الثلاثاء، 13 أكتوبر 2009

خواطر حول الهوية والحرية

الحجاب والهوية والحرية

ما الذي قصده "الفنان" حين تمثلث المرأة المُحجبة في ذهنه بهذه الصورة وعلى هذا الشاكلة [1] ؟! هل هي مجرد صورة ذهنية لا تتعداها إلى البنى النفسية والثقافية والحقيقة الاجتماعية؟! إنّ المرأة المحجبة تظهر من خلال التمثال كأنّها امرأة خاويّة لا تحتوي مضموناً ولا تلفظ معنىً، فما وراء الحجاب واللباس إلا فراغ أسود تُطِل منه كفُّ يدٍ على استحياءٍ، وما الحجاب إلا غطاءٌ يخفي حقيقة الفراغ والتخلف، أو هو تخلف يَحُولُ بين المرأة وبين تحقيقها لذاتها وملئ فراغها وخواءها الثقافي والفكري. إنّي أدرك أنّ الفنان يهوديّاً ، ولكنّي التقيت في حياتي مسلمين كثر لا يبتعدون في خيالهم وتفكيرهم عن هذه الصورة الذهنية، وتُكرس عندهم هذه الصورة النمطية. إذاً الإشكالية لا تتوقف عند نظرة الآخر العقائدي للمرأة المسلمة المحجبة، بل تأخذ حيّزها في المجتمع المسلم على المستوى الفكري والثقافي.

والإشكالية من جهة آخرى تشير إلى ثنائيات خطيرة في حياتنا بحاجة للمقاربة الفكرية والمعالجة السلوكية، مثل الصراع بين الباطن والظاهر، وبين الجوهر والشكل، وبين حقيقتي الشخصية الداخلية ونظرة الناس إليّ. فهل الحل لهذه الإشكالية هي تبني الحرية المطلقة، التي يتجرد فيها الإنسان من أبعاده الباطنية وخفايا أسراره الغريزية والنفسية والثقافية، فيظهر أمام الملئ كما هي حقيقته وشخصيته بينه وبين سِرَّه؟ أمِ الحلُّ تنكره للحريّة والتطبع مطلقاً بالهوية ومعتقداتها وأنماط تعبيراتها. إذاً هل نحن أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا الهوية وإمّا الحرية؟! إمّا أن تتمسك المرأة المسلمة بهويتها -والذي يمثل فيها الحجاب مرتكزاً أخلاقياً وثقافياً أساسياً بل حتى عقائدياً- فتُصادر حريّتها الفرديّة والنفسيّة والثقافيّة؟! أمّ أنّها تطلب حريّتها المطلقة وإن تنافرت وهويّتها العقائدية والثقافية؟ .

هل من طريق ثالث للمقاربة بين الهوية والحرية؟ بين الاعتزاز بالهَوية وتكريس قيمها الأصيلة وحتى شكلياتها التي لا تضر ولا تنفع، وبين تحقيق حرية الفرد والإنسان وتكريس شخصيته المميزة ومقوماتها الخاصة في الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي؟ هذا الثنائي المتمثل بالهوية والحرية من تلك الثنائيات المطلقة التي لا بد لعقل المسلم من مجابهتها في العصر الحديث وتحت وطأة الحداثة وما بعدها.

والمسألة هنا ليست مسألة فلسفية بقدر ما هي إشكالية نفسية وثقافية تؤثر على جوانب إنسانية متعددة، يمكنها أن تتجلى في سلوكياتنا وعلاقاتنا الاجتماعية وحياتنا السياسية. فمن جهة يمكن لتأثيراتها النفسية أن تعيقنا عن التفكير بواقعنا ومشكلاته وحلولها بصورة ابداعية وواعية وإيجابية، فتنحرف بنا لمواقف متطرفة وتكفيرية وأيديولوجية مغلَّفة. ومن جهة آخرى، تعيقنا حالتنا النفسية من الإلتصاق بمجتمعنا وواقعنا فنطلب العزلة والأنانية والفردانية المتطرفة ونختزل أنفسنا بمصالحنا الذاتية الدنيوية.

معادلة الحسم بين الثنائيات

ولكن هل من معادلة نظرية يمكن تطبيقها لتجاوز هذه الثنائية ولحل هذا التناقض؟! على ما يبدو ليس هناك من يملك هذه المعادلة السحرية! وهذه حقيقة تنطبق على كافة الثنائيات التي اصطدمت بها حركات الإصلاح ومنظروها في الواقع الإسلامي، مثل الشورى والديمقراطية أو الأصالة والمعاصرة أو التقليد والحداثة أو الوحي والعقل أو الإيمان والعلم وغيرها، وقديماً الشريعة والحقيقة أو الحكمة والفلسفة وغيرها. ولعله يمكن للفكر أن يُرجِّح طرفاً من الثنائية على الطرف الآخر، بحيث يسوق الحجج والبراهين العلمية والمنطقية على صحة المفهوم الأول، أو انّه يبدع حالة توافقية بينهما أو تلفيقية. ولكنّه أبداً لن يحسم الصراع بين الثنائي.. ففي هذه الحالة يبقى الحسم داخل نخب ثقافية علمية لا تعكس بالضرورة خيارات المجتمع والأمة. إنّما الحسم من شروطه أنّ ينتهي في البنى الاجتماعية والثقافية للأمة.. بمعنى أنّ الممارسة العملية وسيرورة المجتمع وتطوره الذاتي من يحسم الصراع الثنائي ويحدد صورة الحسم وطبيعته.

فلنحاول بدايةً معالجة الهوية ومن ثم الحرية، وبعد ذلك نقرأ القرآن لنرى آيات الله في أنفسنا وفي الآفاق:

من أكون؟! من أنا؟!

