الجمعة، 11 ديسمبر 2009

بكاءٌ مع لاجئة

بُكَاءُ لاجِئَةٍ
ما زلت أبكي وأنا أدون هذه الدموع
...

أعترف أني لم تذرف دمعةٌ لي على فلسطين على فترة من المصائب، وتتراً من النكبات. كان آخرها في وقفةٍ بين يدي الله أتلو آيّةً تختزل الزمان: "من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل، أنّه من قتل نفساً بغير نفسٍ،أو فسادٍ في الأرض، فكأنّما قتل الناس جميعاً...(المائدة:32) ".

ولكنّي في هذه اللحظات لا أبكي ضحية جلاد. جلادٍ عهدنا جرائِمَه من لدن هارون وموسى..
إنّما جلاد من نوعٍ آخر..
بل قل من نوعنا..
من ديننا… من وطننا ومن مخيّمنا ومن قدسنا! من قدس أقداسنا.. من مسرى حبيبنا..
من مخيم نكبتنا ونكستنا! من بكاء أطفالنا.. من عجز نساءنا… من حيرة رجالنا..
من ثباتِ رجالُ اللهِ في أرضنا.. من تراب رباطنا… من كلِ شيء فينا!..
من عمق تاريخنا.. من وجودنا ووجداننا.. منّا..
ومن ذنوبنا.. وخطايانا… من…!

أبكتني ضحيةُ ضحيةِ الضحية…

وأعترف أن لا ضحيةٌ أبكاني عويلُها كما أبكتني هذه المرأةُ!
وأعترف أن لا شيخٌ أبكتني مواعظُه كما أبكتني هذه المنكوبة!
واعترف أن لا حكيمٌ أفهمني منطقُه كما أفهمتني هذه المسكينة!
وأعترف أن لا زعيمٌ أقنعتني غوغائيّته كما أقنعتني هذه المسحوقة!

كان ذلك عندما رمتني يدُ الله بين يدي امرأة مقدسيّة، أبت دموعُها - التي تعوّدتِ السيلَ زمناً، وأتقنت فن البكاء والمأساة-إلا أن تنتزع منّي كبريائي، وصلابتي، وقسوةَ قلبٍ طال عليه الأمد.. فسالت دموعٌ لم أعهدها، ورق قلبٌ لم أذكره، وجالت أفكارٌ كرّرتُها مراراً.. ولكنّها فلسفةٌ جوفاءٌ، ونظريّةٌ صماّءٌ في الهُويّة والحريّة والصراع والاحتلال والإسلام ...

كانت لحظة…
في خاتمة يوم عمل طويل لم ينتهِ.. لم أدرِ كيف تحركت يدي -لا إرادياً- فتوقفتْ سيارتي لامرأةٍ تُشير لي للتوقف على هامشِ طريقٍ! في شارعٍ من شوارع قدسنا.
انزلقت السيدةُ على مقعدها الخلفيّ..وكأنّها غير واعيةٍ ولا آبهةٍ لما تفعلُ.. ولم تلبثْ أن بدأت دموعُها تنهمر منها تندُبُ حالها.. وترسُم لي صورةَ مأساة فلسطينيّة.. لم يصل خبرُها بعدُ لمجلس الأمن، والجمعية العامة للأمم، ومجالس حقوق الإنسان.. بل لم يصل إلى سراديب مؤتمرنا الإسلاميّ أو جامعة العرب.. أو حتى لقلوبٍ مسلمةٍ عربيةٍ غافلةٍ!
صورة امرأة في مخيم شُعْفَاط، كيلومتراتٍ قليلة من المسجد الأقصى الذي بورك حوله.. تعيشُ في مخزنٍ لأحد عائلات المخيم المنكوب على أثر نكبة العرب ونكستهم.. تبكي ظلم الأقارب، تبكي قسوة الضحية، تبكي شهود قضية، تبكي مأساة شعبٍ باع القضية وألقى البندقية والحرية.. واستعبد الهزيمة والخنيعة، واستمرأ الضحية والعبودية! فكما اخرج موسى قومَه من عبودية استمرأوها.. عاد قومُه بعده لها يعبد، وقد أُشرِبت فيها قلوبُهُم.. وفي زماننا لعبوا دور الضحية فطابت لهم.. ونحن من بعدهم وبصنعتِهم استمرأنا دور الضحية، وكأنّ شعبنا كله ضحية..! وغفلنا عن كوننا جُلاداً لأنفسنا وذواتنا.. فسلط الله عليّنا ضحية تتقن الجلد وفن الجلد..
امرأةٌ فلسطينيّةٌ تُشتت امرأةً فلسطينيّةً..
قالت لي ودموعي ودموعُها تُعزي بعضها بعضاً… "هذه المرأة التي استأجرتُ منها المخزن.. الذي يأكل جلدي ولحمي وعظمي بخشونة جدرانه، ونتؤات حديده، ووقاحةِ شتاءه وصيفه… ونتانةِ جوّه العُلُوي وأرضه المقدسة.. تطالبني بأجرة السكن- المسكون بالحقارة والوساخة والاستغلال- خمسمائة شاقلٍ، هي بطاقة خلودي للنوم الليلة.." ليلة جمعةٍ قارصةٍ في شتاء القدس.

