي والمبني على خطابات بيانية أساسه شح الفكر.. يخترق صفوف الحركة وإن تعددت صوره وأشكاله ومواضيعه. ولأن الاعلام لا يترقب تصريحات الشيخ ولا يتناولها بالتحليل فإن نمط التفكير يكرس نفسه في عقول وأذهان أبناء الحركة دون رقيب أو حسيب.

إنّ هلاك الفكر في هذه الحركة يتمثل في عجزها عن إدارة الحوار مع الذات ومع الآخر.. وإدارة الحوار يعني هنا: آلية التفكير وبنية الفكر. والإشكالية ليست وجود آلية وبنية أو عدمه؟! فما من جماعة تنظيمية أو فكرية إلا بنت لنفسها أو تبنت شكل من أشكال الحوار !! إنّما.. أيّ نوع من آلية التفكير وبنية الفكر تنميها هذه الحركة؟! وهل تكرس اللامنطق واللامفكر فيه حركياً وفكرياً؟! وعندما تنحرف الحركة فكرياً .. نسمع من قادتها و"مفكريها" امكانية التحالف مع قوى علمانية بل عدوانية لذات الفكر والحركة.. بالأمس حاربتها وإلى اليوم تعاديها خطابياً.. ولكنهم يصَّرِحون في امكانية تقاطع المصالح في المدن والقرى العربية. ولكن من الجهة الآخرى، ترفض رفضاً قاطعا التحالف مع حركة إسلامية آخرى خرجت من مشكاة واحدة.. بل رفضت الحوار معها أعواماً كثيرة بعد الانشقاق. فأحلت الحوار وحرمته بناءاً على إشكالياتها الفكرية.
إنّ تفكيك السلوك الحركي يحتاج للاعلام أما تفكيك الفكر الحركي فيحتاج للحكمة (أنظر الفرق بين الفلسفة والحكمة)[2]، فإذا اجتمعت الحكمة بالاعلام لدى المسلمين عامة، واجتمع الوعي الإعلامي وحكمة الوعي لدى أبناء الحركة الإسلامية لتجاوزت الحركة إشكالياتها الفكرية والسلوكية.. وحققت إصلاحاتها الداخلية العميقة المطلوبة في هذه المرحلة من تاريخها الممتد، منذ انهيار الخلافة حتى انهيار تجاربها المختلفة في الجزائر والسودان وافغانستان والعراق وسوريا... وحتى أزماتها الداخلية في مصر وفلسطين والأردن وباكستان... وحتى تنوعاتها المتناقضة في إيران وتركيا ولبنان وماليزيا.
هذا التجاوز لن يقوم به مشايخ الطريقة القديمة وأتباعهم وورثتهم.. ولا منطق الفكر الميت ولا منطق السلوك المُميت... على شباب الحركة الواعي والمدرك لإشكالياتها الفكرية والسلوكية أن يجتمعوا معاً.. ولو تطلب الأمر تأسيس حركة ثالثة في الداخل الفلسطيني، تتجاوز سلبيات الحركة الأم.. فهذا أمر أقل خطورة من استمرارية الحركة وإشكالياتها . . .

[1] هي قرية الطلاب كما يطلق عليها في الجامعة العبرية في القدس... وهي قرية مصغرة للحياة البشرية في تعددها العقائدي والثقافي .. يطغى عليها بل تحكمها أساليب الحياة الغربية وما تشتمل عليه من استلاب حضاري للشباب المسلم والعربي.. إحدى تجليلته ثلاث شباب سكارى يصرخون ويلههم المرح.

[2] أما الفلسفة فهي منظومة التفكير التي تبيح للعقل البشري التخلص من محدوديته وتحرره من الغيبيات والمطلق العقائدي والأخلاقي. أما الحكمة فهي منظومة التفكير التي تبيح للعقل التفكير في محدوديته ونسبيته وادراكه لوجوب الغيب.
المغار
20\11\2009

الاثنين، 17 نوفمبر 2008

" إسرائيل" في النظام الكوني المحتمل (2)

بقلم: أسامة عباس
مدخل في منطق النظام:
مما لا شك فيه عندنا، أنّ ميلاد النظام وسياقاته يكونّ المعامل الأساس لمنطقه وأنّ سياقاته العقائدية والثقافية والاقتصادية تحدد صيرورته ووجهة تطوره التاريخي. فإذا اعتبرنا أنّ المحرك الرئيسي للتاريخ الإسلامي هم العرب، وذلك لحقيقة كون الرسالة المحمدية، حملها منذ بدايتها شخص عربي، وانتشرت في أرض عربية- فإنّ ممّا لا شك فيه، أنّهم هم العصب المركزي لهذا التاريخ، وهذا ليس لطبيعة قومية أو جينية وراثية لدى العرب، إنما لمتعلقات موضوعية لتطورهم التاريخي، وممّا يعبر عن هذه الحقيقة كون المسلمون من غير العرب وجدانياً وعملياً ينتظرون تحرك العرب في إقامة الاسلام وتمكينه مجدداً.
ونرى أنّ العرب حضارياً، كانوا قبل الإسلام يقبعون في هوامش الحضارات الإنسانية، بل يكاد لا يذكر لهم تاريخ ولا حضارة ولا انجاز على المستوى الإنساني. إلا ذلك الشعر العربي الذي حفظه لاحقاً الإسلام وعلومه الشرعية والأدبية، ليحرره بذلك من خصوصيته اللغوية القبلية الضيقة لينطلق بها من خلال رؤية قرآنية كونية، لتخترق حدود الشعر الجاهلي باتجاه مواضيع إنسانية في الفلسفة والسياسة والأخلاق والاجتماع والكون.
كذلك اللتقط الاسلام العربية من كونها لغة قبائل متفرقة، لتغدو لغة أمة حيّة، من علوم وثقافة وابداع وقيادة. فقد انتقلت لتصبح لغة لها مكانتها بين نظيراتها الحضارية كاللاتينية والفارسية وغيرها، بل قل أكثرها حضوراً وهيمنة. وكما أنّ هذه اللغة التي ارتبطت بالقرآن الكريم- كلام الله- دخلت في طور جديد، فإنّ مقومات ومكنونات العربي ارتقت نحو قمم سامقة. وهذا الطور الجديد، هو نظام كوني غيّر وضعية العرب النفسية والاجتماعية والثقافية والسياسية والحضارية. فميلاد العرب الحضاري هو ميلاد النظام الكوني الذي أنشأهم وصاغ واقعهم وتاريخهم.

ولا شك عندنا وعند كل مؤرخ موضوعي.. أنّ ميلاد هذا النظام بحيثياته الكلية والتفصيلية، كان نتيجة لرسالة عقائدية دينية حملها وبلّغها محمد بن عبد الله (صلوات ربي وسلامه عليه)، وقد أسس أركانها القرآن الكريم بكلام عربي مبين. فالمعادلة المنطقية في سياق التاريخ الاسلامي تتلخص بأنّ: العقيدة الدينية أنشأت نظاماً كونياً.. بعبارة آخرى: لم ينشأ لدى العرب نظاماً كونياً إلا بالفكرة الدينية، فبعد أنّ كانت العرب قبائل معدومة مقومات الأمة، جاءت الفكرة الدينية لتخرجها للحضارة والشهود الانساني، بل لتنشأ أمة جديدة ذات هوية وشخصية ومقومات.
وإذا تأملنا تجارب آخرى في التاريخ الانساني، نجد أن هذه الأمم لم تنشأ نتيجة بزوغ نظام كوني. بل كونها نتاج تطورات وصيرورات تاريخية خاصة. فالأغريق كانوا أمة عريقة تخوض الفلسفة والآداب والسياسة، من خلال المدن اليونانية كأثينا واسبارطة وغيرها، ولكنّهم اختزلوا علومهم في وجودهم العرقي وكياناتهم السياسية (polis[1]) . وفي مرحلة تاريخية بدأت فتوحات إكسندر المقدوني (توفي323 ق.م) لتمتد من وسط أوروبا حتى بلاد ما وراء النهر في الشرق. وهذه القوة الاستعمارية قامت بوظيفة نشر وتدويل علوم وثقافة وفلسفة الأغريق.
وإذا تأملنا التجربة البيزنطية والتي ورثت أمبراطوريتها من الامبراطورية الرومانية، نجدها قد أخذت الديانة المسيحية لتنشرها في الغرب والشرق وتكون الدين الرسمي (313 ميلاد). الفكرة الأغريقية أو الفكرة المسيحية لم تنشأ نظاماً كونياً.. بل إنّ الأنظمة السياسية والاستعمارية استغلتها لتكريس وجودها وسلطانها، فنجد أنّ المسيحية بخلفياتها الفلسفية الأغريقية واليونانية سيطرت على حضارة الغرب منذ قرون. بينما نجد أنّ الإسلام أنشأ أمة وصاغ نظاماً كونياً وفق عقائده ومقاصده وأفكاره.. فقد بدأ المسلمون الأوائل (منذ النبوة المحمدية) في بناء نظام كوني لم يكن موجدوداً، وهذا يشكل فارقاً جوهرياً بين التجارب الأممية، لا يمكن إلا أن تترك أثرها في منطق التجربة وسياقاتها السياسية والاقتصادية والثقافية.