سؤال يبدو سهلاً عابراً للوهلة الأولى! بالذات حين نقف لنُعَرِّف عن أنفسنا.. فيكون جوابنا عفويّاً: اسمي فلان ابن علان. وعندما نُلزَم العمقَ في التعبير عن أنفسنا، ويطلب منا التعريف بحقيتنا، تتلعثم الألسن ولا تفلح بايصال أبسط المعلومات عن حياتنا وشخصيتنا، كأنّا لا نعرف أنفسنا، ولسنا إلا غرباء عن ذاتنا وهويتنا الشخصية والعامة. هذا في سياق التعريف بأنفسنا كأفراد داخل مجموعات تعارف. فما بالك حين نريد أن نحدد هويتنا الكونية ( النفسية والعقائدية والثقافية والسياسية...إلخ).. كي نميزها ونمحصها في سياق علاقات التدافع والصراع والتعارف بين الأمم[2]. فإذا تلعثم اللسان في الأولى فكيف لا تغترب الذات عن الهوية في الثانية. وهذه أبسط العلاقات الجدلية التي تربط حالة الفرد النفسية والتربوية وحال الأمة ثقافياً وسياسياً. بمعنى قدرة الفرد على التعبير عن ذاته في أمّةٍ عاجزةٍ عن التعبير عن هويّتها، ومدى قدرته على إدراك حريّته وممارستها في سياق هويّة الأمّة وعقيدتها.

صبغة الله وكرامة الإنسان [3]

بعكس الطلاء لا بد للصبغة أن تتداخل في مسام القماش ومادته. فكأن الإيمان بالله وملة إبراهيم وما أنزل على الرسل هي الصبغة الإلهية التي تتغلغل في الجسد. الإيمان ليس صبغة من خارج الجسد ولكنّ الله جعلها في خلايا القلب موجودة فيه لحظة الخلق، صبغة موجودة بالفطرة. فكما أنّ الإيمان يمتزج بالقلوب كذا امتزاج الصبغ بالمصبوغ، وتبدو آثار الصبغ على المصبوغ. ويقال: تصبّغ فلانُ في الدين إذا أحسن دينه وتقيد بتعاليمه تقيداً تاماً. وقوله تعالى: "صبغة الله" بالنصب وورد مورد المصدر المؤكد لقوله على لسان المؤمنين "آمنا بالله.." فإنّه في معنى صبغنا الله بالإيمان. فوصف الإِيمان بأنّه صبغة الله، ليبين أنّ المباينة بين هذا الدين الذى اختاره الله وبين الدين الذى اختاره المبطلون ظاهرة جليّة، كما تظهر المباينة بين الألوان والأصباغ لذى الحس السليم.

"صبغة الله التي شاء لها أن تكون آخر رسالاته إلى البشر. لتقوم عليها وحدة إنسانية واسعة الآفاق، لا تعصب فيها ولا حقد، ولا أجناس فيها ولا ألوان. ونقف هنا عند سمة من سمات التعبير القرآني ذات الدلالة العميقة.. إنّ صدر هذه الآية من كلام الله التقريري: { صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة. ونحن له عابدون }.. أمّا باقيها فهو من كلام المؤمنين. يلحقه السياق - بلا فاصل - بكلام الباريء سبحانه في السياق. وكله قرآن منزل. ولكنّ الشطر الأول حكاية عن قول الله، والشطر الثاني حكاية عن قول المؤمنين. وهو تشريف عظيم أن يلحق كلام المؤمنين بكلام الله في سياق واحد، بحكم الصلة الوثيقة بينهم وبين ربهم، وبحكم الاستقامة الواصلة بينه وبينهم. وأمثال هذا في القرآن كثير. وهو ذو مغزى كبير."[4]

وقول سيد الأخير يرشدنا لمفهوم كرامة الإنسان في ظلاله:

"ذلك وقد كرّم الله هذا المخلوق البشري على كثير من خلقه. كرمه بخلقته على تلك الهيئة، بهذه الفطرة التي تجمع بين الطين والنفخة، فتجمع بين الأرض والسماء في ذلك الكيان!

وكرّمه بالاستعدادات التي أودعها فطرته؛ والتي استأهل بها الخلافة في الأرض، يغير فيها ويبدل، وينتج فيها وينشئ، ويركب فيها ويحلل، ويبلغ بها الكمال المقدر للحياة.

وكرّمه بتسخير القوى الكونية له في الأرض وإمداده بعون القوى الكونية في الكواكب والأفلاك..

وكرّمه بذلك الاستقبال الفخم الذي استقبله به الوجود، وبذلك الموكب الذي تسجد فيه الملائكة ويعلن فيه الخالق جل شأنه تكريم هذا الإنسان!

وكرّمه بإعلان هذا التكريم كله في كتابه المنزل من الملأ الأعلى الباقي في الأرض.. القرآن..

(( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً )).

(وحملناهم في البر والبحر)والحمل في البر والبحر يتم بتسخير النواميس وجعلها موافقة لطبيعة الحياة الإنسانية، وما ركب فيها من استعدادات، ولو لم تكن هذه النواميس موافقة للطبيعة البشرية لما قامت الحياة الإنسانية، وهي ضعيفة ضئيلة بالقياس إلى العوامل الطبيعية في البر والبحر. ولكنّ الإنسان مزود بالقدرة على الحياة فيها، ومزود كذلك بالاستعدادات التي تمكنه من استخدامها. وكله من فضل الله.

(ورزقناهم من الطيبات).. والإنسان ينسى ما رزقه الله من الطيبات بطول الألفة فلا يذكر الكثير من هذه الطيبات التي رزقها إلا حين يحرمها. فعندئذ يعرف قيمة ما يستمتع به، ولكنه سرعان ما يعود فينسى.. هذه الشمس. هذا الهواء. هذا الماء. هذه الصحة. هذه القدرة على الحركة. هذه الحواس. هذا العقل.. هذه المطاعم والمشارب والمشاهد.. هذا الكون الطويل العريض الذي استخلف فيه، وفيه من الطيبات ما لا يحصيه.

(وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) فضلناهم بهذا الاستخلاف في ملك الأرض الطويل العريض. وبما ركب في فطرتهم من استعدادات تجعل المخلوق الإنساني فذاً بين الخلائق في ملك الله..

