الأحد، 4 أكتوبر 2009

خطاب القذافي: خذ الحكمة من أفواه المجانين
خطاب الأخوان المسلمون: الجنون وتسفيه العقول
خطاب الرسول الكريم: " إن يعلم الله فيكم خيراً يول عليكم خيركم"
كنت قد تحدثت في السابق عن جدلية الجنون والسخرية في سياق الصراع العربي-الصهيوني.. وقدر الله تعالى أن أنشر المقال قبل خطاب الرئيس الليبي معمر القذافي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. فكان لا بد للمقال أن يخوض في إشكالية القذافي لولا نشره مبكراً، خاصة بعد ما آثاره الخطاب "التاريخي" –كما أطلق عليه- من جدل على الساحة الإعلامية الشعبية في العالم العربي. وخلال نقاشٍ سياسيٍّ لي مع أحدهم، غالباً ما هيمنت صفة الجنون على شخصية القائد القذافي عند تحليلنا لخطابه. ولكن، لا بد من طرح التساؤلات حول إشكالية القذافي في سياقها السياسيّ والثقافيّ الملائم، ولو كان يثيرنا حقاً تشخيص شخصية القذافي وتشريحها تحت وطأة نظريات التحليل النفسي والطب النفسي -فالأرجح أن يتم حبسه في مركزٍ خاصٍ للأمراض النفسية والعصبية المستعصية.
ولكنّ التساؤلات الحقيقية لا بد أن تطرحَ نفسَها في مجال التشريح السياسي والثقافي لللإشكالية ذاتها: هل القذافي مجنون؟! أم هو ساخر؟! أم ظاهرة مسشرية، ما تعبر إلا عن أزمتنا السياسية والثقافية الإسلامية؟ وتعكس شح موارد الأمة في صنع القادة والعباقرة والمبدعين؟.
تعالوا معاً نحلل جوانب من خطاب القذافي بشكل موضوعي، حتى يَسهُل علينا تحديد إشكاليّته.
من المفضل بداية، تهميشُ الجانبَ الفنيّ والشكليّ من خطاب العقيد، أيّ ما يتضمنه من أسلوب الخطاب ولغته، ومهارات الإتصال، وفن محاكاة الجمهور. ولنعرض هنا، مضامينَ الخطاب ورؤية القذافي السياسية والثقافية في سياقها العربي والإسلامي:
- ديمقراطية الأمم المتحدة: في خطابه يدعو القذافي الأممَ إلى تحكيم ذاتها من خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وليس بناءً على ميزان القوى في مجلس الأمن الذي استأثر بالقرار السياسيّ الدوليّ من خلال حق النقض، الذي يمنح لقوى القطب الواحد، الهيمنة على الأمن الدوليّ، وتشكيل العالم على ضوء مصالحها السياسية والاقتصادية. ودعوة القذافي، تتلخص في دَمقرطة الجمعية العامة، وجعلها السلطة التشريعية للأمم البشرية، وإلغاء حق النقض الذي يناقض الديمقراطية ويجعل من هذه المؤسسة الدولية لعبة بين أصابع قوى القطب الأمريكي.
- تشكيل مجلس الأمن الدولي: يتكوّنُ هذا المجلس -من الآن وصاعداً- على مبدأ المساواة بين الأمم، ويتم سحب صلاحية التدخل العسكريّ، وإعادتها إلى الجمعية العامة. وما مجلس الأمن إلا مؤسسة تَتَبع الجمعية العامة وقراراتها التشريعية، وفي أقصى حد، ما هو إلا سلطة تنفيذية تتشكل من التكتلات الكبرى في العالم، مثل: منظمة المؤتمر الإسلاميّ، والإتحاد الأوروبيّ، والإتحاد الأفريقيّ، والولايات المتحدة الأمريكية، والتكتلات اللاتينية والأسيوية وغيرها.
- هيمنة الجمعية العامة على قرار الحرب والسلم العالمي: بعد أن فشلت الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدوليّ، على مدار ستين عاماً خلت، من منع نشوب عشرات الحروب الإبادية والعدائية، التي وجّهت في غالبيتها المطلقة ضد الأمم المستضعفة والفقيرة في العالم الثالث، يدعو القذافي الجمعية العامة للتحقيق في الحروب التي أُعلنت من قبل القوى العظمى، وخاصة الولايات المتحدة وحروبها في العراق وأفغانستان. ودعى القذافي إلى فتح ملفات جرائم الإبادة والتعذيب والإغتيالات السياسيّة خلال العقود الماضية.
يمكن الحسم مطلقاً أنّ هذه المبادئ، تلخص خطاب القذافي "التاريخي" على منبر الجمعية العامة، والذي امتد لأكثر من مئة وثلاثين دقيقة. وكل ما ورد على لسان قائد الثورة، لا يتجاوز هذه المبادئ الثلاث. وأعتقد أنّ كل من يحمل مزاجاً فكرياً معتدلاً، لا يمكنه نقض هذه المبادئ، والطعن في امكانية تحقيقها للعدالة السياسية في العلاقات الدولية، بين الأمم المشاركة في الأمم المتحدة، وذلك دون خوض في فلسفة هذه المبادئ، وتمترسٍ وراء موقف أيديولوجيٍّ وعقائديٍّ أيّاً كان.
هذا من ناحية مضمون الخطاب. إذاً ما الغرابة في خطاب القذافي؟ ما دام يتلخص في هذه المبادئ العامة، التي يمكن لأي مواطن متوسط في الأمم المختلفة، من التعبير عنها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. ناهيك عن قادة دول عربية لهم القدرة الخطابية والشكلية الأفضل للتعبير عن هذه المبادئ وايصال رسالتها بشكل أقوى وأنجع؟!. ولكن بعيداً عن تشخيص الجنون عضوياً ونفسياً، لا بد من تثبيت الجنون ثقافياً في إشكالية القذافي، التي يمكن تحديدها في هذه المعادلة المنطقية: إذا وصف القذافي بالجنون عُرفاً فلا مفر من احتمالين- فإمّا أن يكون حقاً مجنوناً فتكون الأمة حكيمة، وإمّا أن يكون حكيماً فتكون الأمة حقاً مجنونة. وفي الاحتمال الأول، لا تخرج الأمة عن كونها غثاءً، فقد شخصت الحالة ومع ذلك ارتضتها لذاتها. وفي الاحتمال الثاني لا بد من شهادة حق بحق القذافي. كيف؟!