بناء على هذا المنطق التاريخي، يكون خوضنا في نوعية النظام الكوني إنّما ربطٌ لسياقاته السياسية والثقافية المناسبة. ولا يمكننا إجراء اسقاطات تاريخية من تجربة أممية معينة على تجربة آخرى. فعند دراسة ظاهرة معينة في التجربة الإسلامية فعلينا تحليلها ودراستها ضمن سياقاتها الخاصة والمتعلقة، وهذه منهجية تعمق فهمنا وادراكنا لتاريخ وواقع الظاهرة بل التجربة بكلياتها الكونية.
من هذا المدخل... ندخل لتحليل وضعية إسرائيل وإشكاليتها الوجودية!!
يتبع .... (3)
ملاحظات: [1] "البوليس"- تجمع أو وحدة سياسية مستقلة انتشرت في اليونان القديمة، ويطلق عليها (مدينة-دولة) زودت سكانها بالحاجيات من الأمن والحماية والقضاء والثقافة والطقوس الدينية والتربية والرفاه. وقد كانت بمثابة مركزمدني للمناطق القروية.. وقد تميزت بالتقسيم الطبقي بين سكانها: المواطنون والغرباء والعبيد.

الأربعاء، 12 نوفمبر 2008

أوباما ولقمان الحكيم !!! الحلم الأمريكي وسياسة بناء الأسطورة

بقلم: أسامة عباس
من المثير للعجب!! كيف تتبدل المشاعر الجماهيرية والشعبية خلال فترة زمنية وجيزة!! وكيف تتغير مواقف وقناعات جماهيرية ونخبوية من حدث لآخر!! وكيف توجه السياسة الاعلامية في مواجهة حقائق سادت دهراً، سياسياً ودولياً واعلامياً!! تحاول اقناعنا ببزوغ فجر جديد وبداية عهد ذهبي. وكأن هذه الأطراف تنتظر الفرص الذهبية من أجل إعادة صياغة مصالحها ومواقفها وسياساتها المعهودة. لقد واجهنا صيرورات كهذه منذ اعلان فوز المرشح الديمقراطي باراك حسين أوباما في انتخابات الرئاسة الأمريكية.
إننا لن نناقش شخصية أوباما وانجازاته حتى دخوله للبيت الأبيض. فهي تدخل في سيرته الذاتية وظروفه وسياقاته الثقافية ونشاطه السياسي. فلا شك أن أوباما كشخصية سياسية تثير الاهتمام والرغبة في البحث عن حقائق تجربته الجماهيرية في سياقها الثقافي الأمريكي، وما يتعلق بالديمقراطية وممارساتها والعنصرية ضد السود والتطهير العرقي. والأمر لا يدعيني للبحث والكتابة والتفرغ للموضوع على المستوى الشخصي، ولا أعتقد أنه في سلم أولوياتنا كمسلمين. خاصة أن على آثر فوز أوباما، تحاول بعض الجهات اقناعنا بأن عهداً مثالياً قد بدأ، عهداً طوى صفحة الظلم والتمييز والفوقية البيضاء. والأخطر أن هذا العهد يُسقََطُ على العالم أجمع.. وكأن ما ينطبق على الولايات المتحدة ينطبق على البشرية جمعاء.. وما يتعلق بصيرورة الولايات المتحدة تخضع له الإنسانية كافة.. وكأن العنصرية المتجذرة ضد السود في النفسية والثقافة الأمريكية سادت كذلك عند الشعوب الآخرى.
الأسطورة ووظيفتها
يُصور لنا أن انتخاب أوباما للرئاسة الأمريكية هو تغيير-شعار أوباما الانتخابي- على المستوى العالمي، وكأن العالم انتخبه بل انتظره كمخلص آخر الزمان، وهذه هي العولمة الأمريكية في أبشع صورها، وخاصة عندما تتمثل في نفسية وشعور الجماهير والشعوب المغلوبة ثقافياً واعلامياً.. والأخطر عندما تشارك نخب سياسية واعلامية وثقافية مسلوبة في بناء وتكريس هذه الأسطورة المعولمة في نفوس هذه الشعوب. يكفيني أن أدعي حقيقة كونها أسطورة أحكم تصميمها داخلياً في الولايات المتحدة بناءاً على مصالح وسياقات سياسية واقتصادية داخلية.
خلال فترة رئاسة جورج بوش، غرقت الولايات المتحدة نتيجة سياساته الغبية والمتهورة في مستنقعات عديدة، أخطرها في أفغانستان والعراق، مما شكل صورتها الاستعمارية في أذهان الشعوب، خاصة العربية والإسلامية، وتكرست الكراهية للإدارة الأمريكية برموزها وقيمها في الديمقراطية والحرية. حتى ظهر السؤال الأمريكي: لماذا يكرهوننا؟! وكأن السؤال بحاجة لإجابة. هذه الصورة الذهنية-الواقعية لدى شعوب العالم وارتدادها على الشعب الأمريكي داخلياً وتأثيراتها عليه..بالإضافة لأسباب موضوعية (السياسة الداخلية ومؤخراً الأزمة المالية) تعبر عن فشل الإدارة السابقة، سهلت على أي مرشح ديمقراطي انهاء حقبة الحزب الجمهوري وخاصة ثلة المحافظين الجدد.
في ظل التعقيدات الداخلية والخارجية، كان على النخب الأمريكية صياغة أسطورة معولمة تخرج الولايات المتحدة من أزماتها وتعيد ثقة الشعب الأمريكي بذاته، وتستعيد صورة الحلم الأمريكي في نفوس شعوب العالم. فكان بارك أوباما الفرصة لاحكام سياسة الأسطورة وتسويقها في الداخل والخارج، وهذا لا ينقص من قيمة أوباما الذاتية وتجربته المثيرة.. ولكن لا يمكنها أن تخدعنا وتلهينا عن القضية الجوهرية: أنّ السياسة الأمريكية لا تتبدل بانتماء الرئيس الأمريكي السياسي والحزبي أوالإثني والعنصري.. ولا تنتفي عنها صفة الهيمنة والتمييز واستغلال ثروات الشعوب بمجرد انتخاب إدارة جديدة.
لون البشرة والفرصة!!!
ولا بد لنا ختاماً، من التعليق على لون بشرة أوباما.. وكون الأسطورة وهمية ولكنها في عصر الاعلام والعولمة الثقافية تتحرك بحرية وترافقها هيمنة النموذج الأمريكي والغربي. كما كان سائداً في الثقافات البدائية مما اتاح لنا دراسة حقيقة الأساطير وعلة انتاجها. واعترف أني علمت مؤخراً، حقيقة لقمان الحكيم بالرغم من حفظي لسورة لقمان منذ سنوات. فقد كان عبداً أسوداً حبشياً من سودان مصر، عظيم الشفتين والمنخرين، قصيرا أفطس مشقق القدمين، ولكن لا يضره ذلك عند الله عز وجل، فقد شرفه بالحكمة بقوله تعالى: (ولقد آتينا لقمان الحكمة). وقد قيل في الأثر: خير السودان أربعة رجال: لقمان بن باعوراء. وبلال بن رباح المؤذن: الذي عذب في الله ما لم يعذبه أحد، وهو يقول: أحد أحد. والنجاشي: ملك الحبشة. ومهجع: مولى عمر يقال أنه من أهل اليمن، وهو من المهاجرين الأولين وهو أول من استشهد يوم بدر.
وهذه بعض من نصائح ومواعظ لقمان لابنه: يا بني : كذب من قال: إن الشر يطفئ الشر، فإن كان صادقا فليوقد نارا إلى جنب نار فلينظر هل تطفئ إحداهما الأخرى؟ وإلا فإن الخير يطفئ الشر كما يطفئ الماء النار. وقال يا بني: الرفق رأس الحكمة. وهذ حكم تكفي لأوباما والرؤساء البيض من قبله لتغيير سياسات الولايات المتحدة اتجاه الشعوب المستضعفة.
إنّ مجرد وجود سورة قرآنية تُتلى وتقص علينا حمكة لقمان العبد الأسود.. وحقيقة التصور العقائدي والتشريعي والفكري الذي صاغه القرآن الكريم وحديث رسولنا الكريم، لا يجعلنا نعتقد بثورية رئاسة أوباما الأسود على الشعب الأمريكي. بل يثبت أمامنا، تخلف الحضارة الغربية والديمقراطية الأمريكية وراء حضارة القرآن والإسلام الذي نزع من ضمير المسلم، منذ قرون، الشعور بالفوقية والاستعلاء البشري على ضوء اللون أو العنصر. إذاً أسطورة أوباما، هي نتاج ضمير غربي عاش دهوراً وقروناً في عنصرية جاهلية، لا يمكن لضمير مسلم تعقلها وهضمها نفسياً وسياسياً وعملياً. وليس من الموضوعية والتجرد العلمي عولمة الضمير والشعور الأمريكي-الغربي واسقاطه على تجارب حضارية آخرى (خاصة الإسلامية) تجاوزت أزماته وإشكالياته الثقافية والسياسية والاقتصادية.
والفارق أن أوباما أسطورة وحلم لن نبخل عليه بفرصة، ليحقق ذاته في عالم واقعي.. ولكنّ لقمان الحكيم كان واقعاً مثالياً.. يقدم لنا مقاربة عميقة بين الأصالة والمعاصرة.. معبرة عن حضورمثالي للواقع.. وحضور واقع للمثالية.

الاثنين، 13 أكتوبر 2008

آن .. للعقل الأوروبي أن يستيقظ !!!

بقلم: أسامة عباس
حتى هذه اللحظة لم يقنعني أحدٌ بفكرة فصل الدين عن السياسة (أو ما تسمى علمانية الدولة) مهما بلغ هذا بالإبداع والعبقرية منزلة تضاهي المعلم الأول أرسطو أو ديكارت أو فلاسفة الحداثة بتقلباتهم المتعددة. وهل لعبقري ارتقى في مدارج العقلانية أن يدعوَ لفض ممارسة السياسة (التي تعني في جوهرها قيادة الجماهير نحو حياة أفضل) عن ممارسة الأخلاق والفضيلة والعدل في حياتنا الفردية والجماعية الخاصة والعامة. وهل هذه الدعوة الممنهجة سوى دعوة من يسعى لذاته بتبرير ممارسة سياسة تختزل في باطنها وظاهرها الفساد والجشع والظلم والإحتكار, إقتصادياً أو ثقافياً أو عسكرياً.
وإذا افترضنا أنّ فكرة الفصل والقطيعة هذه.. كانت ضرورة حتمية في مسيرة العقل الغربي والأوروبي خاصة، فمما لا ريب فيه، أن هذه القطيعة منحت للغرب فرصة التخلص من عصور الظلام والتخلف. وذلك لمسوغات اجتماعية وثقافية ودينية سادت في أوروبا قروناً مديدة، منذ أن اعتنق الأمبرطور الروماني الديانة المسيحية عام 313 بعد ميلاد السيد المسيح عليه السلام، وفرض دين الدولة على شعوب أوروبا والشرق. فالدين الجديد تشكل دون علاقة بنظام سياسي، والسياسة \ الدولة جاءت في هذا السياق لتستغل الدين وتستثمره في الهيمنة واحتكار القوة والمعرفة والإرادة. ولكنّ الإسلام بالمقابل أنشأ سياسة وثقافة واقتصاداً، فالأصل في التجربة الإسلامية هو الدين.. كفكرة مؤسسة للحياة. وهذا اختلاف جوهريٌُّ بين العقل الإسلامي والعقل الأوروبيّ. وكفانا هذا.. حتى ندرك عدم منطقية الفصل بين الدين والسياسة في العقلية الإسلامية، بل عبثية التفكير والانشغال وراء دعوة سرابية، لا تعبر إلا عن سنة التطبع بفكر وملبس ومشرب الغالب المُهيّمن (أبن خلدون-المقدمة)، بإرادة وقابلية المغلوب المستضعَف (مالك بن نبي-شروط النهضة).
هذه القطيعة المنهجية بين طبيعة العقليّن والتجربتين، دفع المسلمون الأوائل للإستفادة من علوم ومعارف أجنبية وخاصة الغربية مثل اليونان والأغريق. بل إنَّ المُطّلِع على تاريخ الفكر، يدرك دور المسلمين في الحفاظ على موروثات أرسطو وأفلاطون وغيرهم من فلاسفة وعلماء الغرب، والحقيقة أنهم أورثوا الغرب بعد ذلك دون تغييب واسقاط لتراثه. ولكنَّ الغرب من جهة آخرى، حين قدر الله له أن يدخل دورته الحضارية منذ عصر التنوير، انتزع لذاته من علوم ومعارف المسلمين بانتقائية خبيثة وغيّب أصولها الإسلامية. وإنَّ المتتبع لفلسفة الغرب وجذورها أو علوم الطب والرياضيات والفلك وسواها، يدرك دور العقل الإسلامي في بعث النهضة الأوروبي. وليس من الصعوبة تتبع فكر وعقل حجة الإسلام أبو حامد الغزالي (المتوفي 505 هجري (1111 ميلادي) او المعلم أبن رشد (المتوفى 595 هجري) في ايقاظ العقل الغربي من سباته العميق قروناً في عصور الظلام الوسطى.
كانت هذه مقدمة ضرورية، لا بد منها، كي نخوض في سؤالنا-عنواننا في هذه الأيام المصيرية من مستقبل الرأسمالية والليبرالية الغربية، في ظل الأزمة الاقتصادية وانهيار المؤسسات المالية العملاقة في الولايات المتحدة وأوروبا. ولا يخفى على أحدٍ، أنّ هذه المسألة والخوض فيها كانت من المحرمات في الخطاب الغربي الداخلي، فقد اطمئن علماء الاقتصاد ودعاة الرأسمالية المتوحشة وليبرالية السوق المفتوح، لفكرة نهاية التاريخ المفضية إلى انتصار النظام الاقتصادي الرأسمالي.. ومن ثمَّ العقل الديمقراطي الغربي. فكان مجرد ظهور شخص يطالب من على وسائل الاعلام بتخفيف حدةِ المنظومة الرأسمالية ووحشيتها المتمثلة في الاستقطاب المالي- كان هذا الخطاب يثير سخرية وتهكم "مشايخ الرأسمال الليبرالي" ويُتَهَمُ بالرجعية والتخلف والدعوة لأفكار بالية أكل الدهر عليها وشرب. وهي ليست مطالب ثورية تسعى لاسترجاع المنظومات الاشتراكية أو شيوعية، فكيف إذا كانت دعوة لتبني الاقتصاد الإسلامي كمشروع بديل.
هذه العنجهية والاستكبار انقلبت على أدبارها في خطاب الرئيس الأمريكي، حين أعلن عن تدخل الدولة في النظام المالي وتخصيصها لميزانية (من دافع الضرائب الأمريكي) لإنقاذ الإقتصاد والمؤسسات المالية من الانهيار التام، مع العلم أنّ مجرد تدخل الدولة في السوق الاقتصادي ينقض الفكر الرأسمالي القائم على عقيدة التوازن والانسجام في منظومة السوق الحر, بحيث إن تُرك السوقُ دون تدخل الدولة وأُطلِقت الحرية الاقتصادية فسوف يوازن السوق نفسه بنفسه. وإذ بالدولة ليس فقط تقدم المساعدات المالية بل تبادر لتأميم المؤسسات نقيض خصخصة السوق أهم ركائز الرأسمالية الليبرالية.
واللافت للنظر كيف أنّ هذا السوق الليبرالي المُعَولم، أبى إلا أن يشترك في حصار غزة الظالم، بل أن يكون أقسى أنواع الحصار وحشية. فعلى مدار أشهر طويلة لم تصل حرية السوق والتجارة لقطاع غزة. وهذه قطيعة لم يحدثها نظامٌ سياسيٌّ استعماري بهذه الصورة البشعة على مدار التاريخ الانساني.. قطيعة بين السياسة والاقتصاد من جهة وبين الأخلاق والعدل من جهة آخرى. وهي قطيعة سهلة على النفس البشرية وعلى مؤسسات المال العملاقة، لأنها تطلق لغرائز الانسان -وأخلاقيات الشركات- العنانَ وتحرره من كرامته وفضيلته وانسانيته. . مع أنّ القطيعة كان من الواجب أن يُحدِثها العقلُ الغربي( والإنساني بشكل عام) بين السياسة والاقتصاد.. فهذا الأمر الطبيعي نحو حياة إنسانية أفضل، فلا يخفى علينا نماذجَ تَحكُم السياسة في الاقتصاد أو تحكم الاقتصاد في السياسة.. جدلية لا تكرس إلا الظلم والاحتكار والفقر، ويكون "دولة بين الأغنياء".
ولم أذكر في العنوان استيقاظ العقل الغربي عامة.. بل الأوروبي خاصة. فالعقل الأمريكي السائد الآن.. أسس على مجتمع المهاجرين، عاجزٌ عن استرجاع أصوله الممتدة منذ اليونان والأغريق والرومان.. وهو لا يستشعر كما العقل الأوروبي حقيقة الوصل والوصال بينه وبين العقل الإسلامي الذي انقذه قبل قرون من ظلماته، واليوم يمد له يد العناية الألهية لوصل العقل بالإيمان ووصل المعرفة بالفضيلة ووصل السياسة بالأخلاق ووصل الاقتصاد بالعدل.. بعد قطيعة تجلت وحشيتها وخطورتها على حضارة الغرب.. وتجلياتها المستمرة في الأزمة الحالية.. بعد أن انتقوا من حضارة الإسلام علومَها ومعارفَها وتركوا أصولَها المؤسِسة.. فإن ربحت الحضارة الغربية فرصة جديدة للمراجعة والاستيقاظ.. فإنها مما لاشك فيه تكون الأخيرة في دورته الحضارية والسؤال: متى؟ غيبيّ خارج نطاق العقلي. ولكن الأفكار دون الأشخاص والنظم تأخذ مداها قبل التهافت. فالتجارب علّمتنا أنه عندما تدخل "حرية السوق الرأسمالي" في الأزمات.. فإن ديمقراطية الغرب السياسية تفتعل الحروب وتكشف عن أنيابها الحضارية.. مما يعرض إيران للاعتداء السافر المحتمل.. محاولة لتجديد السوق وتنشيطه...
وإنّ عقلاً استباح كل المحرمات الحضارية.. وسخر له الدينُ متمثلاً في مرجعيته التاريخية هذه الفتوى : "נראה כי הן במישור הלאומי והן במישור הבין-לאומי השוק החופשי הינו האמצעי האפקטיבי ביותר להשקעת משאבים ולספוק חסרים ורצונות " (איגרת אפיפיורית(1991) وإنّ عقلاً هيّمنت عليه فلسفة نسبية الأخلاق والفضيلة والعدل : " עוד לא נמצאה חוקיות, אשר תגדיר עבור כל מקרה ומקרה, מה הוא 'צדק חברתי'." (פרידריך האייק, 1976).. لهو عقل في أمس الحاجة لهزة غيّبيّة عنيفة يمكنها أن تعيد إليه صوابه ورشده وإنسانيته.. أو تفنيه عن الوجود.. أو أنّه يستيقظ بإرادته ليعدِّل مساره نحو الخلود الكوني.
والله من وراء القصد
القدس 13 أكتوبر 2008

الأحد، 14 سبتمبر 2008

إسرائيل والنظام الكوني المحتمل -1

بقلم:- أسامة عباس القدس
هكذا مُزِِقَ العلمُ..!! مقدمة

هي اللحظة، اصطف فيها مئات الأطفال وطلاب المدراس، يرفعون بحفاوة، راياتهم البيض ممتزجة باللون الأزرق، لحظتئذ بدأت سيرتي الذاتية، وكأنها بداية التاريخ. لقد كان موقفاً عظيماً حين أدركته، وبدأتُ سَبرَ أغواره واستشراف تطوراته في حياتي الفكرية لاحقاً. ولكنَّه يبدو موقفاً ساذجاً وغريباً لطفلٍ في لحظته الموضوعية.
هنا في قرية جليليّة مُغْرَقة بالتناقضات، وعلى الطريق الرئيس في مركز البلدة، عندها لم أبلغ الحُلُم بعد، وقفتُ وأبناءُ جيلي نستقبل بالهتافات والأعلام "رئيس دولتنا" في حينها. وإن كانت الصورة المتحركة في ذاكرتي، لا تتعدى حلم قصير جداً، لا يتجاوز جزيئات الثانية الواحدة. إلا أنَّها لحظة تختزل- بالرغم من صغرها- الوعي واللاوعي الإنساني.. وكأنَّها ذلك "الثقب الأسود" شديد الكثافة، والذي لم أدرك حقيقته العلمية من قِبَلِ علماء الفيزياء- سوى أنّه قادر على ابتلاع الكون حيث ينعدم وجوده المادي. ولعلَّ كثافة اللحظة وتأثيراتها النفسية والفطرية حينئذ، جعلتني اليوم، أفتتح بها مقالي الأول من نوعه، في موضوع الصراع العربي-الإسرائيلي (سمِّه ما شئت حالياً)، وحقيقة كوّنها لازمتني في الوعي واللاوعي زمناَ من عمري طويل... فجَّرتْ في داخلي رغبةً جامحةً في الحوار مع الذات والغير، عن طريق الكتابة ومن أجل المعرفة الكونية للنفس والمجتمع.
ولكن، ما كان يمكن للّحظةِ ذاتها أن تحملَ معانٍ، لولا وجود ذروة لها.. عندها مرت قافلةُ الرئيس وحاشيته أمام كبريائي، فمنحها القدر-أي اللحظة- معانيَّها وحقيقتها وتداعياتها. كنت قد حَملتُ العلمَ أو حُمِّلتُه –لا أدري- ورأيت بياضَه وزرقتَه.. ورغم هيبته وجمال ألوانه مزقته قطعاً صغيرة ورميت بها على الأرض ودوستها بقدميّ. لا أذكر أنِّي في لحظتها شعرت بشيء ما، ولكن ممّا أذكر، وكأنها لحظة اسيقاظ المرء من حلم جميل وخطير، حين رجعت إلى بيت أهلي، انتابني شعور بالنصر, أو قل: شعور بالحرية.
ولعل هذا المشهد، يختلف اختلافاً جوهرياً مع مشاهد آخرى شبيهة، تمتلئ بها وسائل الاعلام، من حرق للعلم الإسرائيلي والأمريكي في مشرق ومغرب عالمنا الإسلامي. فهناك يُحرقُ العلم بدافع سياسيّ محضٍ أو احتجاجيِّ جليّ، ولا أدري أَينبُع من وعيٍ أو يأسٍ أو كراهية مجردة، أو كوّنه ضغط جماعيّ.. تخلله السياق السياسي والعاطفي في قلب المظاهرة. ولكن ممّا لا شك فيه، أنّ موقف الطفل، فرضه ناموس فطريٌّ سرى في عروقه مجرى الدم، لم يتعلق بوراثة بيولوجية أو سياسية، عائلية كانت أم حزبية. إنمّا تشكل من قوة باطنية غيّبيّة، رفضت الخضوع للواقع، ورأت تناقض الحالة، مع مكنوناتها الانسانية والعقائدية الفطرية . . . لهذا مَزَّقَ العلمَ..
مُزِقَ العلمُ إذاً... وهكذا تُمَزَقُ القضية وتفكك.. وهكذا نتجاوز التناقض .. وهذه بداية النظام. . ولكنِّي أجزِمُ أنّ بدايته ليست في فلسطين.. أو لعله ينتهي إليها..
ولكي نخوض في قضية شائكة مثل هذه، بل أبلغها تعقيداً على الاطلاق، ليس فقط في التاريخ المعاصر، إنّما منذ ميلاد التاريخ الاسلامي منذ أربعة عشر قرناً مضت- علينا في البداية، ترتيب منطق النظام الكوني فلسفياً وتاريخياً، ممّا يوفر لنا الخلفية النظرية والتحليلية لمنجهية العقل الكوني. وحقيقة تعقيدها -أيّ القضية- لا تنبع من صعوبة تفكيكها المعنوي والمادي.. كما فعل ذلك المسلمون قديماً بالتجربة الصليبية أو التتارية أو المغولية.. إنّما لتعلقها في وضعية المسلمين الروحية والحضارية في ظرف تاريخي، له سياقاته الذاتية والدولية، بغض النظر عن نوعية الآخر، ومُسَوِغَات وجوده، ومقدراته، وامكانياته المتوفرة. وهي بدون شك، القضية التي تداخلت فيها غالبية الخطوط الدولية المعاصرة، وتشابكت وتقاطعت فيها أكثر المصالح والسياسات الدولية. ولعل تهافت القراءات المتعددة للقضية ووصولها لطريق مسدود.. وتيه العقول في إيجاد الحلول المُرضية.. وقنوط النفوس من أُفُقٍ قريبٍ وفجرٍ جديد- يدفعنا للرجوع لمنطق الطفل وفطرته.. حيث يؤسس لقراءةٍ استثائية ضمن أصالة معاصرة، تعيدنا إلى سياقنا الحضاري الكوني، بعيداً عن تكريس الأزمات وتبعية البدائل والحلول، وتبعدنا عن استلابٍ أُصُوليٍّ مستغرق في ماضٍ خياليٍّ ، يجردنا من أصالتنا العقائدية والحضارية.
فلمّا تجلى الشيخُ للسياسة ظهر تناقضه وبدت سوءاته وشُقَ صفُه.. حينئذ برزت براغماتيته بنتانتها المعنوية حتى في رمضان الطهر.. وعلى مائدة رئيس الدولة الصائم عن كل رحمة بأُمّة الشيخ، من لبنان وعناقيده في قانا.. حتى تفصيلات مشروعه الصهيوني عبر مسيرته، منذ عقود وخلال شهور الرحمة المتعاقبة. ولمّا تستر الشيخ الآخر، بثوب الأصولية بعد الشق.. لم يلبث نقيضه إلا أن تجلّى في سلوكه اليومي متخفيّاً وراء مزايدات خطابية على المنابر وما وراء الكواليس الحركية. نموذجان الأول للتبعية الجليّة، والآخر للاستلاب الخفيّ.. وكلاهما نقيض حقيقة النظام ومنطق العقل الكوني. والعودة لأصالة الطفولة الحركية هي الآن الضرورة الحتمية لتجاوز نموذج الشيخ، من أجل عملية تأسيس لعقلية إسلامية أصيلة ومعاصرة. أصالة معاصرة تسعى لفكفكة "القضية الفلسطينية" بطريقة أقرب إلى روح الكونية الإسلامية ومنطق المعاصرة الربانية.
يتبع لاحقاً.. "إسرائيل في النظام الكوني (2)"

الجمعة، 29 أغسطس 2008

أزمة الغرب ودور العالم الإسلامي في لحظة الانهيار الكوني

بقلم: أسامة عباس-القدس
المواضيع:
- انتفاض الدب الروسي: الأزمة الجورجية والقطب المحتمل!!
- الانهيار الأمريكي: الارتباك ومستقبل القطب الواحد!!
- البديل الإسلامي الكوني!! هل آن الآوان؟؟
كنت قد جلست مستقراً على مقعد استراتيجي في الحافلة على خط تل أبيب-القدس, وما ظننت أنيّ في هذه الليلة سأطرق باب الاستراتيجية الكونية ومصير "الانسان المدني" ..من اعظم وحدة سياسية معاصرة-كالولايات المتحدة الأمريكية- حتى أصغرها حجماً وتأثيراً الحركة الإسلامية في الجامعة العبرية في القدس، ولو أنّ هذه الأفكار والخواطر ما زالت تختلج في داخلي وتتقلب في أشكالٍ وصورٍ وموجات متباينة منذ زمن. فلم ألبث حتى وضعت جهازي "الأمريكي" الصنع لأستمع مستغرقاً للقرآن الكريم, وخواطر الإمام الشعراوي رحمه الله, وأبيات الشعر العربي السياسي, ومقاطع موسيقية هادئة ترتفع بي من هموم السفر المؤقت وكروب واقعنا الإسلامي المزمنة. في تلك اللحظات، وإذ بسائق الباص يعرض للمسافرين فيلماً سينمائياً أمريكياً.. محاولاً بذلك تحسين مستوى الخدمة ورفاهية المسافرين ضمن شركة المواصلات العامة (أجِد). والحقيقة أنّ مضمون الفيلم، والعبقرية البشرية التي تمثلث في فكرته وطريقة عرضها- بعيداً عن عدم واقعية الأحداث بل خيالية المخرج- دفعتني في لحظة فكرية لها خلفياتها سؤال نفسي: ماذا يخسر العالم إذا انهارت أمريكا كقوة إقتصادية وسياسية وعلمية وثقافية؟؟ وما القوة البديلة التي من البديهي أن تملئ الفراغ من بعدها؟؟ هل هي روسيا ؟ أم هي الصين؟ أم الهند؟ أم منّ؟. وهل البديل المحتمل أفضل؟!.
وفي ظل هذا السؤال الوجودي للواقع السياسي الكوني- المهيمن منذ عقود قليلة- وتداعياته الحضارية والثقافية، دفعني لربط أحداث كونية بعضها ببعض بالاضافة لترتيب أحداث آخرى محلية ضمن سياقاتها الكونية.. باحثاً عن منظومة استراتيجية لتنظيم وإدارة الأفكار والأحداث والتأملات والتطلعات السياسية والحضارية للمراقب المسلم .. وفي ظلال الحالة الفكرية انيثق التساؤل الفطري والمنطقي للسؤال ذاته: وما هو دور العالم الإسلامي في "لحظة" الأنهيار الأمريكي ونتائجها الدولية والأقليمية.. وهل حقاً من مصلحتنا أنهيار النظام الكوني الأمريكي في هذه المرحلة التاريخية؟ وما موقفنا السياسي والحضاري من اللاعبين المحتملين لملئ الفراغ الكوني المحتمل؟!.
إذا اعتبرنا أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر، كانت منعطفاً خطيراً في السياسة الأمريكية وتحديدها للخارطة السياسية الدولية, بناءاً على حملة الحرب على "الإرهاب" وتصنيف العالم إلى فسطاطين: من معنا ومن ضدنا. فإنّ مراقبين كُثر، اعتبروا أن الحرب الروسية-جورجية هي المنعطف المضاد للسياسية الأمريكية وإعادة رسم الخارطة الدولية السياسية.. بل العودة إلى الحرب الباردة ثنائية الأقطاب وتجاوز مرحلة احادية القطب المتمثل بالهيمنة الأمريكية. إنّ الهجوم الخاطف للدب الروسي، على حليفة الولايات المتحدة على الحدود الروسية, قلَبَ الدبلوماسية الروسية المعهودة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي - من دولة تسعى للحفاظ على وجودها السياسي في حدودها الجغرافية، إلى لاعب دولي، تحسب له القوى العظمى حساباً، ولا يستأذن أحد للسيطرة على دولة مستقلة آخرى والهيمنة على الفعل ورد الفعل. إذا قارنّا هذه الخطوة، بالتخلي الروسي بقيادة يلتسين عن الحليف الاستراتيجي ميلوسوفيتش اليوغسلافي، حتى عدم محاولة ردع الولايات المتحدة في قصف يوغسلافيا- بغطاء حلف الناتو الأطلسي- وإسقاط مليسوفيتش، واختراق أوروبا الشرقية ودولها التي شكلت من فترة وجيزة جزءاً مهماً من الاتحاد السوفيتي القطب الكوني الثاني سابقاً.
ولو أنّا لا نريد تحميل الاجتياح الروسي لجورجيا أكثر مما يحتمل عسكرياً.. إلا انه لا يخفى على المراقب مدى الارتباك الأمريكي في التعامل مع المباغتة الروسية, وانقلاب الدبلوماسية الروسية في إدارة الأزمات. فحتى هذه اللحظة، بالرغم من توقيع التفهام على النقاط الستة التي يتخللها انسحاب القوات الروسية، إلا أنّ الجيش الروسي ما زال على الأراضي الجورجية وقد أعلن الدومة عن تأيديه لاستقلال أبخازيا ضد الإرادة الدولية –الدول الغربية- ضارباً بعرض الحائط موازين القوى التي اعتدناها حتى الآن. زد على ذلك تهديدات روسيا بتجميد العلاقات مع حلف الناتو ووقف المفاوضات حول منظمة التجارة العالمية (وهناك تطورات متسارعة لن يحصيها هذا المقال).
وكمؤشر خطير للارتباك في السياسة الأمريكية، تم تسريع الإتفاقية التي تتيح نشر منظومة الصواريخ الأمريكية في بولندة. وبموجب هذا الاتفاق ستتمكن الولايات المتحدة من نشر عشرة صواريخ اعتراضية قادرة على تدمير صواريخ بالستية بعيدة المدى بحلول العام 2012، مع إنشاء محطة رادار متطورة، وذلك استكمالا لنظام قائم أصلا في كل من الولايات المتحدة وغرينلاند وبريطانيا. ويأتي الاتفاق بعد أن قبلت واشنطن بشروط الحكومة البولندية بشأن نصب منظومة دائمة من صواريخ باتريوت ومنحها تسهيلات لشراء خمس منظومات أخرى بأسعار مخفضة. فإن الخطوة هذه كشفت عن قلب الدبلوماسية والسياسة الأمريكية كسياسة رد فعل، مما يفقدها الأسبقية وقوة الحسم الدولي.. ويظهرها بموقفٍ حرجٍ، أعلامياً واستراتيجياً، خاصة بعدما ادعت سابقاً أن منظومة الصواريخ إنّما موجهة لحماية أوروبا من الصواريخ الأيرانية والكورية بعيدة المدى، ولا تستهدف روسيا.
وعلى الصعيد الأقليمي، فبعد الحرب الإسرائيلية على لبنان أقيل من الجيش الإسرائيلي، واستقال منه عدد لا بأس به من قادته وجنرالاته. وقام بتصدير بعض هؤلاء الجنرالات الفاشلين كالجنرال غال هيرش الذي ذهب الى جورجيا واوكلت اليه تلك الحكومة الجورجية أمر تأسيس وتدريب وتأهيل القوات الخاصة الجورجية . جورجيا التي اعتمدت خبراء اسرائيليين واسلحة اسرائيلية في مواجهة روسيا ها تواجه الفشل الذي تتعلمه من جنرالات فشلوا في حربهم ضد مليشيات جزب الله اللبناني.. فإنّ ما جرى في جورجيا يعطي الضوء الأحمر لكل اولئك الذين يقبلون ان تزج بهم امريكا في مغامرات وصراعات غير محسوبة وفي مواجهات مسدودة الأفق وفي نهاية المطاف تتخلى عنهم امريكا, تهملهم وتكتفي باصدار موقف شجب لأن مصالحها فوق كل المصالح والتحالفات .
بالمقابل في زيارة مكوكية لروسيا، عبر الرئيس السوري بشار الأسد خلال لقائه مع نظيره في موسكو عن دعمه للعملية العسكرية الروسية ضد جورجيا. وقالت وكالات الأنباء الروسية إن الأسد أكد خلال اللقاء أن بلاده تتفهم الموقف الروسي، و"نقدر أن رد الفعل العسكري جاء ردا على الاستفزاز الجورجي". وقال الأسد في حوار مع صحيفة "كوميرسانت" الروسية "إن صراع روسيا مع جورجيا -الذي تقول فيه موسكو إن الأخيرة استخدمت معدات زودتها بها إسرائيل- أكد الحاجة لأن تعزز روسيا وسوريا تعاونهما العسكري". ووفقا للرئيس السوري فإن العالم يدرك الآن الدور الذي تلعبه إسرائيل ومستشاروها العسكريون في الأزمة الجورجية، مشددا على أهمية "التعاون العسكري والفني، مشتريات الأسلحة مسألة بالغة الأهمية، ويجب أن نسرع بذلك، وعلاوة على ذلك فإن الغرب وإسرائيل يواصلان الضغط على روسيا".
وأعرب الرئيس السوري عن استعداد بلاده لدراسة مسألة نشر شبكة صواريخ "إسكندر" الدفاعية على أراضيها، غير أنها لم تتلق عرضا روسياً رسميا بذلك. وكانت وسائل الإعلام الإسرائيلية ذكرت أنّ روسيا تخطط لنشر صواريخ إسكندر أرض/أرض في سوريا وفي مدينة كالينينغراد على بحر البلطيق، في رد على شبكة الصواريخ الدفاعية الأميركية في وسط أوروبا والمساعدات العسكرية الإسرائيلية/الأميركية إلى جورجيا. ووفقا للأسد فإن الحرب التي اندلعت في جورجيا هي محاولة أخيرة لتطويق وعزل روسيا، واصفا هذه المحاولات بأنها مواصلة للسياسة الأميركية التي كانت معتمدة في حقبة الحرب الباردة، داعيا الكرملين إلى التحول عن الغرب والعودة إلى أصدقائه القدامى. وفي السياق ذاته، قال مصدر دبلوماسي في موسكو إن روسيا وسوريا تعدان لإبرام صفقات تشمل نظما صاروخية مضادة للطائرات وللدبابات. وأشار إلى أن سوريا مهتمة بشراء نظم صاروخية دفاعية من طراز "بانتسيراس1" ونظام صواريخ أرض/جو المتوسطة المدى من طراز "بييوكيهام1" وطائرات عسكرية ومعدات أخرى. (المصدر: الجزيرة نت)
بغض النظر عن التطورات المستقبلية المحتملة على صعيد تشكيل التحالفات الأقليمية والاستقطاب الدولي على أثر أزمة روسيا-جورجيا.. فإن المؤشرات تعبر عن تعطش السياسة الدولية ودول أقليمية للاستقطاب الثنائي للتخفيف من الضغط الأمريكي على الدول "المارقة" والعودة لموازين الحرب الباردة، وإن تجنب القادة والساسة الإشارة لذلك. إن احتمالات المستقبل تبدو بالغة الأهمية والخطورة، خاصة كونها تحمل في طياتها انهيارات لأنظمة أقليمية أو لسياسات مرهونة. فعلى مستوى العالم العربي والإسلامي نشهد تطورات تأكد هذه الاحتمالات:
لبنانياً، تشكيل حكومة الوحدة التي يعد فيها حزب الله ركيزة أساسية، وهو التنظيم الذي حاربت أمريكا كثيراً لعزله لبنانياً على حساب تعزيز حلفائها الداخليين. وقد تعزز موقف حزب الله لبنانياً وأقليمياً وارتدع حلفاء أمريكا عن تسويق المشروع الأمريكي. والأمر مرتيط بعلاقات المملكة العربية السعودية الداعم القوي لفريق 14 آذار اللبناني، إذ يحتمل تهميش التأثير السعودي على لبنان، مما يدفعها لإعادة التفكير في سياساتها العربية ليس فقط لبنانياً، والأمر سواء بالنسبة لدول "المعدّلين" مصر والأردن.
فلسطينياً، بعد أكثر من عام على حصار غزة ومحاولة إسقاط حكومة حماس المنتخبة، لم يزدد حليف أمريكا الفلسطيني إلا ضعفاً وتهميشاً. وقد اقتنع فريق أوسلو بعدم واقعية اسقاط حماس، مما دفعه للتراجع عن مواقفه إزاء الحوار مع غزة. وفي هذه الأيام تشهد الساحة المصرية تحركات نحو تجديد الحوار الفلسطيني. ومنذ أيام شهدت الساحة الأردنية زيارات لقادة حماس في الخارج بعد انقطاع العلاقات لأكثر من عشرة أعوام.
وإن كنّا لا نعول كثيراً على تعديل سياسات حلف المُعدّلين" إلا أنها مؤشرات لتطورات مستقبلية على مستوى استراتيجية المنطقة العربية والإسلامية. وفي هذا السياق إن الدور المنوط بدول عربية وإسلامية محورية هو ادراك لحظة الانهيار الكوني وملئ الفراغ الاستراتيجي بفعل عربي-إسلامي يخرج دوله من الأزمات والصراعات الداخلية والخارجية.. ويأسس لمرحلة كونية إسلامية أصيلة ومعاصرة. وبما أن تحقيق الأصالة المعاصرة لا تشكل رد فعل لتغيرات مفاجئة، بل هي صيرورات تاريخية مجتمعية وسياسية فإن الدور المحوري يقع على عاتق دول إسلامية مرت هذه الصيرورة الحضارية. وهي دول قادرة على إدارة سياسات أقليمية-دولية.. وبالأساس لديها الإرادة السياسية والمقدرات البشرية والامكانيات المادية. وفي هذا السياق يأتي دور الحركات الإسلامية على شتى مشاربها الفكرية والساسية. إنّ العالم الإسلامي، باعتقادنا، يتميز بتركيبة حضارية غنية يندر وجودها في أمم آخرى. وهذه التركيبة توفر له طبيعة ثقافية تكاملية يمر في محورها الوجدان العربي الإسلامي, الذي تشكل عبر القرون، من خلال الإسلام كعقيدة وشريعة، والقرآن ككتاب مهيمن على المجتمع والعادات والأعراف والسياسة والثقافة. أمّا التركيبة الحضارية العامة والأساسية فهي: الثقافة العربية والثقافة التركية والثقافة الإيرانية. ويمثل هذه التركيبة دول محورية في العالم الإسلامي في أيامنا مع افتقادنا للاعب أساسي: جمهورية إيران الإسلامية والجمهورية التركية.. أمّا على الصعيد العربي فنفتقد لدولة محورية تنخرط في حلف ثلاثي يجمع من حوله الدول العربية والإسلامية الآخرى. وقد كانت مصر مهيئة لملئ هذا الدور الأساسي في تحالف إسلامي من هذا النوع، لكن الإرادة السياسية المسلوبة لدى النظام المصري، وارتهانها لميزان القوى الأمريكي، نزع منها هذا الدور واخرجها من سياقها العربي الإسلامي.
لقد مرت كل من أيران وتركيا في صيرورة تاريخية، انتقلت بهذه الدول من مرحلة الاستعمار القديم لمرحلة الاستقلال السياسي. إيران استقلت سياسياً من الاستعمار، لكنها ظلت تابعة للغرب خاصة للولايات المتحدة حتى أواخر السبعينات، ومع الثورة الإسلامية عادت إيران لسياقها الإسلامي وانتمائها الحضاري. أمّا تركيا فلها صيرورة خاصة ومميزة، ولكنّها متشابهة في عمومياتها مع التجربة الإيرانية، فما زالت تركيا الأتاتوركية تسير في الركب الغربي، حتى صعود حزب العدالة والتنمية، بعد تجارب إسلامية سبقته ممكن أنها اسست لمرحلته اللاحقة. والان، وبعد تجاوز "العدالة والتنمية" لتحدياته داخلياً، وتفكيك أزمات تركيا الاقتصادية والسياسية والدستورية، فإنه مما لا شك فيه، أهمية الدور التركي في العالم العربي والإسلامي.. بل وأهليته لتشكيل التحالف الثلاثي الإيراني-التركي-العربي.
لقد شاهدنا منذ أيام تطورات آخرى رافقت التغيير الاستراتيجي الكوني، ألا وهو استقالة برفيز مشرف من الرئاسة الباكستانية. وهو الحليف المهم والخطير للإدارة الأمريكية منذ أحداث 11 سبتمبر. في انتظار الاحتمالات المتعددة للحالة الباكستانية بعد مشرف، فمما لا شك فيه، أن رجوع باكستان لسياقها الإسلامي، يدعم ويعزز امكانية نجاح تحالف إسلامي تكون فيه باكستان لاعباً مركزياً. هذا التحالف لا أستبعد أن يكون بذرة مهمة لخلافة معاصرة، تختزل داخلها لأول مرة في التاريخ الإسلامي الخلافة بتجاربها المتعددة: العربية والايرانية والتركية والهندية. هذه الخلافة (التحالف) تتميز بالتكاملية الثقافية في سياق الحضارة الإسلامية، وتكون مؤهلة لتجاوز الترسبات التاريخية للشعوبية والطائفية والمذهبية.. وتأسس لنظام كوني جديد يتمحور حول الإيمان والعدل والإنسانية. فقط في هذه الحالة ممكن أن يرتقي المسلمون بدورهم في لحظة الانهيار الكوني !! وعدم انتظار لاعب آخر مثل روسيا أو الصين أو الهند أو ألمانيا.. فإن استبدال الولايات المتحدة بقوة آخرى لا يغير من واقعنا السياسي والحضاري السيء. بل أقول إنّ الولايات المتحدة كقوة كونية ممكن أن تكون أقرب منّا كمسلمين، من قوى آخرى محتملة كالصين الكنفوشسية أو الهند الهندوسية او روسيا المتصلبة هاتكة أعراض وأراض المسلمين في الشيشان ودغستان. فالولايات المتحدة قابلة للاختراق الإسلامي إذا أحسن المسلمون إدارة "الصراع" السياسي والاعلامي والتدافع الحضاري.
إن التحالف الرباعي (التركي-الإيراني-الباكستاني-العربي) يؤدي في النهاية لانخراط باقي الدول العربية والإسلامية في كتلة جغرافية وبشرية هائلة، ترتكز على الإسلام والحضارة الإسلامية في استلهام النظام الكوني الجديد. ويكون هذا النظام المرحلة الأولى لاستعادة الإنسان- أيّاً كان معتقده وقوميته ولونه – بعد موته في الحضارة الغربية المادية. فهو نظام وسطي ليس فقط جغرافياً بل يسعى لخلق توازن كوني بين القوة والحق.. بين قوة النظام الكوني وهيمنته على التكتلات السياسية وبين حق الإنسان والشعوب في تحقيق ذاتها اعتقادياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً. فإن أقطاب هذا النظام تنطلق لتتواصل مع محيطها الإنساني والكوني وابعادها الجيوسياسية: فتركيا بوابة الإسلام إلى الغرب.. ومصر (؟) بوابة الإسلام إلى افريقيا.. وأيران بواية الإسلام إلى الشمال والقوقاز ووسط اسيا والشرق.. وباكستان بوابة الإسلام إلى القارة الهندية والجزر الهندية.
إن المحرك الأساس لهذا التحالف (الخلافة المعاصرة) هي القوى الإسلامية الحيّة في الأمة. ومما لا شك فيه، أنّ الحركات الإسلامية (بشتى اجتهاداتها) هي اليوم في صدارة الدفاع والمقاومة والجهاد خارجياً.. وهي القوى المنظمة والمهيمنة على الصعيد الداخي في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. والذي يميز الحركات الإسلامية هي جذورها المتأصلة في حياة الناس وواقعهم، بعكس تيارات آخرى علمانية متعالية على الناس وهمومهم وهويتهم الإسلامية الأصيلة. وهذه الأصول المتجذرة تستمد قوتها من الإسلام الذي تدين به الغالبية المطلقة من الناس في العالم العربي والإسلامي، فمن الطبيعي إذاً، أنّ يُبنَى نظامها الكوني على معتقد وهوية هذه الشعوب على مستوى الاقتصاد والسياسة والثقافة.
الحراك المدني-الجماهيري أصل النظام الكوني
قلت أنّ القوى الإسلامية الحيّة في عالمنا العربي والإسلامي هي المحرك الأساسي للنظام الجديد، ولكن هذه الحقيقة لا تنبع من موقف أيديولوجي مستعلي، إنّما تتعلق بخصائص موضوعية لهذه القوى، منها: أولاً أنها تحمل عقيدة مطلقة هي مكونٌّ جوهري في وجدان وعقلية الإنسان العربي والمسلم، فهي عقيدة دينية لا يختلف عليها الفرد ولا المجتمع لذلك لن تقف كعائق أمام الترابط والانسجام العقائدي والوجداني بين هذه القوى وشعوبها ومجتمعاتها. ثانياً، هناك قناعة مطلقة لدى المجتمعات العربية والإسلامية أنّ شريعة هذه العقيدة لا تصتدم بتطلعاتها نحو التقدم والرقي والشهود الحضاري المعاصر، إنّما ذات الشريعة قبل قرون جعلت منهم أمة متحضرة وأساسية في النظام الكوني.. بل إن التخلف عن هذه الشريعة هو نكوص إلى الوراء ثقافياً وسياسياً واقتصادياً. ثالثاً، المرونة الفكرية والاجتهادية للقوى الإسلامية الحية، مستمدة من طبيعة الإسلام، بما يجعل منها محرك أساسي لتطوير الحياة المدنية وفق الإسلام، واستيعاب متجددات الحضارة المعاصرة، من علوم ومعارف ومكتسبات إنسانية. رابعاً، وهي خصيصة نابعة من اللتي سبقتها.. وهي تاريخية القوى الإسلامية، بمعنى أنها تطور تاريخياً مع متطلبات عصرها، مع محافظتها على أصولها العقائدية والتشريعية المطلقة.. فهذه القوى لم تُقدم لشعوبها بقوالب جاهزة، مستوردة من الغرب أو الشرق. قوالب أنتجها أصحابها من فلاسفة وساسة وقادة في سياقاتهم الثقافية والسياسية والاقتصادية الخاصة.
منطق هذه الخصائص وتدعاياتها، يحتم على هذه القوى أنّ تكون المحرك المدني والجماهيري للشعوب العربية والإسلامية. وهذا الحراك إنما عليه يؤسس النظام الكوني (التحالف). فهذا النظام لا يُؤَسَس على أنظمة دكتاتورية فاسدة.. أو أنظمة متعالية على شعوبها، لا تملك مقومات الإرادة السياسية والاستراتيجية والإنسانية. بمعنى أنّ هذا النظام يمتد من الحراك المدني والجماهيري في المجتمع المصغر (الجهاز التربوي والتعليمي والعائلي والمؤسساتي ) عبر الأطر المدنية للمجتمع (الحركات والمؤسسات الاجتماعية والسياسية والفكرية) مروراً بالتجمعات الاقتصادية والمالية ومؤسسات الدولة، "انتهاءاً" بالإرادة السياسية والاستراتيجية للنظام الكوني.. وهي حلقة مفرغة بحيث يمتد النظام نحو البنى التحتية المدنية والجماهيرية المذكورة آنفاً. هذا الامتداد العامودي والأفقي للنظام الكوني فقط القوى الإسلامية الحية- وبخصائصها أعلاه- قابلة وقادرة على صياغته وتنفيذه. هذا النوع من النظام، الوحيد الذي يمكن أنّ يحقق التوازن والتوافق بين الإنسان الفرد (المسلم وغير المسلم) والمجتمع والدولة والنظام والطبيعة والكون في الناحية المادية، ويحقق الانسجام والتكامل بين الإنسان والعقل من جهة والإيمان والعقيدة من جهة آخرى.
لقد كان النظام السياسي عبر التاريخ الإسلامي، يمثل الإشكالية الحضارية لدى المسلمين، بحيث أنّ النظام الراشدي النموذجي تعطل بعد وفاة الرسول بثلاثين عاماً تقريباً، ولم يُسترجع مجدداً، بل حل محله أنظمة وراثية وانقلابية تتميز بسلطانها القاهر والمتمذهب.. وإن حافظت على عقيدة الأمة ومكتسباتها السياسية والحضارية. وهذه الأنظمة (الخلافة الوراثية والانقلابية) جعلت من مشاكل وأزمات الأمة تتراكم وتتكرس عبر القرون، دون أن تتحقق إصلاحات جذرية تعيد للإسلام وحضارته أصالته، حتى اصتدم المسلمون بالتفوق الغربي على كافة الأصعدة. لذلك فإنّ إصلاح النظام السياسي الإسلامي، بنظرنا، هو المهمة الأساسية نحو تجاوز التراكمات السلبية، من طائفية وتمذهب وتوريث وفساد وظلم، وتنكرٍ لمكنونات الإنسان المسلم، ومقوماته في الحراك والمشاركة والتقدم.
إنّ القوى الإسلامية الحية في الأمة، قادرة على صياغة هذا النظام الكوني الجديد، نتيجة لتوفر هذه الخصائص فيها. وبما أنّ هذه القوى منزوعة القدسية، ولا تمتاز بالعصمة- مثلها مثل أيّة قوة آخرى على الساحة الإسلامية- بل هي تاريخية كما قلنا سابقاً.. فيقع على كاهلها، واجبات وتحديات في تحقيق هذا النظام والوصول إليه. وهذه التحديات تتعلق في مدى تجاوز هذه القوى لأزماتها وإشكالياتها الداخلية، ثمّ العمل وفق رؤية استراتيجية -محلية وإقليمية وكونية- واعية لذاتها وأهدافها وسلوكياتها.
الحركة الإسلامية: عصر جديد ومتجدد
الحركة الإسلامية هي مكمن الطاقة والفعل في القوى الإسلامية العامة، وأقصد تلك التي بصيغة أو آخرى تعتبر امتداداً لحركة الأخوان المسلمين التاريخية. وهذا نابع من مميزتين تتوفر لدى هذه المدرسة: أولاً الاستمرارية والقدرة على التجدد، فهي حركة تاريخية اتخذت من الإسلام عقيدة راسخة، واتسعت في رؤيتها لتمكنها من استيعاب عصرها. ثانياً، جماهيريتها الواسعة، فهي قادرة على استقطاب الجماهير حولها واستيعابهم في اتجاه التغيير الشامل والانخراط في تحديات العصر الجديد للنظام الكوني.
الحركة الإسلامية بالرغم من أسبقيتها على أحزاب وقوى سياسية آخرى، ما زالت عاجزة عن تحقيق قدراتها المكنونة، وصياغة رؤيتها المستقبلية المعاصرة وفق أصالتها، التي تخول لها القيام بدورها الكوني. وذلك راجع لعدة أسباب:
أولاً، عدم اتاحة الفرصة لتقدم قيادة سياسية متجددة للحركة الإسلامية، تنتمي لأرث الأباء ووتتجاوز بذات الوقت المعوقات التنظيمية والفكرية والسلوكية والتخطيطية للعهد السابق. ثانياً، على الحركة الإسلامية الانتقال بفلسفتها وسلوكها من تنظيم خدماتي بحت، لتيار سياسي واستراتيجي يتحمل مسؤوليته الكونية، وتحويل السلوك الخدماتي لمؤسسات المجتمع المدني والأهلي، بل الخدمات من وظيفة مؤسسات الدولة والنظام. ثالثاً، الانطلاق نحو دراسة علمية معمقة للواقع المحلي والأقليمي والكوني، هذه الدراسات توظف لتعميق الرؤية الاستراتيجية والخطط العملية للحركة الإسلامية وللنظام الكوني، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة. رابعاً، الربط العميق والأصيل بين مشروعها الكوني وبين العقيدة والشريعة. وهذا الأمر يتطلب دراسات شاملة في الإسلام وحضارة الإسلام، لاستيعاب الماضي ومكنونات القوة والأصالة واسترجاعها في صياغة معاصرة للمسلمين وغير المسلمين، وتجاوز التراث البشري وأفكاره الميتة وتلك المُميتة.
أخيراً، مع الأزمات والتطورات المتسارعة على المستوى الدولي.. وبداية تشكل تحالفات واستقطابات تذكرنا بالحرب الباردة. يتوجب على العالم العربي والإسلامي استثمار اللحظة التاريخية لصياغة نظام كوني جديد، يضع البديل الإسلامي أمام بدائل آخرى محتملة، كروسيا أو الصين أو الهند. هذا البديل، لا شك، تحمله القوى الإسلامية الحية، وبالأساس الحركة الإسلامية الواعية لذاتها ودورها وسلوكياتها، والتي تجاوزت أزماتها وإشكالياتها الداخلية، لترتقي لمستوى الدور الكوني الذي يرسمْ لها معالمه وأصوله القرآنُ الكريم. وإنّ الحركات التي مرت هذه الصيرورة قادرة على قيادة دولها نحو تحالف إسلامي، يؤسس لخلافة معاصرة وأصيلة بلغة العصر والكون.