بعد أن شوهوا الهُويّة ضُيّعت القضية

امرأةٌ تضطهد امرأةً.. ويقول من يقول، ويدّعي من يدّعي: أنّ للمرأة قضية.. وأنّ للرجل قضية. فجزأوا المجزء وقسّموا المقسم.. واتّبَعهم أذناب الثقافة والحداثة والبلية.. فضُيّعت الهُويّة، وشُتت الأمّة، ونُسِفت القضيّة. . . فتنادوا بينهم: "يا عمال العالم اتحدوا.. ويا نساء العالم تحرروا.. ويا شعوب الأرض ارتقوا وتقدموا" فلا مُجيب بعد قتلهم الروحَ.. فارتمتِ الجثةُ هامدةً ميتةً! فلا حياةَ لمن نُودِيَ.
ضحيةٌ تُشتت ضحيةً.. ولاجئةٌ تطرد لاجئةً.. فأي قضية هذه..! فمن قلب القضية ومن عنق الجلاد الضحية أو الضحية الجلاد.. حدثتني هذه المرأة الاجئة، عن واقعِ مخيّمِ اللجوء.. عن قصةِ واقعٍ شاهدته بأٌم عيني قبل أيام في ذات المخيم.. حدثتني عن "معركة صمود" المخيم ذاتُه.. معركة كانت بين ضحايا الجلاد "الحقيقي" أنفسِهِم.. بين عائلاتٍ لاجئة قتّلت احدهما الآخرى، فألقيت القنابلُ، والرصاصُ على الصدور. قالت لي: على كلبٍ قُتِلَ رجلٌ بلغ الأربعين.. بكاه جميع المخيم.. نعم.. بكاه من قتله، فنحن نتقن البكاء، أو لا نتقن إلا البكاء! .. إلا فنَّ البكاء.
فنُّ بُكاءٍ فلسطينيٌّ

