السبت، 28 فبراير 2009

تنكر إسرائيلُ لجرائمها !

بقلم:- أسامة عباس
صيادو غزة: تقرير لعباس ناصر وذوق مهني وبلاغي عالٍ
يسعى المجرم دائماً للتنكر لمسؤوليته عن جرائمه.. ظاهرة تثير اهتمامنا لدراسة طبيعة هذا التنكر وطرائقه المتنوعة. والمعتدي يشجع نفسه والآخرين بطرق مثيرة لنسيان أعماله ونتائجها على ضحيته.. لذلك تمثل السرية والصمت عاملان مهمان في خط الدفاع الذاتي الذي يحدده المعتدي. وإذا لم يفلح بالحفاظ على هذان العاملان ينتقل إلى أسلوب اعلامي خطير يهدف لضرب أمانة ومصداقية ضحيته وادعاءاتها. وإذا فشل في إسكات صوت الضحية نهائياً، يسعى لتقليص جمهور المستمعين والمنصتين.

في سبيل هذه المراحل والطرائق لسياسة المجرم يجند لخدمته منظومة جدية من الادعاءات ملفوفة بتنكر سافر وصارخ بأسلوب عقلاني وانتلجنسي ومركب لا مثيل له. وبعد كل عمل اجرامي نتوقع الاعتذارات ذاتها.. والتي أصبحت معروفة.
وفي الاعلام المجنّد لصالح المُستعمر- وفي أيامنا الاعلام الإسرائيلي وغالبية الاعلام الغربي المؤثر- إذا ادعيّت أنّ المقاومة الفلسطينية إرهابية .. فمجرد القول يكفي لأن تقيم الدليل على إرهابية الفلسطينين.. ولكن إذا ادعيّت أنّ إسرائيل إرهابية فالأمر يحتاج منا لإثبات منطقي وعلمي صارم.. وحتى إذا زودتهم بذلك فإنّ إثباتك سيخضع لعملية جراحية مكثفة.. وسيمر تحت رقابة ونقد صارم.. بهدف تفريغه من محتواه الأخلاقي والعملي وايجاد الثغرات - وهذا ليس مستحيلاً- كي تشوه حقيقته وتُحاصر حتى لا تصل للرأي العام .. فهكذا يتطلب من الضحية اثبات جرائم المجرم.. بينما لا يطلب من اسرائيل اثبات انسانيتها وأخلاقية مؤسستها العسكرية والسياسية. وهنا تختل المعادلة والعدالة.. فإسرائيل الطفل المدلل لا يطلب منها الاعلام تفصيل حججها ومواقفها.. بينما في ذات الاعلام لا يمنح الوقت الكافي للضحية بتفصيل موقفها ووصف جرائم المُحتل.. وحين يبدأ بالتفصيل يشعرها الاعلام بملله من روايتها المستهلكة بالنسبة له.
كما أنّ إسرائيل تستعمل إسلوب النسيان كي تخرج نفسها من ورطة "الذاكرة الإجرامية".. فكذلك الاعلام المجند والغربي منه.. يحاول مساندتها في محو الذاكرة كي لا تتراكم الأدلة والحقائق في ذهنية الجمهور مّما يحرمه من تأسيس وعيٍّ سياسيّ واعلاميٍّ بالقضية الفلسطينية. حتى الآن نجحت إسرائيل دائماً في محو ذاكرتها .. وخداع مواطنيها والرأي العام العالمي. ولكنّ الخطورة تكمن في امكانية نجاحها بدفع ضحيتها لنسيان جرائمها.. وهذه حالة معروفة من خلال حالات نفسية فردية.. بحيث ينجح المعتدي باقناع ضحيته بعدم وجود اعتداء.. وآخرون من حولها يساندونه في ذلك (النظام المصري والرسمي العربي والاعلام العربي الموجه).. ممّا يشوه للضحية وعيها ويقنعها بصدقية الآخرين من حولها وامكانية خطأها ومبالغتها في ادعاءاتها.. فتبدأ بعملية توجيه داخلي واقناع ذاتيّ.
تنكر المستعمر لجرائمه عادة قديمة كقدم الاستعمار.. الذي يملك -لمجرد كونه استعماراً- أدوات الهيمنة الاعلامية والسياسية.. فهو يملك مصادر القوة والمعرفة.. وحتى تنتفض الضحية على جلادها لا بد لها من امتلاك القوة والمعرفة على السواء.. وسحبها من بين يدي جلادها.
القدس
28 \ 2\ 2009

السبت، 7 فبراير 2009

فرصة لاختطاف جنديّ إسرائيليّ!!

يوميّات مقدسيّ
بقلم:- أسامة عباس
طالما امتكلتني رغبةٌ عميقةٌ لتدوين مذكرات ملئت بها حياتي في مدينة القدس قلب الصراع.. تمتد بين مواقف غريبة في حافلات تقع تحت تهديد عملية استشهادية، تقل مسافرين يهود يمتلكهم رعبٌ عميقُ من موتٍ مفاجأ.. أو حوادث خطيرة مع جنودٍ اغبياء زرعوا في كل زاويةٍ أو زقاقٍ من أزقة القدس العتيقة.. امتلكتني رغبةٌ جامحة في استفزاز غبائهم وجهلهم المطقع لاستثارة خوفهم الوجودي وأزمتهم الأخلاقية. فهذا مسافر يهودي يرتاب من ملامحي العربية ويعتقد أنّي استشهاديٌّ فأشفق عليه من خوفه فأحاول طمأنته على حياته..
وذلك جنديّ يطلب مني كشف حقيبتي سائلاً: ماذا تخبأ في حقيبتك؟ فأرد عليه مستفزاً صريحاً معه: معي سلاح!.. فيحمر وجهه خائفاً من هول الصدمة. ولكني حفاظاً على سلامتي اخرج له مسرعاً من حقيبتي، كتاباً عربياً أذكر أنّه للمفكر الفلطسيني الراحل إدوارد سعيد.. قائلاً له بنبرة استعلائية واثقة: هذا هو سلاحي!.. ولكنه لم يكتفي وأصر على دفعي لاستفزازه قائلاً: "حسبتك جندياً فلسطينياً، لكنت كسرت لك عظامك".. فرددت عليه قاصداً ابعاد خطره المزيف عني ضارباً ثقته الرسمية في نفسه: أنا متأكد أنك إذا واجهت جنديّاً فلسطينياً بظروف متكافئة ومواجهة برية بدون دبابتك وطائرتك فلا شك عندي أنّه سيهشم لك وجهك، ويدوس على صورتك المزيفة في قلوب منهزِمين وأبناء قومك المحصنين.
ولكنَّ هذه المواقف وآخرى كثيرة.. لم تكن من القوة والهيمنة كي تدفعني لتدوينها.. حتى كان يوم الجمعة الأخير.. بعد أن امتطيت سيارتي عائداً من طريق الخليل ماراً في شارع رقم (1) قرب باب العمود متوجهاً لشقتي الواقعة في التلة الفرنسية. هذا الشارع الذي يفصل شرقي القدس عن غربها(1).. ومعروف أنّ هذا الطريق كان الخط الذي يفصل بين القوات الإسرائيلية والقوات الأردنية حتى عام 1967.. إلى أن احتلت إسرائيل باقي مدينة القدس والضفة الغربية خلال حرب الأيام الستة في ذات العام. فعلى شرقي هذا الطريق تقع غالبية الأحياء العربية مثل وادي الجوز والبلدة القديمة والطور ورأس العمود وغيرها.. ومن غربيه الأحياء والتجمعات اليهودية.
عندما اقتربت في سيارتي من باب العمود استوقفتني الإشارة الضوئية الحمراء.. وإذا بشاب يهودي يسألني: هل وجهتك التلة الفرنسية؟ فرددت عليه ب:نعم. مدركاً أنّه يهوديٌّ دون أن يمتلئ نظري بملامحه وملابسه.. ودون أن أستفيض في التفكير ومحاولة اتخاذ القرار. فاستدار الشاب متحركاً نحو الباب ليفتحه ويجلس بجانبي، ولكنه تفاجأ لملامحي العربية ولصوت الراديو الذي يصدع بالعربية.. فكرر عليّ السؤال نفسه قاصداً ومحاولاً التهرب من الموقف والخروج من السيارة ولتدارك الأمر! ولكني أكدت عليه وبشدة وكأنّي في هذه اللحظة توصلت لقناعة مطلقة بعد تفكير عميق وقرار صائب : نعم.. نعم إنّي متوجهٌ إلى التلة الفرنسية.. فاصعد هيا!!.. وبدأتُ مسرعاً بتحريك السيارة حتى لا تتسنى له الفرصة للخروج منها!.
بدأت بعدها في اكتشاف ملامحه اليهودية.. وتأملت وجهه الذي يقطر منه تطرفاً أعمى .. وملابسه التي تشير إلى انتمائه العقائدي ليهود متعصبين يجمعوا في عقيدتهم الدين والقومية: أصحاب الطقية (قبة) المُحيّكة (כפה סרוגה). فهذا الشاب المُقبب يلبس البنطال الأخضر لباس الجيش الإسرائيلي الذي لا يغيب عن ذهن أيّ طفل فلسطيني من الضفة أو غزة أو الداخل الفلسطيني. بنطال تتدلى منه الخيوط من جانبيّه معبرة عن تديّنه المفرط. وهؤلاء هم أشد اليهود تطرفاً وعداءاً للعرب والفلسطينين. فهم القوميون المتدينون الذين يدافعوا ويتمسكوا بمبدأ الاستيطان في أرض إسرائيل.. والذي يتشكل منهم الجيش الإسرائيلي في غالبيته من ضباط برتبهم المتعددة وجنود مقاتلين بوحداتهم الخاصة والمتعددة. وهذا الشاب الجندي ومن على شاكلته ينتمون لمدرسة الحاخام كوك الروحية والفكرية.. ونعلم انّ شاباً فلسطينياً من حيّ جبل المكبر في شرقي القدس اقتحم مدرستهم في غربي القدس العام الماضي ليقتل منهم ويجرح الكثير.
بعد أن استحضرت هذه الخلفيات المركبة لهذا الجنديّ بدأ صراعٌ داخليٌّ ممتزجاً بمتعة حقيقية طالما انتظرتها. صراع يمتد بين فلسطينيتي التي تتحمل الآن جنديّاً صهيونيّاً بما تحمل هذه التسمية من معانٍ عنصريّة همجيّة .. لا تتردد في إلقاءه عبر سيّارة تسير سرعة الضوء لتخفيه عن الوجود... إلى مقدسيّتي التي تختزل الصراع التاريخي بين الطرفين لتحوله لصراع بين شخصين داخل السيّارة ساقه قدر الله في لحظة عابرة.. إلى قضيّتي الفلسطينية التي تحرق وجداني إذا لم أختطف هذا الجنديّ.. لربما كان على أرض غزة قبل أيام قليلة!!! فقتّل وشرد وانتهك. وأمّا المتعة التي تخفف عنيّ احتراق وجداني على قلة حيلتي.. فتلك الرجفة التي رأيتها واستشعرتها في كيان هذا الجنديّ.. حتى جعلته كالخرقة لا حول له ولا قوة ينتظر مصيره بعد خطأ استراتيجيّ ارتكبه حين فكر في صعوده للسيّارة.
قد استمتعت حين علم أنّ مُعينه في التوصيلة فلسطينيّ.. وحين حاول التهرب بنفسيّة المهزوم ليخرج نفسه من السيّارة.. وحين استفاض في سماع صوت الأغاني العربية من إذاعة رام الله .. ولو كنت وحدي في السيّارة لبدلتها بصوت من القرآن الكريم على شريط لا أملك غيره يرتل فيه سورة إبراهيم.. تلك السورة التي يقول الله فيها: "ولقد أرسلنا موسى بأياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله".
مهما أوتيت من قوة العبارة-وأنا ضعيف في ذلك أصلاً- لما استطعت وصف تلك النفسية والحالة الوجدانية التي سيطرت على هذا الجنديّ. وفي اللحظات الأولى لصعوده تحيّرت هل أفتح معه جدلاً وطنياً في قلب الصراع- الأمر الذي أجيده ببراعة بالذات مع اليهود المتطرف- أمّ أستمتع في كل لحظة بهذا الشعور اللذيذ فلا أفسده في كلام لعله يكسر الصمت المخيف ويشعره ولو نسبياً بالآمان والسكينة. ولكنّي تمنيّت رغم كرهي الشديد لأزمات السيّر أن تشتد أكثر من ذلك.. فلا تنطويَ المسافة وتمتد لحظات المتعة أكثرَ فأكثر. متعة تقلب عنده عذاباً وكأنّه تحت وطئة ضربات جلاد أحد السجون المظلمة.. ينتظر مصيراً حتميّاً بالفناء. وعلى هذا الطريق الذي يشطر القدس شطرين.. ثوانٍ قليلة -إن أردت ذلك- وإذ بالسيّارة في إحدى أحياء القدس العربية.. وأعلن عن اختطافي للجنديّ ثم نبدأ بالتفاوض على صفقة أسرى.. لعلها كانت فرصة بغض النظر عن نتائجها عليّ! والسؤال هل تنجح العملية أم تفشل؟.
وكان جندي يدرك أن هذه الطريق تقف بين عالمين بالنسبة له.. الأول يشكل بيتاً آمناً بالنسبة له.. والآخر لا يمثل بالنسبة له إلا الموت والخوف والعداء اتجاهه.. وقد بدى خوفه من كوني فلسطينياً يمكنّي بثوان قليلة الاختفاء بسيارتي يميناً نحو أزقة القدس المجهوله والمخيفة له. ولعله شعر لثوانٍ قليلة في هذه اللحظات منذ صعوده للسيّارة بالشعور بالآمان.. عندما سبقتني سيارة شرطة عسكرية إسرائيلية فتقدمتني حتى المفرق القادم. ولكن ما فتأ أن تبدد هذا الاطمئنان حين وصلتني مهاتفة من أخ لي من قيادة الحركة الإسلامية.. فشكرته على المكالمة التي قدرها الله حتى أزيد من ارتباك الجنديّ بكلامي العربي.. ولكن كان ذلك تقريباً في اقتراب نهاية الرحلة قريباً من التلة الفرنسية.. فاعتذرت للأخ على قطع المكالمة كي أتوجه للجنديّ بسؤال قررت منذ اللحظات الأولى للموقف أن أسأله إياه: מתי חזרת מעזה?! بنبرة استحقار له .. فرد عليّ بعد أن اطئن لوصوله للمحطة: לא הייתי, חבל!! فقلت له مستنكراً: למה חבל!! فرد عليّ بكل صراحة لا تعبر إلا عن تربيته العنصرية الهمجية: חבל, שלא הרגתי ערבים. فقلت له ببرودة الآيس من إنسانيته: אתה נהנה להרוג ערבים?. قال بعد اطمئنانه على سلامته: כן. כמה שיותר להרוג ערבים.. זה טוב(1).
خرج الجنديّ سالماً.. تركني والتفكير بعنصريته المتأصلة .. وكيف أنّها مهيمنة على الضمير اليهودي ودولة الحل الصهيوني.. الذي يبرر بكل طريقة ووسيلة تقتيله لأطفال ونساء وشيوخ بالمئات في حربها على غزة.. الفرق أنّ هذا اليهوديّ قالها بكل وقاحة وصراحة لا يخاف أن نقدمه لمحكمة الجنائية الدولية.. ولكن دولته تتوارى عن هذه الصراحة محاولة تحسين صورتها.. ولكنها لا تختلف أخلاقيّا وجنائياً عن هذا الجنديّ الذي يتشكل الجيش بغالبيته على شاكلته.
لم أندم على "توصيلته".. فقد استمتعت من شعوره العميق بالخوف.. ولعل أنّه أشفى غليلي للحظات. وهذا موقف يبرهن أنّ اليهودي حتى في دولته لن يشعر بالأمن والآمان .. ولكنّي كفلسطيني رغم الاحتلال أشعر بالأمن والسكينة.. في حيفا وفي يافا وفي قلب المشروع الصهيوني أيّنما كان!! وهذا اختلاف عميق بين وجودي الفلسطيني ووجوده الصهيوني. فبعيداً عن ترسانتهم العسكرية التي تخبأ وراءها خوفٌ عميقٌ متجذرٌ، أدركت أنّ خسائر إسرائيل البشرية في حربها الأخيرة على غزة..لا تقاس بعدد الجنود الذين سقطوا على أرض غزة.. بل بعدد الجنود العائدين لخوفهم بعد المعركة.
وصدق الشاعر:
أعداؤنا خوفهم لهم مدد, لو لم يخافوا الأقوام لانقطعو
فخوفهم دينهم وديدنهم عليه من قبل يولدوا طبعوا
قل للعدا بعد كل معركة جنودكم بالسلاح ما صنعوا
لقد عرفنا الغزاة قبلكم, ونشهد الله فيكم البدع
ستون عاماً وما بكم خجلٌ, الموت فينا وفيكم الفزعُ.
=====================
القدس 6\2\2009
(1) أفضل بل أنا أدعو المسلمين لاستعمال عبارة: شرقي القدس وغربي القدس.. وليس العبارة التي تسوق لنا: القدس الشرقية أو القدس الغربية. فاستعمال الثانية كأننا نتفق على أن القدس قدسان شرقية وغربية.. وهذا خطأ. بل القدس واحدة لها شرق ولها غرب كما لها شمال وجنوب. كما نقول شرقي يافا وغربي يافا، كأنّ يافا يافتان. إنما "القدس الشرقية" يستعملها من يرضى بتقسيم القدس وحلول التسوية أو التصقية.
(2) لمن يحتاج قاموساً بالعبرية.. الترجمة بالترتيب: متى عودت من غزة؟ \ لم أتواجد هناك.. خسارة \ لما خسارة؟! \ خسارة أني لم أقتل عرباً \ أنت تتلذذ بقتل العرب؟! \ نعم..كلما قُتل عربٌ أكثر .. أفضل.

الثلاثاء، 3 فبراير 2009

حركة حماس: "لن نعترف بإسرائيل!!!"
حركة التاريخ: إلا إذا اعترفت إسرائيل بلائحة الاتهام!!!
بقلم:- أسامة عباس
هي ظاهرة غريبة في نوعها منذ نشأت الإنسان السياسي وتأسيس الكيانات والدول السيادية من فجر العصور البشرية: أن تبحث دولة عن اعتراف سياسي بوجودها بل قل عن شرعية لوجودها!! فعلى ما اعتقد فإنّ نشأة الدول واكتسابها لشرعيتها تكون إمّا بالقوة أو بالطبيعة وإما معاً. بمعنى أنّ وجود الدولة السياسي يتحقق بفعل تحركٍ عسكريٍّ لجماعة بشرية، تفرض وجودها على بقعة جغرافية، أو من الحالة الطبيعة لوجود أهل هذه الدولة ومواطنيها في ذات البقعة.. واستمرار وجودهم الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. أمّا في الحالة الأولى فمن المنطق السياسي والتاريخي ندرك أنّ الوجود مؤقت.. ولا سيادة لدولة وشرعية إلا إذا توفر لديها الحالة الثانية. فالتجربة الألمانية على سبيل المثال تجمع بين الحالتين: الوجود الطبيعي للشعب (اللغة، الثقافة، الدين، الاجتماع…) الألماني في بقعة جغرافية محددة، ثمّ تحرك عسكري لتأسيس كيان سياسيّ (بقيادة بسمارك). وفي هذا المثال لا يحتاج الشعب الألماني اعتراف أحد من الشعوب أو الدول في وجوده السياسي والاجتماعي بل حتى العالمي.. بل يفرض وجوده بالطبيعة على الإنسانية. ولكن، متى تبحث الدولة عن حق الوجود وشرعيته!!
كي أخوض في هذا السؤال المعقد والمركب الذي يعبر عن إشكالية إسرائيل الوجودية، سأنطلق من العدوان الإسرائيلي الفاشل على قطاع غزة وعلاقة إسرائيل وإشكاليتها مع حركة حماس بالذات وثقافة المقاومة بشكل عام.
إذا تخيلنا عالماً تحكمه القيم، وتسيّره العدالة، وغايته الخير والحق والجمال. في هذا العالم، إقامة العدل مرهون بوجود القوة.. ولكنّ القوة ليست من تحدد جودته وطبيعته (كما الحال في الهيمنة الغربية الأمريكية).
في ظلال هذا العالم، وفي حالة تحرك الدول والمؤسسات لتقديم إسرائيل للمحاكمة أمام قضاة المحكمة الإنسانية بعد عدوانها على قطاع غزة!! أعتقد أنّي في هذه المحكمة، سأوجه لإسرائيل لائحة اتهام تحت أربعة عناوين أو أصناف: اتهام جنائيّ واتهام سياسيّ واتهام أخلاقيّ واتهام غيبيّ (وجودي). ولعل هذه الأصناف تتكرر في كل حدث بل في تاريخ إسرائيل منذ تأسيسها.. ولكنّها هنا على أرض غزة تجلت بكل قساوتها ووضوحها. ولعل الكثير لا يلتفت للحقيقة أنّ الحرب على غزة هي الأولى من نوعها بين إسرائيل وأهل الأرض (الفلسطينيون)..فقد استعملت فيها القوة العسكرية الكاملة (الجو والبحر والبر) من طرف إسرائيل وكأنها تواجه دولة وجيشاً. ولكن ما علاقة لائحة الاتهام بالاعتراف باسرائيل؟! هذا ما يتجلى نهاية المقال.
أتهم إسرائيل جنائياً: وهي تهمة فردية يحاسب عليها ويقاضى عليها الإنسان بما كسبت يداه. فهذا الجندي الطيّار الذي يلقي بالقنابل على القطاع يلاحق بشكل فردي ويقدم للعدالة.. ومن أعطاه الأمر لينفذه.. حتى تصل التهمة لأعلى شخص مشترك في اقتراح وتخطيط ومناقشة واقرار وتنفيذ المهمة أو الجريمة. بل لا تنتهي التهمة عند ذلك .. بل يلاحق قضائياً كل من سهل القيام بالمهمة. والادعاء أنّ مهاجمة قطاع غزة بسلاح الطيران والبحرية والبرية جاء كعملية انتقامية-ثأرية (תגמול) على صواريخ المقاومة لا يعطي للعدوان شرعية.. فإن الشر شرٌ ولو كان ردة فعل، لأن أصل الفعل شرٌ.. والأصل هنا الاحتلال والحصار وانتهاك كرامة الإنسان، وهي جريمة إضافية. والتهمة الجنائية لا تسقط بالتقادم مهما طال الزمن، ويوماً ما ستتهيأ الشروط والمعادلة الدولية التي تضع الموازين القسط للشعوب.
أتهم إسرائيل سياسياً: لا شك أنّ كل مواطن يتحمل بالمعنى السياسي المسؤولية على سلوك حكومته ودولته ومؤسساتها الرسمية. لذلك فهي تهمة لا تدع للأفراد فرصة التهرب منها، بعكس التهمة الجنائية التي تتعلق بمدى علاقة الشخص بالجريمة التي ارتكبتها الدولة ومؤسساتها ومواطنيها. وهي تهمة لا تقتصر على من انتخب الحزب الذي يقود الدولة.. بل على كل من انتخب ويشارك في العملية السياسية.. بل أيضاً من لا يشارك ويعتبر نفسه غير سياسي.. بغض النظر عن موقفه المؤيد أو المعارض لسياسات حكومته وسلوكياتها. إنّ كل يهودي في إسرائيل يحمل على كاهله التهمة السياسية لإنه شارك أو أيد أو سهل أو حتى وقف جانباً ولم يمنع العدوان والجريمة على غزة. بل حتى من حاول أن يؤثر ويمنع العدوان على غزة لا يمكن له التهرب من التهمة السياسية. وبما أنّ التهمة سياسية (الجزاء من جنس العمل).. فالعقاب سياسياً على مستوى الدولة والأفراد على حد سواء. وبما أنّه لا توجد محكمة سياسية فالتهمة والجزاء عليها يتحدد وفق القرار السياسي للدول المعنية بانفاذ التهمة على إسرائيل. وداخلياً، التهمة ملاصقة للإسرائيلي إلا إذا نزع عن نفسه الجنسية الإسرائيلية وأعلن تنازله عنها قبل الجريمة وتقديم التهمة. لأن الجنسية تمنحه الفرصة للمشاركة السياسية في إسرائيل.
أتهم إسرائيل أخلاقياً: وهي تهمة مستمرة قائمة بعكس التهمة الجنائية أو السياسية. ولا يمكن للإسرائيلي أن يتبرأ منها.. حتى ولو اعترف بوجودها.. فاعترافه بها يقيم عليه الحجة ويحتم عليه تخليد التهمة في وعيه الفردي والجماعي. فإذا لم تسقط التهمة الجنائية بالتقادم فالحريّ أن تخلد أخلاقياً. هناك من لا يعترف بالتهمة الأخلاقية.. وهناك من اعترف بها من الإسرائيلين(وهم ثلة قليلة!!) .. فاستعمال القوة المفرطة ضد المدنيين العزل من جهة.. وتبرير الاعلام الإسرائيلي لهمجية العدوان رغم اعترافه بقساوة وضخم الخسائر البشرية ما هو إلا "ضمير مزيف" يحاول تشويه الوعي ومحو التهمة الأخلاقية عن كل إسرائيلي. وذلك عن طريق محو الحدود بين القاتل والضحية.. وهذا ما ظهر جليّاً في كلمة شمعون بيرس في قمة دافوس الإقتصادية.. مما أثار رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان فكان رده يحمل روح التهمة الأخلاقية. ومن المثير كيف استطاع أردوغان ملاحظة حالة الضمير المزيف عندما رد عليه بشكل فطري وبتحليل نفسية بيرس بسرعة بديهة رغم لحظة غضبه الظاهرة للمشاهد: "سيد بيرس أنت أكبر مني سناً.. وقد استخدمت لغة قوية.. أشعر بأنك ربما تشعر بالذنب قليلاً.. لذلك ربما كنت عنيفاً.." (http://www.youtube.com/watch?v=TCj7sY9Tn9A).
فربما شعور الإسرائيلي بالذنب يزيد من عنفه الموجه ضد الفلسطينين..! ولكن من المؤكد أنّ القيادة الإسرائيلية لا تشعر بالذنب.. لذلك فالتهمة الأخلاقية غير ذي جدوى بالنسبة لهم.. وفي هذه الحالة لا يدق الحديد إلا الحديد..!! والمحكمة الأخلاقية تحاسب من اعترف ضميرياً بالتهمة الأخلاقية.. لذلك انتقد أردوغان حالة التصفيق المخزية للجمهور بعد كلمة بيرس في دافوس.. مما دفعه باعتقادي للانسحاب من الجلسة والقمة نهائياً. والتهمة الأخلاقية تتعدى الجنسية الإسرائيلية وتتخطاها لضم كل يهودي في العالم يصفق لإسرائيل.. بل لكل يهودي مهما تباينت مواقفه من إسرائيل وسياساتها.
التهمة الغيبية-الوجودية: عندما نتحدث عن هوية جماعية تتفرع منها المسؤولية الجماعية لشعب أو أمّة من الأمم.. فإن الهوية الجماعية للفرد تحمّله مسؤولياته الفردية والجماعية التي اختارها بمجرد انتمائاته وقناعاته. وهذا الصنف من التهم تخترق الزمان والمكان والفرد والجماعة .. تمتزج بوجود الإسرائيلي أينما حلّ وحتى بعد وفاته لتنتقل لأبناءه وأحفاده.. بل تلازم اليهودي حتى يرث الله الأرض ومن عليها. فكيف تدعي أنّ الأرض المقدسة لا يمكن تقرير مصيرها لأنّ الأجيال القادمة تملك أيضاً حق القرار- ولا نحمِّل الأجيال القادمة نتائج القرارات والسياسات التي مارسها أبائهم وأجدادهم منذ تأسيس إسرائيل. فإذا كان اعتراف اليهودي بالتهمة الأخلاقية لا يلزمه التضحية بروحه من أجل الخير والعدل ومنع الظلم، ربما يكفي أن يعرضها للخطر، فإن التهمة الوجودية تحتم عليه أن يضحي بروحه ويزهقها في سبيل إحقاق الحق. فلا يمكن لليهودي الإسرائيلي أن يكون أقل إنسانية من فرانتز فانون الفرنسي الذي انخرط في صفوف المقاومة الجزائرية وهو الفرنسي ودفع حياته من أجل تصفية تهمه الذاتية والجماعية التي أنتجها الاستعمار(1).
ربما تفرض التهمة الوجودية على الفرد التصرف بغير منطق في سبيل تحقيق القيم التي تتجاوز المفهوم الفيزيائي للعالم، فهي تهمة تمثل غياب مطلق للإيمان بكرامة الإنسان وحقوقه ومبدأ التضامن معه إنسانياً. لذلك إذا شهد المرء جرائم قومه وبقي على قيد الحياة والآخر قُتِّل أمامه، فلا بد أن يعلو صوتٌ داخليّ يهتف باسمه: حقيقة أني ما زلت على قيد الحياة فهذا ذنبي!.
إنّ التمييز بين أصناف التهم لا يدعنا نقلل من خطورة إشكالية إسرائيل الوجودية. فمن الضروروي الربط بينها وادراك العلاقة التداخلية بين أصنافها الأربعة، واستحضار الوعي بالواقع السياسي والإنساني التي تنتجه علل وأسباب هذه التهم.. من بينها تكريس الاحتلال واستمرار المقاومة وتصفية احتمال الاعتراف(حتى بحدود 1967) باخراج فريق التسوية من طرفيّ الصراع. بعد أنّ أصبح هذا الطرف إسرائيلياً بثوبٍ فلسطينيٍّ.
إنّ إسرائيل تعيش حالة من الوهم، ينتجه ويغذيه كل من الإعلام وقادة الفكر والثقافة. وهذا وهمٌ كالقناع يخفي وراءه التهم بكل أصنافها ويحجبها عن وعي الإسرائيلي , وأعتقد أن الخطر الاستراتيجي على الوجود اليهودي هو احتمال تحرره من وهمه على أيدٍ خارجية غريبة نتيجة عدم تحمله مسؤولياته الجنائية والسياسية والأخلاقية والوجودية. وتحمل المسؤولية يحتاج لمراجعة عميقة للوجود اليهودي منذ تأسيس الحركة الصهيونية. حتى ذلك الموعد لا شرعية لطرح مسألة الاعتراف بإسرائيل على أجندة الضحية التحررية، التي لم تنتزع له الشرعية الدولية حقوقه القضائية والسياسية من جلادها.
أمام اليهودي طريقين لا ثالث لهما: إما الأخلاص المطلق للفكرة الصهيونية وتجلياتها الواقعية وإمّا الأخلاص المطلق لوجوده الإنساني. فمن البديهي أنّ الأخلاص "للوطن" أهم من الأخلاص لحركة عنصرية لم تنقذ الوجود اليهودي من إشكالياته وأزماته، بل زادتها عمقاً وعولمة وتقطيعاً بين أمم الأرض(2).
إنّ وجود قيادة إسرائيلية من هذا النوع توفرت يقيناً من خلال وعي هؤلاء بتوقعات الشعب منهم وما أراد سماعه منهم وما أراد منهم فعله إزاء الواقع الذي أنتجته سياساتهم والوهم الذي فتنهم. وهذه حقيقة نفسية-سياسية حجة على اليهودي الإسرائيلي تلصق به التهم كافة.. وهي إزدواجية غريبة من ناحية الانصياع للقيادة بدون شروط والآخرى جوهر وماهية القيادة التي انصاع إليها الجمهور.. إذاً هي تهمة جماعية تتجاوز الأفراد ولا تبرأهم منها.
ومن جهة أخرى تُبرأ الضحية من الاعتراف بوجود جلادها الشرعي.. إلا إذا تجرد الجلاد من ذنوبه وخطاياه الجنائية والسياسية والأخلاقية والوجودية.. وهذا مستحيلٌ منطقياً وسياسياً وتاريخياً.. فهذا التجرد ينفي وجوده.إذاً لا اعتراف!!!

(1) فرانتز فانون (1925-1961): فيلسوف وعالم نفس وثوري فرنسي.. بحث في التحرر الوطني وقضايا الاستعمار. انخرط في حركة التحرر الجزائرية ضد دولته فرنسا.. وقتل مناضلاً في صفوف الثورة الجزائرية.
(2) التعبير من الآية القرآنية :"وقطعناهم في الأرض أمما".
القدس 3\2\2009