ومن التكريم أن يكون الإنسان قيّماً على نفسه، محتملاً تبعة اتجاهه وعمله. فهذه هي الصفة الأولى التي بها كان الإنسان إنساناً. حرية الاتجاه وفردية التبعة."[5]

"والفرق بين التفضيل والتكريم بالعموم والخصوص؛ فالتكريم منظور فيه إلى تكريمه في ذاته، والتفضيل منظور فيه إلى تشريفه فوق غيره، على أنه فضّله بالعقل الذي به استصلاح شؤونه ودفع الأضرار عنه وبأنواع المعارف والعلوم، هذا هو التفضيل المراد. "[6]

ملخص القول:

لقد عالج القرآن مسألة هويّة الإنسان بجعلها قوة باطنية نابعة من عقيدة وصفها بالصبغة. والصبغة كما فسّرها المفسرون هي الإيمان أو الإسلام أو الفطرة أو دين الله، وكأنّها تصبغ شرايين وأوردة وخلايا المؤمن كما يصبغ الصبغ شعيرات الصوف المتداخلة، فلا ينفك الصبغ عن المصبوغ كما ينفك الطلاء عن الحائط. وهذ ميزة الهوية التي تنبع من بواطن النفس ومكامنها. ولأن كرامة الإنسان التي كرسها القرآن تخرج من حقيقة إنسانيّته وآدميّته فلا تتعارض صبغة-هوية الإنسان مع كرامة-حرية الإنسان.. أو أنّ المفروض أن لا يحدث هذا التناقض والتصادم لولا أنّ الأصل قد حُرِّف أو استبدل.

والمرأة كالرجل حين تصبغ قلوبهم بالإيمان ويُكّشِفوا عن فطرتهم السليمة - المتجردة من العقد النفسية والثقافية المهترئة، والموروثات البالية التي لا تشكل إلا غشاوة على أبصارهم وبصائرهم- فلا ريب أنهم سيجدون كرامتهم وحريتهم تنسجم مع هذه الصبغة والهوية الأصيلة. وكما قضى الله تعالى أن يرينا آياته في الأنفس والآفاق فإنّه خير دليل على انسجام واتساق الباطن والظاهر والهوية والحرية والوحي والعقل والنفس والمجتمع.

وليس عبثاً أن رسالة الإسلام الوحيدة التي حُفِظت من خلال كتاب مسطور، متجاوزة شخصنة الدين(كالتثليث) أو توثين الدين(أحبارهم أرباباً). ومن ثم فالقرآن هو الوحي الذي عالج هذه الثنائيات والتناقضات بدءً بمخاطبة النفس وصَبغها بصبغة الله (ومن أحسن من الله صبغة) فتحققت العبودية وجُبِلت مع كرامة الإنسان ورفُعِت مقوماتَه الإنسانية فوق التراث والموروث. وهذه ميزة القرآن الأصيلة الربانية.

[1] التمثال أو المجسم موجود في جادة مأمن الله في القدس (מאמילא)... وهو مجمع تجاري قريب من باب الخليل في مدينة القدس. وهو واحد بين عشرات القطع "الفنية" تعرض على طول الجادة.

[2] قوله تعالى: "يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا..." (الحجرات:13).

[3] أنظر إلى تفسير الأية الكريمة:" صبغة الله. ومن أحسن من الله صبغة. ونحن له عابدون" (البقرة:138) – النص تحت هذا العنوان اقتباس أو تلخيص بتصرف من كتب التفسير: 1) محمد متولي الشعراوي: خواطر الشعراوي \ سيد قطب: في ظلال القرآن \ الطنطاوي: الوسيط في تفسير القرآن الكريم \ الطاهر بن عاشور: تفسير التحرير والتنوير.

[4] سيد قطب: في ظلال القرآن (الآيّة).

[5] في ظلال القرآن

[6] الطاهر بن عاشور: تفسير التحرير والتنوير

أسامة عباس

بيت المقدس

13 \ 10 \ 2009

الأحد، 11 أكتوبر 2009

أنشودة مولاي يا مولاي - - - قمة في الروعة

مولاي.. يا مولاي... مولاي.. يا مولاي... مولاي.. يا مولاي... يا مولاي... يا مولاي..

مولاي إني سائر .. للدين حتم سائر.. فالقدس صاحت: غادرٌ.. أدمى فؤادي الطاهر

مولاي إني سائر .. للدين حتم سائر.. فالقدس صاحت: غادرٌ.. أدمى فؤادي الطاهر

مولاي إني سائر .. للدين حتم سائر.. فالقدس صاحت: غادرٌ.. أدمى فؤادي الطاهرُ ونداء الأقصى أبكاني فجر وجداني ... وضمير الأمةِ يا ربي.. مات بلى جاني ونداء الأقصى أبكاني فجر وجداني ... وضمير الأمةِ يا ربي.. مات بلى جاني مجرم قالوا لأني.. أرفض الذل الكبير.. أرفض العيش بصمتٍ... ضمه القهر المرير

مجرم قالوا لأني.. أرفض الذل الكبير.. أرفض العيش بصمتٍ... ضمه القهر المرير

فليقولوا ما يقولوا.. أنت من أرجو رضاه .. أنت من تعلمُ أني.. لك أرخصتُ الحياة

فليقولوا ما يقولوا.. أنت من أرجو رضاه .. أنت من تعلمُ أني.. لك أرخصتُ الحياة مولاي .. يا مولاي...مولاي.. يا مولاي... ياما رويت.. بدماءك أشجارَ... والعزةِ والإنتصار

ياما رويت.. بدماءك أشجارَ... والعزةِ والإنتصار لن يسروقوك من تاريخنا.. لن ينزعوك من صدورنا .. يا شهيد ... لن يسروقوك من تاريخنا.. لن ينزعوك من صدورنا .. يا شهيد ... يا شهيد.. يا شهيد... يا شهيد...

الاثنين، 5 أكتوبر 2009

المقاومة والقيم :- بقلم أسامة عباس

حركات المقاومة الفلسطينيّة
بين قيم المقاومة ومعايير الديمقراطية
تحت وطأة الخداع السياسي والإعلامي يفقد المرء القدرة على تفكيك العلاقة المركبة بين القيم وبين آليات وأشكال تحقيق هذه القيم في الواقع الإنساني. وحين يعود المرء بتفكيره وتحليله لعمق إنسانيّته ووجوده، يدرك أنّ الفرق بينه وبين مخلوقات الله الزاحفة على بطونها أو كروشها أو عروشها، هو ميله الفطريّ نحو تكريس القيم وجعلها مطلقة فوق المزايدات السياسية والمصالح الحزبية. وقيم المقاومة، هي تلك القيم التي تتحدى الزمان والمكان، ولا ترضى الانخراط في لعبة صناديق الاقتراع والانتخابات وما يسمى بالديمقراطية.
إنّ قيم المقاومة اليوم تمر في منحى خطيرٍ من تاريخ القضية الفلسطينية.

فإن ادعيتُ سابقاً أن الهَويّة الفلسطينيّة لا تمثل لدي إلا هَويّة براغماتية فرضتها حالة الاستعمار وتداعياته السياسية والثقافية منذ عقود، فكان من الممكن أن تتشكل هوية مختلفة آخرى لأهل فلسطين في حال كان للاستعمار شكلاً ومضموناً ءاخرين. ولكنّ قيم المقاومة للاستعمار ثابتة لا تتغير في أي صورة تمظهرت هَويّة القوم فيها. ويمكن للقوم أن يحسموا مسألة هويتهم في صناديق الاقتراع.. أمّا أن يحسموا أمرهم حول قيم المقاومة وثقافة المقاومة بواسطة استفتاءٍ او انتخابات حسب معايير الديمقراطية فهذا أخطر ما يواجه أمّة أو شعب مقاوم مُستعمَر.
هل الإنتخابات المزمع تنظيمها في الأراضي الفلسطينية المحتلة (ما تسمى السلطة الفلسطينيّة) سوف تحسم نهائياً المعركة حول مستقبل قيم المقاومة؟! هل إن فوز حركة المقاومة حماس في الإنتخابات يعني هيمنة قيم المقاومة في صفوف الجماهير الفلسطينية؟ أم أن خسارتها وفوز فريق أوسلو والتسوية هو تصفية لقيم المقاومة وتثبيتٍ لطريق المفاوضات العبثية اللامتناهية؟! على أيّ خيارات يصوت الناخب الفلسطينيّ في الإنتخابات التشريعية المقبلة؟! هل على خيار المقاومة أم خيار التفاوض؟! أم الإثنين معاً؟!.
الفرق بين حركة المقاومة وقيم المقاومة
إنّ قيم المقاومة ليست شعارات تتغنى بها الحركات والتنظيمات، وتتزيّن بها في مهرجاناتها وخطابها السياسي . بل هي قيم تشكل عبأ وثِقلاً تُكلف هذه الحركات أثماناً باهضة، باستنفاذ مواردها البشرية والمادية والمعنوية، في طريق شائك تتداخل فيه الحياة والموت، والوجود والعدم، والبقاء والفناء، والنصر والهزيمة، والبناء والهدم. ولطبيعة هذه الطريق ومقاربتها لحياة الغيّب المُخِبِأِ لغاياتها وأهدافها وطرائقها، تتقدم القيّم وتتجاوز الواقع والسياق الذي يتحرك فيه المقاوم أو المفاوض. وتتعالى قيم المقاومة السامقة فوق الأفراد والتنظيمات، لتمحو سيرتهم إذا ما تخلفوا عنها، إمّا تواطأً وإمّا إفراطاً أو تخاذلاً. هكذا نجد في تاريخ الأمم أن المقاومات تتبدل شكلاً ومضموناً في حال انفصلت المقاومة عن قيم المقاومة وابتعدت عنها أو تنكرت لها.
فكيف إذاً نُخضع قيم المقاومة للعملية الانتخابية؟!؟!
نعم. لقد دخلت حركة حماس اللعبة السياسية والديمقراطية حين شاركت في الإنتخابات التشريعية. ولكنّ انتخابها وفوزها الكاسح جاء نتيجة تبنيّها قيم المقاومة، فقد أنتخبت بناءً على برنامجها الاصلاحي وشعارات التغيير وخط المقاومة. فهل إذا فشلت أو تراجعت.. تراجعت قيم المقاومة؟! وممّا لا شك فيه أنّ فريق التسوية الآن لا يحمل من المقاومة إلا قصصها التاريخية المُحنطة.. ولا يمت لقيم المقاومة بصلة. فكيف يحمل قيم المقاومة أو حتى صفتها وقد نسّق مع الاحتلال في كل مثقال ذرة صغيرة أو كبيرة. وسَحب الإقرار بجرائم الاحتلال في غزة من خلال تأجيل رفع تقرير غولدستون لهيئات الأمم المتحدة.. وذلك تنسيقاً جليّاً مع الاحتلال. وهذا التناقض لم تبلغه "حركات تحرر" في التاريخ الإنساني مثلما بلغته الحركة الفلسطينيّة.
الحاجة للمقاومة المستديمة
من الطبيعي أنّ الأمة المُستعمَرة تعود في كل مرحلة أو مفصل في تاريخها المقاوم بمراجعة ظروفها السياسية والميدانية. وهذه المراجعة ليس أكثر من تجديد قيم المقاومة الأصيلة فيها واعادتها كمرتكزات أساسية في ساحتها السياسية والاعلامية والثقافية. وضرورة هذه المراجعة تعود لأسباب وظروف موضوعية تمّر بها كافة حركات المقاومة والتحرر.. وبالذات حركة التحرر الفلسطينيّة في واقعها المعقد الآني:
- الانغماس في تفاصيل الصراع مع الاحتلال، والذي يُغيّب أصول الصراع وجذوره الأصلية. ومن المؤكد أن يقوم الاحتلال بدور إعلامي وسياسي لطمس أصول صراعه مع المُستعمَرين، لأنّه يعتقد أن التفاصيل الصغيرة، مثل الدعوة لوقف الاستيطان أو تجميده، أو تخفيف الحواجز المنتشرة في الضفة الغربية، أو تغيير مسار الجدار العنصري– تحيّد المقاومة عن أهدافها الأصلية، وهي كونها حركة تحرر تسعى لنسف الارتباط الأمني والاقتصادي والسياسي بين الإحتلال وجماهيرها. ومن الممكن أن يلعب طرف في حركة التحرر (سابقاً) دوراً مهماً في غمس المقاومة والقضية برمتها في سلة التفاصيل التي يعرضها الاحتلال ومن يقف وراءه بين الفينة اوالآخرى (مثل تسميات: خارطة الطريق، السلام الاقتصادي لنتنياهو أو خطة سلام فياض لإقامة الدولة أو جهود مبعوث السلام جورج ميتشل... ).
- الصراع الداخلي في حركة التحرر والمقاومة وتغليّب التناقضات العميقة في صفوفها. ويمكن أن يُرجَعَ الصراعُ الداخلي في حركات التحرر للارتباطات الخارجية والتحالفات السياسية مع قوى إقليمية ودولية. وهذه التحالفات أمر طبيعي ومبرر، لأنّ حركات المقاومة بحاجة للدعم والمدد بشتى أنواعه من مصادر خارجية عن الاحتلال بعد مصادرته كافة مقومات الفلسطينيّن وسلب مواردهم المادية والإنسانية. فطبيعة المقاومة هذه تتناقض وحالة السلطة (أو "الدولة") تحت الاحتلال، التي يكرسها فريق أوسلو وما بعد أوسلو. ويمكن أن يُرجعَ الصراعُ إلى منهج المقاومة ذاته بين صفوف حركات التحرر، وهذا أمرٌ يمكن تجاوزه إذا أجمعت المقاومة على قيم المقاومة الأساسية، وفعّلت داخلها آليات اتخاذ القرار المقاوم، وتبنت استراتيجيّة في حل النازعات والتناقضات الداخلية. وهذه الاستراتيجية لن تتحقق في الساحة الفلسطينيّة إلا إذا أعيد بناء منظمة التحرير الفلسطينيّة وفق آليات واضحة وشفافة، وعدم طمس القضية في سلطة وهميّة تقودها نخبة طورت فيما بينها وبين الاحتلال علاقات مركبة من المصالح الاقتصادية والأمنية والسياسية..
- اختلال التوازن بين قيم المقاومة ومصالح الناس اليومية: دائماً ما يهتم الإحتلال باللعب على وتر مصالح الناس المعيشية والحياتية لنسف قيم المقاومة وسحب البساط من تحت أقدام حركات التحرر. لأنّه يدرك أهميّة اصطفاف الجماهير حول قيم المقاومة وحركاتها. وكأنّه يحاول خداعنا وضعاف النفوس واقناعنا أنّ حال الناس كان أحسن تحت سياسته المباشرة، وكان الناس ينعمون بنعم الاحتلال الإقتصادية والمادية. والأخطر أن يُهيمنَ على حركات التحرر (سابقاً) خطاب الارتكاس للمصالح الاقتصادية اليومية، وكأن قضية التحرير الأصيلة اقتصادية، وعلة وجود حركات التحرر والمقاومة في توفير فرص عمل لجماهيرها. ورغم مأساة الحصار في غزة، إلا أنّ القضية ليست بقضية إنسانية، تُحل بفتح المعابر لإدخال الدواء والطعام والوقود. فلو كانت قضية غزة قضية إنسانية، لما تردد النظام المصري بفتح حدوده لحل القضية، فيكفي شعب مصر لتزويد أهل غزة بحاجياتهم الإنسانية.. ولكن مجرد شراكته الفاعلة في الحصار يشير لعمق القضية وحقيقتها السياسية المرتبطة جوهرياً بقيم المقاومة والتحرر مقابل ثقافة التفاوض العبثي.
- القفز من وضعية المقاومة ومنطقها إلى وضعية "الدولة" أو السلطة وارتهانها: يبدو للوهلة الأولى أنّ خطةٍ مثل خطة سلام فياض لإقامة الدولة الفلسطينة تعيد للقضية الفلسطينية مركزيتها وتستعيد أصول وأهداف المقاومة. فهل إقامة الدولة والاستقلال إلا الهدف الأخير والجوهري لحركات التحرر! نعم بالتأكيد، ولكن هل الغاء تقرير غولدستون إلا تكريساً للاحتلال وتعزيزاً لارتباط المصالح الاقتصادية والسياسية بين فريق التفاوض واسرائيل!. تقوم دولة ذات سيادة تحمل الارادة السياسية المستقلة بتبني موازنات بين مصالحها وبين استراتيجيّتها السياسية والثقافية، وهذا أمر طبيعي في حياة الدول. ولكن، أن تقوم حركة تحرر بموازنات تكرس حالة الاحتلال، فهذا قفز بقيم المقاومة من مرحلة التحرر لمرحلة الدولة، بل دويلة أمنيّة أو دويلة ظل لحالة الاحتلال، أهم دورٍ لها تزيين الاحتلال الإسرائيلي. وقد استفاض سلام فياض وفريقه بمبادرات السلام والتسوية التي تحاول قلب موازين الصراع بجعل الاحتلال مجرد طرفاً ثاني بيننا وبينه خلافات في قضايا سياسية واقتصادية.
حاجة القضية الفلسطينية للمقاومة المستديمة ضروريّة ليس فقط للحفاظ على وجود القضية، بل أيضاً لتحقيق استراتيجية التحرر وقيم المقاومة عاجلاً ام آجلاً. وقديماً قال ابن خلدون أنّ المغلوب عادة ما يميل للتطبع بعادات وقيم الغالب، وهنا تكمن أهمية قيم المقاومة في الحفاظ على الهَوية والحقوق والقضية من خلال تبني المقاومة المستديمة، التي تعيد للقيم مركزيتها ولأصول القضية حضورها: اللاجئين وحق العودة، والقدس وعروبتها، وفلسطين وتاريخها العربي الإسلامي، والنكبة وحقيقة الاستعمار الصهيوني وعداوته المتأصلة في أصل الصراع. لذلك فإنّ حسم مسألة قيم المقاومة في صناديق الاقتراع هي تصفية للقضية الفلسطينية وأصولها وتكريس لحالة الارتهان للاحتلال والتطبع فيه.
لن تُحرر صناديق الاقتراع والديمقراطية شعباً من الاحتلال.. ولم تكن قديماً ولن تكون حديثاً طريقاً للاستقلال وتكريساً لثقافة المقاومة. قيم المقاومة تتجاوز الحسم الديمقراطي، فهي قيم تنتمي لحالة التحرر المطلق من الهيمنة.. وليس لحالة الإختيار والموازنات السياسية والاقتصادية التي تفرضها وضعية الدولة أو منهج التفاوض وحل الصراعات. بل قيم المقاومة هي من تحسم الصراع وليست الديمقراطية أو التفاوض.
هل المقاومة الفلسطينيّة والجماهير الفلسطينيّة مدركة لضرورة تفعيل قيم المقاومة والتفريق بينها وبين آليات الحسم الديمقراطي في الانتخابات المقبلة.. إن وجدت!! سؤالٌ خطير

أسامة عباس
القدس 5 \ 10 \ 2009

الأحد، 4 أكتوبر 2009

خطاب القذافي: خذ الحكمة من أفواه المجانين
خطاب الأخوان المسلمون: الجنون وتسفيه العقول
خطاب الرسول الكريم: " إن يعلم الله فيكم خيراً يول عليكم خيركم"
كنت قد تحدثت في السابق عن جدلية الجنون والسخرية في سياق الصراع العربي-الصهيوني.. وقدر الله تعالى أن أنشر المقال قبل خطاب الرئيس الليبي معمر القذافي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. فكان لا بد للمقال أن يخوض في إشكالية القذافي لولا نشره مبكراً، خاصة بعد ما آثاره الخطاب "التاريخي" –كما أطلق عليه- من جدل على الساحة الإعلامية الشعبية في العالم العربي. وخلال نقاشٍ سياسيٍّ لي مع أحدهم، غالباً ما هيمنت صفة الجنون على شخصية القائد القذافي عند تحليلنا لخطابه. ولكن، لا بد من طرح التساؤلات حول إشكالية القذافي في سياقها السياسيّ والثقافيّ الملائم، ولو كان يثيرنا حقاً تشخيص شخصية القذافي وتشريحها تحت وطأة نظريات التحليل النفسي والطب النفسي -فالأرجح أن يتم حبسه في مركزٍ خاصٍ للأمراض النفسية والعصبية المستعصية.
ولكنّ التساؤلات الحقيقية لا بد أن تطرحَ نفسَها في مجال التشريح السياسي والثقافي لللإشكالية ذاتها: هل القذافي مجنون؟! أم هو ساخر؟! أم ظاهرة مسشرية، ما تعبر إلا عن أزمتنا السياسية والثقافية الإسلامية؟ وتعكس شح موارد الأمة في صنع القادة والعباقرة والمبدعين؟.
تعالوا معاً نحلل جوانب من خطاب القذافي بشكل موضوعي، حتى يَسهُل علينا تحديد إشكاليّته.
من المفضل بداية، تهميشُ الجانبَ الفنيّ والشكليّ من خطاب العقيد، أيّ ما يتضمنه من أسلوب الخطاب ولغته، ومهارات الإتصال، وفن محاكاة الجمهور. ولنعرض هنا، مضامينَ الخطاب ورؤية القذافي السياسية والثقافية في سياقها العربي والإسلامي:
- ديمقراطية الأمم المتحدة: في خطابه يدعو القذافي الأممَ إلى تحكيم ذاتها من خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وليس بناءً على ميزان القوى في مجلس الأمن الذي استأثر بالقرار السياسيّ الدوليّ من خلال حق النقض، الذي يمنح لقوى القطب الواحد، الهيمنة على الأمن الدوليّ، وتشكيل العالم على ضوء مصالحها السياسية والاقتصادية. ودعوة القذافي، تتلخص في دَمقرطة الجمعية العامة، وجعلها السلطة التشريعية للأمم البشرية، وإلغاء حق النقض الذي يناقض الديمقراطية ويجعل من هذه المؤسسة الدولية لعبة بين أصابع قوى القطب الأمريكي.
- تشكيل مجلس الأمن الدولي: يتكوّنُ هذا المجلس -من الآن وصاعداً- على مبدأ المساواة بين الأمم، ويتم سحب صلاحية التدخل العسكريّ، وإعادتها إلى الجمعية العامة. وما مجلس الأمن إلا مؤسسة تَتَبع الجمعية العامة وقراراتها التشريعية، وفي أقصى حد، ما هو إلا سلطة تنفيذية تتشكل من التكتلات الكبرى في العالم، مثل: منظمة المؤتمر الإسلاميّ، والإتحاد الأوروبيّ، والإتحاد الأفريقيّ، والولايات المتحدة الأمريكية، والتكتلات اللاتينية والأسيوية وغيرها.
- هيمنة الجمعية العامة على قرار الحرب والسلم العالمي: بعد أن فشلت الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدوليّ، على مدار ستين عاماً خلت، من منع نشوب عشرات الحروب الإبادية والعدائية، التي وجّهت في غالبيتها المطلقة ضد الأمم المستضعفة والفقيرة في العالم الثالث، يدعو القذافي الجمعية العامة للتحقيق في الحروب التي أُعلنت من قبل القوى العظمى، وخاصة الولايات المتحدة وحروبها في العراق وأفغانستان. ودعى القذافي إلى فتح ملفات جرائم الإبادة والتعذيب والإغتيالات السياسيّة خلال العقود الماضية.
يمكن الحسم مطلقاً أنّ هذه المبادئ، تلخص خطاب القذافي "التاريخي" على منبر الجمعية العامة، والذي امتد لأكثر من مئة وثلاثين دقيقة. وكل ما ورد على لسان قائد الثورة، لا يتجاوز هذه المبادئ الثلاث. وأعتقد أنّ كل من يحمل مزاجاً فكرياً معتدلاً، لا يمكنه نقض هذه المبادئ، والطعن في امكانية تحقيقها للعدالة السياسية في العلاقات الدولية، بين الأمم المشاركة في الأمم المتحدة، وذلك دون خوض في فلسفة هذه المبادئ، وتمترسٍ وراء موقف أيديولوجيٍّ وعقائديٍّ أيّاً كان.
هذا من ناحية مضمون الخطاب. إذاً ما الغرابة في خطاب القذافي؟ ما دام يتلخص في هذه المبادئ العامة، التي يمكن لأي مواطن متوسط في الأمم المختلفة، من التعبير عنها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. ناهيك عن قادة دول عربية لهم القدرة الخطابية والشكلية الأفضل للتعبير عن هذه المبادئ وايصال رسالتها بشكل أقوى وأنجع؟!. ولكن بعيداً عن تشخيص الجنون عضوياً ونفسياً، لا بد من تثبيت الجنون ثقافياً في إشكالية القذافي، التي يمكن تحديدها في هذه المعادلة المنطقية: إذا وصف القذافي بالجنون عُرفاً فلا مفر من احتمالين- فإمّا أن يكون حقاً مجنوناً فتكون الأمة حكيمة، وإمّا أن يكون حكيماً فتكون الأمة حقاً مجنونة. وفي الاحتمال الأول، لا تخرج الأمة عن كونها غثاءً، فقد شخصت الحالة ومع ذلك ارتضتها لذاتها. وفي الاحتمال الثاني لا بد من شهادة حق بحق القذافي. كيف؟!
على ما وصلتنا من أخبار متواترة، لم يحكم حكيمٌ أمةً مجنونة! فعقائدياً لا يمكن لحديث الرسول الكريم:" إن يعلم الله فيكم خيراً يول عليكم خيركم" أن يُكذّبه تاريخ الفكر السياسي!. وإن حللنا المسألة وضعياً، لا بد لتركيبة المجتمع الاجتصادية، أن تمنع الحكيم من إدارة الصراعات والنزاعات وتفعيل آلية فاعلة في صناعة القرار السياسي في دولته، فَتَحُول هذه التركيبة بينه وبين السيادة والرياسة. ففي هذا المجتمع تسود الفوضى ثقافياً وسياسياً بحيث تحكمه معايير الغلبة والبطش والغدر، بعكس المجتمع السياسيّ الذي يسعى لضبط العنف والغلبة وفق أسلوب التفاوض وحل النزاعات بارجاعها لمرجعية عليا غيبية أو وضعية.[1] إذاً في حالة اثبات حكمة القذافي مقابل جنون الجماهير العربية لا بد من شهادة حق بحقه كونه غلب سنن الكون والحياة. وطبعاً هذا مُحال!.
ولكن الأحداث والمعطيات الموضوعية تُثبت صفة الجنون لطرفي المعادلة: القائد والجمهور.
القيادة والإبداع والعبقرية
- خطاب القذافي لا يحمل في طيّاته أي مؤشر كونه مبدعاً من الناحية الفنية والموضوعية. فالرسائل التي أراد أيصالها تم تلخيصها في ثلاث نقاط أساسية، لا يعجز أي مواطن عربي متوسط عن إلقاءها أمام الجمعية العامة وبشكل أفضل.
- خطاب القذافي لا يحمل في طيّاته أي مؤشر كونه قائداً سياسياً له القدرة على توجيه الجمهور نحو أهدافه المنشودة من خلال مكوناته وصفاته القيادية.
- خطاب القذافي لا يحمل في طيّاته أي مؤشر كونه عبقرياً في صناعة الحدث والسياق السياسي، رغم توفر الفرصة لذلك من خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة وقد جلس للاصغاء إليه قادة عشرات الأمم وملايين البشر.
هذا الخليط المركب من مقومات القيادة والإبداع والعبقرية لا تتوفر في القادة العرب عموماً، وهذا لأسباب موضوعية وثقافية تسود في الواقع العربي والإسلامي:
- تبدأ مؤشرات الإبداع والعبقرية تتشكل في السنوات الآولى من حياة الإنسان، وهي تعبر عن تميزه عن أبناء جيله. وصفة القيادة تتمظهر بشكلها الواضح الجليّ حتى جيل الأربعين. لهذا يتحدث الباحثون عن احتمال استئصال هذه الصفات في حال حرمان الأمة والمجتمع الفرد -في هذه المرحلة من حياته- من التعبير عن هذه الصفات وتنميتها، إمّا من خلال القمع والاضطهاد والظلم وإمّا في حالة نشأته في زمن حرب تبدد موارد الأمة في اتجاه المجهود الحربي العسكري.
- في واقعنا العربي والإسلامي قد تجاوزت غالبية القيادة العربية جيل الأربعين، بل تربعت على عروشها لأكثر من أربعين عاماً. والقذافي نموذج ساطع، فكيف يرجى منه تحقيق الابداع في فن القيادة، في أبسط صورها: مخاطبة الجمهور ومحاكاته، ولغة الاتصال ومهاراته، وليس في فن التهريج الذي يُضيّع المضمون والغايات.
- ومن المثير أنّ أمّة ما لا تفقد جيلاً كاملاً من العباقرة إلا إذا طالت الحرب طولاً يكفي لإخماد الذروة الإبداعية برمتها، لكن مثل هذه الحرب نادرة جداً في تاريخ الشعوب لحسن حظ الإنسانية. فممكن للحرب أن تنشب في أخصب فتراته الإنتاجية للمبدع ممّا تُفقده فرصاً لا يمكن استعادتها للإنجاز الفني أو الفكري والسياسي.
- إنّ مجرد تقدم القذافي في التصدي لهذه القضايا التي لا يختلف عليها حكيمان، تعكس شُح صفات القيادة لدى زعماء وملوك العرب. ولا شك أن ترهل القادة العرب على عروشهم قتل الابداع في حياتهم السياسية، مما أفقدهم مقومات القيادة إن وجدت أصلاً.
- الملاحظ في السير الذاتية للمبدعين أن الرسم البياني لانتاجهم الفكري أو الفني يتقدم ويتراجع ويصعد ويهبط وفق متغيرات متعددة ومتشابكة: على الصعيد الشخصي، نفسية وذهنية وجيلية وعائلية، وعلى الصعيد العام سياسية وثقافية واقتصادية. وهكذا فإن المبدع والقائد في المجتمع السياسي تتراجع شعبيته ومكانته ودوره في الأمّة وفق الرسم البياني لإنتاجه الفكري والإجتماعي وغيره. ولكنّ القادة العرب لا يتراجع تربعه على عرشه إلا بحبل من الله (وفاة) وحبل من الناس (اغتيال، انقلاب، احتلال)، رغم أنّه ابداعاً وعبقريةً لم يعد يفيد الدولة والأمة، بل يقف عائقاً أمام تقدم العباقرة والقادة والمبدعين.
- رغم أنّ نسبة ذوي العقول العبقرية نسبة ضئيلة فإن عددهم الكلي عدد كبير.. فإنّه في شعب يبلغ أكثر من 200 مليون من البشر كأمّة العرب، لا بد أن تكون هناك مجموعة كبيرة تكفي لأن تشكل مدينة صغيرة مثل مدينة القدس، تعج بعقول لها قوة عقل الغزالي وصلاح الدين والمتنبي وابن خلدون والخوارزمي. ومع ذلك فإن معظم هذه العقول لا تحقق الشهرة المرجوة وخاصة إذا تصدت العقول الخاوية والقيادة المجنونة للرياسة والسيادة السياسية والاقتصادية، التي تمنع من هيمنة الابداع والعبقرية على أطر المجتمع وحياة الأمة الثقافية والعلمية والسياسية.
الحركة الإسلامية: جنون السطحية

الحقيقة أنّ قادة الأحزاب والجماعات السياسية في العالم العربي لا يبتعدون كثيراً في التعبير عن إشكالية القذافي بكل تفصيلاتها وعمومياتها. وليس عبثاً أنّ قادة المعارضة لا يحملون مشروعاً سياسياً متكاملاً كبديل للواقع السياسي والثقافي السائد، ولا يطرحون حلاً للإشكالية ذاتها، وخاصة الحركات الإسلامية. لنأخذ نموذجاً حركة الأخوان المسلمين في مصر، والتي من المفترض أنّها تجاوزت كثيراً من إشكاليات الواقع العربي وتعقيدات الحركات الإسلامية السياسية والفكرية المتخلفة. فقد بلغت هذه الحركة من العمر عتياً، ومرّت بتجارب فكرية وسياسية منذ ثلاثينات القرن العشرين عند تأسيسها. فرغم التباين النوعي في شخصية المرشد العام للأخوان المسلمين - محمد مهدي عاكف- إلا أنّه لا يختلف كثيراً عن خطاب القذافي فنياُ وموضوعياً.
هكذا فإنّ حالة الجنون السياسي والثقافي تنطبق على الحركات الإسلامية إلا قليلاً منها. والخطاب الإسلاميّ التي تمثله حركة الأخوان المسلمين يسوده السطحية في معالجة الإشكالية ومشكلات الواقع العربي والإسلامي. ورغبة في عدم الاستطراد والإطالة أحيل القراء للقاء نموذجي للمرشد العام في برنامج تلفزيوني مصري، يذكرنا في إطالة القذافي خطابه وعدم نجاعته في ايصال الرسائل النوعية والأفكار القيّمة. وفقط للمقارنة المبدئية بين هاذين النموذجين وبين خطاب الأمين العام لحزب الله وكيف أنّه يعبر عن أسلوب مختلف في الخطاب شكلاً ومضموناً، ولكنّه مجال يطول فيه الحديث والتحليل.
الحقيقة أنّ الدور الكوني المتوقع من الحركة الإسلامية وخاصة حركة الأخوان المسلمين، لا يتماشى مع واقعها السياسي والفكري ومستوى قياداتها وعمق خطابها. مع أنّ متوسط جيل القادة في صفوف الحركات الإسلامية أصغر بكثير وبشكل واضح للعيان مقارنة بالحركات والتيارت الفكرية والسياسية في العالم العربي والإسلامي. فيكفي النظر في الصف الأول من قادة حركة حماس وحزب الله والجهاد الإسلامي والحركات الإسلامية في المغرب العربي مقارنة بحركة فتح وتيار المستقبل والأحزاب الوطنية والقومية في العالم العربي، والحال أكثر وضوحاً مقارنة بالزعماء والملوك العرب من الشرق إلى الغرب. ولعل هذا الفرق من بركات الإسلام الذي في طبيعته العقائدية والحضارية يحمله الشباب ("إنهم فتية أمنوا بربهم فزدناهم هدى" .."نصرت بالشباب").
ولكن، هل اكتفى الرسول الكريم بهذا المعتقد الأصيل في الإسلام كي يبني الأمة والدولة؟! فيكفي استحظار جوانب من سيرته العطرة في الإدارة والسياسة وخطاب الجماهير، حتى تتجلى عبقريته وابداعه ومقومات قيادته المميزة. ولكنّ الحركة الإسلامية تفتقد القراءة العميقة لسيرته عليه الصلاة والسلام، وتكتفي باقتباسات مجزئة لسيرته، عاجزة عن تشكيل آلية منهحية لفهم هذه السيرة وترجمتها لواقعها السياسي والإداري والثقافي المعاصر. بالإضافة لغيابها عن العصر وعدم قدرتها لفهم واقعها السياسي والثقافي المعاصر والمتغير باستمرار.

فكيف ترضى حركة الأخوان بسطحية هذا الخطاب وتسفيهه لعقول جماهيريها الممتدة، وتكريس هذا الجنون الثقافي والسياسي. رغم الخير الممتد بين صفوف كوادرها الشابة، والعقول الكبيرة والمبدعة التي تُميز الحركات الإسلامية.

"إن يعلم الله فيكم خيراً يول عليكم خيركم"
كتب مقترحة:

عباس محمود العقاد: عبقرية محمد

مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي
يتبع لاحقاً مقال بعنوان: الحركة الإسلامية: كلمة إقرأ العلمانية
أسامة عباس
بيت المقدس 4 \ 10 \ 2009

[1] قال تعالى: "يا أيّها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم. فإن تنازعتم في شيء فردوّه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر. ذلك خير وأحسن تأويلا" (النساء 59)..." وقوله تعالى: " إنما المؤمنون إخوة..." (الحجرات 9-10) .. في هذا السياق نعود لاحقاً لإشكالية الحركات الإسلامية، وكيف تتصرف بعكس شعاراتها ومنهجها فتكرس العلمانية والوضعية في حل صراعاتها الداخلية والخارجية.. وسنأخذ كتلة إقرأ نموذجاً (وللقارئ في العالم العربي والإسلامي نعرفه لاحقاً بها)، وعالمنا العربي والإسلامي مليء بالنماذج .