لم تتوقف دموعها وكأنّ جفونها مخزن آهاتٍ وحسرات.. لا تضمأ أبداً، حتى يظُنُّ باكيها أنّها تمثيليةٌ فلسطينيةٌ حزينةٌ لأحدى المتسولات في باب العمود أو مصطبات وأروقة المسجد الأقصى. فتتراجع دموعي تحت وطأة شكٍ فلسفيٍّ.. أو الشك الأمني الذي ذوتناه في وجداننا قائلين لأنفسنا خُفيةً: "لا بد أنّه عميل.. لا بد أنّه "شاباك".. لا بد أنّها متسولةٌ كذّابةٌ أو تاجرةٌ ماهرةٌ… إلخ".. ولكنّ شكٌ إنسانيّ عميق، ما لبث أن أقنعني لعلها صادقة- وعلمها عند ربي-.. أو أنّه شكٌ برغماتيّ، دعاني للبكاء معها موسوساً لي، ينفث في أذنيَ: ويلك! ما من شيء تخسره يا هذا! بعد أن فاضت دموعُك.. خاصة أنّك استمتعتَ بالبكاء في لحظة إنسانية عابرة، وعاطفة ممتعة يحتاجها الإنسان من حين لآخر، فانتفع بها واستغلها علّها لا تعود أبداً!. وسوسةٌ ملخصها، أنّ حتى دموعَنا ومشاعرَنا وأحاسيسنا إن هي إلا منفعة شخصية، نحمّلها معانٍ إنسانيّة وأخلاقيّة وهميّة.
واصلت البكاء.. بين كرٍ وفرٍ.. فإمّا أنها تجيد فنّ البكاء والتحكم في ينابيع الدموع، كما الاحتلالُ، يتحكم في مياه وغاز ونفط غزة.. وتتقن توجيه مشاعرها وإحساسها كما الاعلام الموجه لتنتزع منّي موقفاً متضامناً، حتى تحقق غايّتها ثم ترميني مخدوعاً عارياً منسيّاً. وإمّا أنها فنانة حقاً، فَطَرَتها نكباتُها على تقمصِ شخصيةَ بطلِ مسرحيةٍ تراجيديةٍ، أمام جمهور مستسلمٍ لعمق أداءها الإنسانيّ، مُنغمسٍ في واقع مأساة بطلِهِ. لا يفرق جُمهورُها وضميرُه الحيُّ بين حقيقة البطلة ودورها.. بين ما خلفَ الكواليس وأمامها.
ولكنّ فن البكاء مهما ارتقى.. لا يمكنه خِداع أنانيتنا المعاصرة وشكوكنا العميقة.. فلا بد للمُمثل أنّ يعيش مأساته حتى يؤثر فينا.. كذلك هذه المرأة.. لا بد أنّها خرجت من عمق المأساة...
فكرةُ بددت لديّ شكوكاً.. وإن بقِيت آثارها
وليطمئن قلبي أكثر، انصت لحكمتها مرغماً منساباً مع اللحظة.. كأني مريدٌ بين يدي شيخه ...
حكمةُ الشعب وغباءُ الحكام
أردت بدايةً أن أُخفي دموعي عنها.. فرجولتي لا تسمح لي بالبكاء علناً.. ولكنني استسلمتُ لدموعٍ علّها تعزيها وتشاركها أحزانها وآهاتها.. فقد لاحظتْ عليّ بأنوثتها العذراء شهقاتٍ عميقةٍ، ودموع متضامنة، منعتني من تحريك المرآة فوق رأسي قاصداً رؤية وجهها الشاحب ودموعِها الجارية، ولكنّي استرقت السمع مراراً متتبعاً لهمسات دموعها وأنفاسها، معوضاً بذلك عجزي أو مهابتي من مشاهدة مسلمةً تبكي ظلمَ، وقسوةَ، وَجَلْدَ أولادِها لها… أو لاجئةً تتراكم عليها نكباتٌ فوق نكبات.. وهزيمةٌ فوق هزيمة، واحتلالٌ فوق احتلالٍ، وحاكمٌ فوق حاكمٍ، ومخيمٌ فوق مخيمٍ أو داخل مخيمٍ… أو إنسانةً تشكي ظلم الأهل والأقارب وأبناء الوطن، وكأنّ الشكوى سلاحُ الضعيف، فهذا ما يملكه أمام قساوة ِالواقع وتلبدِ الضمائر وجمودِ وجداننا الإنسانيّ.. أو لعله سلاح القوي.. حين يدرك أنّ عدل الله واقع لا محال في الدنيا قبل آخرتنا ..
ولعل سقراط [1] صدق حين نزل للشعب والعامة لدراسة الفلسفة.. فقد أدرك أن الحوار مع الناس وعامتهم يوصل للحقائق والمثل.. وقدِ ادّعى على لسان تلميذه أفلاطون: أنّ ابن الفقير دائماً ما يبحث عن العدل، فهو تجرع مرارةَ الفقرِ، والظلمِ، والاستغلالِ، وغيابَ العدل في أبسط صوره. لذلك فأبناء الفقراء، أي الجيل الثاني من الفقر، يسعى لإقامة نظامَ ودولةَ العدل. أمّا أبناء الأغنياء الذين تنعموا من ثروة الآباء، فقد تجرعوا مرارةَ الفراغِ والخواءِ واللا معنى، بعد أن رأوا آباءهم يعملون ليل نهار لجمع المال والتراب، ولكنّهم لا يتمتعون بالحياة، كما يستمتع أكثريةُ الناس حين يعملون القليل، ولكنهم يَحيّون بقدر من السعادة، يكفيهم للبقاء والفناء والضحك والبكاء.. وهذا الجيل الثاني من الأغنياء يتمرد على الآباء، يطلبوا الحرية من قيود الغنى واللامعنى.. فيسعون لإقامة نظام الحرية.. الحرية من العمل والفكر والمال والثروة والكماليات التي صادرت طبيعتهم.
ولعل المرأة بحكمتها الفطرية.. أدركت أن لا بقاء للظلم بشتى أنواعه.. أكان ظلمَ الفَقرِ أم ظلمَ الغنى… فقد روت لي السيدة قصةً، بعدما توقفت دموعُها وشهقاتُها، وكأنّها لحظةٌ، لا مكان للعواطف فيها والأحاسيس.. ولا للقلوب. إنّما لحظة يتجلى العقلُ فيها بأبهى صوره، وتنطق فيها حكمةُ الشعبِ بصفاءها البهيّ.. متجاوزةً تشدقَ فلسفيٌّ وأكاديميٌّ بنظريات الوجود، قائلةً لي بعباراتٍ عَجزتُ عن حفظها لفظاً، ولكنّها معنانٍ هزّت كياني، واستحقرت نظريتي المستعلية بهتاناً، فوق حكمة الشعب: ظن هؤلاء بغبائهم أنّ نِعَمَهُم أوصَلَفَهم أوظلمَهم أوزيفَهم، أزليٌّ كان، وأبديٌّ سيبقى.