على ما وصلتنا من أخبار متواترة، لم يحكم حكيمٌ أمةً مجنونة! فعقائدياً لا يمكن لحديث الرسول الكريم:" إن يعلم الله فيكم خيراً يول عليكم خيركم" أن يُكذّبه تاريخ الفكر السياسي!. وإن حللنا المسألة وضعياً، لا بد لتركيبة المجتمع الاجتصادية، أن تمنع الحكيم من إدارة الصراعات والنزاعات وتفعيل آلية فاعلة في صناعة القرار السياسي في دولته، فَتَحُول هذه التركيبة بينه وبين السيادة والرياسة. ففي هذا المجتمع تسود الفوضى ثقافياً وسياسياً بحيث تحكمه معايير الغلبة والبطش والغدر، بعكس المجتمع السياسيّ الذي يسعى لضبط العنف والغلبة وفق أسلوب التفاوض وحل النزاعات بارجاعها لمرجعية عليا غيبية أو وضعية.[1] إذاً في حالة اثبات حكمة القذافي مقابل جنون الجماهير العربية لا بد من شهادة حق بحقه كونه غلب سنن الكون والحياة. وطبعاً هذا مُحال!.
ولكن الأحداث والمعطيات الموضوعية تُثبت صفة الجنون لطرفي المعادلة: القائد والجمهور.
القيادة والإبداع والعبقرية
- خطاب القذافي لا يحمل في طيّاته أي مؤشر كونه مبدعاً من الناحية الفنية والموضوعية. فالرسائل التي أراد أيصالها تم تلخيصها في ثلاث نقاط أساسية، لا يعجز أي مواطن عربي متوسط عن إلقاءها أمام الجمعية العامة وبشكل أفضل.
- خطاب القذافي لا يحمل في طيّاته أي مؤشر كونه قائداً سياسياً له القدرة على توجيه الجمهور نحو أهدافه المنشودة من خلال مكوناته وصفاته القيادية.
- خطاب القذافي لا يحمل في طيّاته أي مؤشر كونه عبقرياً في صناعة الحدث والسياق السياسي، رغم توفر الفرصة لذلك من خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة وقد جلس للاصغاء إليه قادة عشرات الأمم وملايين البشر.
هذا الخليط المركب من مقومات القيادة والإبداع والعبقرية لا تتوفر في القادة العرب عموماً، وهذا لأسباب موضوعية وثقافية تسود في الواقع العربي والإسلامي:
- تبدأ مؤشرات الإبداع والعبقرية تتشكل في السنوات الآولى من حياة الإنسان، وهي تعبر عن تميزه عن أبناء جيله. وصفة القيادة تتمظهر بشكلها الواضح الجليّ حتى جيل الأربعين. لهذا يتحدث الباحثون عن احتمال استئصال هذه الصفات في حال حرمان الأمة والمجتمع الفرد -في هذه المرحلة من حياته- من التعبير عن هذه الصفات وتنميتها، إمّا من خلال القمع والاضطهاد والظلم وإمّا في حالة نشأته في زمن حرب تبدد موارد الأمة في اتجاه المجهود الحربي العسكري.
- في واقعنا العربي والإسلامي قد تجاوزت غالبية القيادة العربية جيل الأربعين، بل تربعت على عروشها لأكثر من أربعين عاماً. والقذافي نموذج ساطع، فكيف يرجى منه تحقيق الابداع في فن القيادة، في أبسط صورها: مخاطبة الجمهور ومحاكاته، ولغة الاتصال ومهاراته، وليس في فن التهريج الذي يُضيّع المضمون والغايات.
- ومن المثير أنّ أمّة ما لا تفقد جيلاً كاملاً من العباقرة إلا إذا طالت الحرب طولاً يكفي لإخماد الذروة الإبداعية برمتها، لكن مثل هذه الحرب نادرة جداً في تاريخ الشعوب لحسن حظ الإنسانية. فممكن للحرب أن تنشب في أخصب فتراته الإنتاجية للمبدع ممّا تُفقده فرصاً لا يمكن استعادتها للإنجاز الفني أو الفكري والسياسي.
- إنّ مجرد تقدم القذافي في التصدي لهذه القضايا التي لا يختلف عليها حكيمان، تعكس شُح صفات القيادة لدى زعماء وملوك العرب. ولا شك أن ترهل القادة العرب على عروشهم قتل الابداع في حياتهم السياسية، مما أفقدهم مقومات القيادة إن وجدت أصلاً.
- الملاحظ في السير الذاتية للمبدعين أن الرسم البياني لانتاجهم الفكري أو الفني يتقدم ويتراجع ويصعد ويهبط وفق متغيرات متعددة ومتشابكة: على الصعيد الشخصي، نفسية وذهنية وجيلية وعائلية، وعلى الصعيد العام سياسية وثقافية واقتصادية. وهكذا فإن المبدع والقائد في المجتمع السياسي تتراجع شعبيته ومكانته ودوره في الأمّة وفق الرسم البياني لإنتاجه الفكري والإجتماعي وغيره. ولكنّ القادة العرب لا يتراجع تربعه على عرشه إلا بحبل من الله (وفاة) وحبل من الناس (اغتيال، انقلاب، احتلال)، رغم أنّه ابداعاً وعبقريةً لم يعد يفيد الدولة والأمة، بل يقف عائقاً أمام تقدم العباقرة والقادة والمبدعين.
- رغم أنّ نسبة ذوي العقول العبقرية نسبة ضئيلة فإن عددهم الكلي عدد كبير.. فإنّه في شعب يبلغ أكثر من 200 مليون من البشر كأمّة العرب، لا بد أن تكون هناك مجموعة كبيرة تكفي لأن تشكل مدينة صغيرة مثل مدينة القدس، تعج بعقول لها قوة عقل الغزالي وصلاح الدين والمتنبي وابن خلدون والخوارزمي. ومع ذلك فإن معظم هذه العقول لا تحقق الشهرة المرجوة وخاصة إذا تصدت العقول الخاوية والقيادة المجنونة للرياسة والسيادة السياسية والاقتصادية، التي تمنع من هيمنة الابداع والعبقرية على أطر المجتمع وحياة الأمة الثقافية والعلمية والسياسية.
الحركة الإسلامية: جنون السطحية

الحقيقة أنّ قادة الأحزاب والجماعات السياسية في العالم العربي لا يبتعدون كثيراً في التعبير عن إشكالية القذافي بكل تفصيلاتها وعمومياتها. وليس عبثاً أنّ قادة المعارضة لا يحملون مشروعاً سياسياً متكاملاً كبديل للواقع السياسي والثقافي السائد، ولا يطرحون حلاً للإشكالية ذاتها، وخاصة الحركات الإسلامية. لنأخذ نموذجاً حركة الأخوان المسلمين في مصر، والتي من المفترض أنّها تجاوزت كثيراً من إشكاليات الواقع العربي وتعقيدات الحركات الإسلامية السياسية والفكرية المتخلفة. فقد بلغت هذه الحركة من العمر عتياً، ومرّت بتجارب فكرية وسياسية منذ ثلاثينات القرن العشرين عند تأسيسها. فرغم التباين النوعي في شخصية المرشد العام للأخوان المسلمين - محمد مهدي عاكف- إلا أنّه لا يختلف كثيراً عن خطاب القذافي فنياُ وموضوعياً.
هكذا فإنّ حالة الجنون السياسي والثقافي تنطبق على الحركات الإسلامية إلا قليلاً منها. والخطاب الإسلاميّ التي تمثله حركة الأخوان المسلمين يسوده السطحية في معالجة الإشكالية ومشكلات الواقع العربي والإسلامي. ورغبة في عدم الاستطراد والإطالة أحيل القراء للقاء نموذجي للمرشد العام في برنامج تلفزيوني مصري، يذكرنا في إطالة القذافي خطابه وعدم نجاعته في ايصال الرسائل النوعية والأفكار القيّمة. وفقط للمقارنة المبدئية بين هاذين النموذجين وبين خطاب الأمين العام لحزب الله وكيف أنّه يعبر عن أسلوب مختلف في الخطاب شكلاً ومضموناً، ولكنّه مجال يطول فيه الحديث والتحليل.
الحقيقة أنّ الدور الكوني المتوقع من الحركة الإسلامية وخاصة حركة الأخوان المسلمين، لا يتماشى مع واقعها السياسي والفكري ومستوى قياداتها وعمق خطابها. مع أنّ متوسط جيل القادة في صفوف الحركات الإسلامية أصغر بكثير وبشكل واضح للعيان مقارنة بالحركات والتيارت الفكرية والسياسية في العالم العربي والإسلامي. فيكفي النظر في الصف الأول من قادة حركة حماس وحزب الله والجهاد الإسلامي والحركات الإسلامية في المغرب العربي مقارنة بحركة فتح وتيار المستقبل والأحزاب الوطنية والقومية في العالم العربي، والحال أكثر وضوحاً مقارنة بالزعماء والملوك العرب من الشرق إلى الغرب. ولعل هذا الفرق من بركات الإسلام الذي في طبيعته العقائدية والحضارية يحمله الشباب ("إنهم فتية أمنوا بربهم فزدناهم هدى" .."نصرت بالشباب").
ولكن، هل اكتفى الرسول الكريم بهذا المعتقد الأصيل في الإسلام كي يبني الأمة والدولة؟! فيكفي استحظار جوانب من سيرته العطرة في الإدارة والسياسة وخطاب الجماهير، حتى تتجلى عبقريته وابداعه ومقومات قيادته المميزة. ولكنّ الحركة الإسلامية تفتقد القراءة العميقة لسيرته عليه الصلاة والسلام، وتكتفي باقتباسات مجزئة لسيرته، عاجزة عن تشكيل آلية منهحية لفهم هذه السيرة وترجمتها لواقعها السياسي والإداري والثقافي المعاصر. بالإضافة لغيابها عن العصر وعدم قدرتها لفهم واقعها السياسي والثقافي المعاصر والمتغير باستمرار.

فكيف ترضى حركة الأخوان بسطحية هذا الخطاب وتسفيهه لعقول جماهيريها الممتدة، وتكريس هذا الجنون الثقافي والسياسي. رغم الخير الممتد بين صفوف كوادرها الشابة، والعقول الكبيرة والمبدعة التي تُميز الحركات الإسلامية.

"إن يعلم الله فيكم خيراً يول عليكم خيركم"
كتب مقترحة:

عباس محمود العقاد: عبقرية محمد

مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي
يتبع لاحقاً مقال بعنوان: الحركة الإسلامية: كلمة إقرأ العلمانية
أسامة عباس
بيت المقدس 4 \ 10 \ 2009

[1] قال تعالى: "يا أيّها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم. فإن تنازعتم في شيء فردوّه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر. ذلك خير وأحسن تأويلا" (النساء 59)..." وقوله تعالى: " إنما المؤمنون إخوة..." (الحجرات 9-10) .. في هذا السياق نعود لاحقاً لإشكالية الحركات الإسلامية، وكيف تتصرف بعكس شعاراتها ومنهجها فتكرس العلمانية والوضعية في حل صراعاتها الداخلية والخارجية.. وسنأخذ كتلة إقرأ نموذجاً (وللقارئ في العالم العربي والإسلامي نعرفه لاحقاً بها)، وعالمنا العربي والإسلامي مليء بالنماذج .

هناك تعليق واحد:

هنادي يقول...

وهذه آخر التجليات


http://www.aljazeera.net/NR/exeres/4D53825C-67F0-486B-ACE3-73CDC9823E27.htm