قالت مقولتها بيقين.. عَجِزَ عنّه أولوا الألباب من الحكماء والفلاسفة... وكأنّها تؤمن أن لهذا العالم غايةً لا مفر منها.. ومنتهىً لا رادّ عنه.. وطريقاً لا سبيل عنه..ألا تحقيقُ العدلِ والعدالةِ عاجلاً أم آجلاً، لتدور الدائرةُ على جميع من قدّم وأخر في هذه الحياة... كبيرةً كانت أم صغيرة.

ما زلت أبكي وأنا أدون هذه الكلمات.. ما زلت أكتب وأنا أدون هذه الدموع.. وتأكدت أن عباراتٍ لا تغني، ولا تدنو للحظةِ حياةٍ حيّة.. فلن يبكي إلا من بكى.. أو بكى على بكاءٍ…
فإذا قتل إسرائيلُ وشردَ نفوساً وأناسيّ كثيرة أفلا نُحي نفساً واحدة. .ومنّا.. " ومن أحيّاها فكأنّما أحيّا الناس جميعاً" [2]

ألا نامت أعين الجبناء
" إنّ الذين كفروا لو أنّ لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم"

أسامة عباس
بيت المقدس
11-12-2009
[1] فيلسوف يونانيّ قُتل عام 399 قبل الميلاد على أثر محكامته في أثينا بتهمة "إفساد الشباب" أو الشعب.. فقد انتهج طريقة محاورة الناس في الشوارع والأسواق بتوجيه الأسئلة لهم كأنه لا يفقه شيئاً.. ولكن من خلال الحوار يتبين أنّه أذكى منهم وأعقل.. وهكذا يدرس الحكمة والفلسفة ويساعد الناس في التوصل للحقائق الفلسفية للوجود. الحقائق الأخلاقية والسياسية والفكرية التي أثارت عليه أصحاب السلطان والجاه والمصالح مما تسبب في قتله.
[2] المائدة: 32

ليست هناك تعليقات: