الاثنين، 27 يوليو 2009

الإسلام وابداع لغة العصر

بقلم:- أسامة عباس
أعتقد أنّ الغرب بعد تطوره الجذري منذ عصور التنوير- مروراً بالرومانسية والعقلانية والحداثة وما بعد الحداثة- لم يعد قادراً على إبداع لغة عصرية، يتخاطب بها غالبية الشعوب والأمم الإنسانية. فلا شك أنّ الغرب مرّ انقلابات مثيرة للاهتمام، من حيث تطور قدراته الأدبية والمادية، وأعطى لحضارته كنوزاً مثيرة للتأمل ومدعاة للتأثير. ولكنّه من ناحية آخرى، أغلق على نفسه باب الإبداع الكوني، المتمثل بخلق لغة تستوعب الثقافات والمجتمعات الإنسانية بكل تنوعها. وليس المقصود هنا اللغة المنطوقة، بل لغة المفاهيم والقيم، تلك اللغة التي ترتب وتنسق المفاهيم الإنسانية، وتعمل على مقاربة فكرية وأدبية بين شعوب الأرض، باختلاف نظمهم وثقافاتهم.

أبدع الغرب في قدراته لتسويق لغته المنطوقة، اللغة الانجليزية واللغة الفرنسية ولغات غيرها، وهذا بحد ذاته، حقيقة لا يمكن إنكار عبقريّتها وتقدمها على ثقافات آخرى. وهذه الهيمنة على اللغة العالمية، كثيراً ما فرضتها قوة الغرب المادية، وسيطرته عسكرياً على الشعوب المستعمَرة.. وقليلاً ما كانت قوة الغرب المعنوية والثقافية وجاذبيّته السحريّة. ولكنّ الثانية، حُدِّدت وحُصِرت، في نخب ثقافية وسياسية وعسكرية، ارتأت أنْ تفرض رؤيتها الفكرية، على مجتمعاتها العربية والمسلمة، فنجحت أحياناً، ولكن بشكل محدود ومؤقت وسطحيٍّ.. وفشلت غالباً فشلاً ذريعاً محرجاً.

إذا أردتُ تلخيصَ الإبداع الغربي في القرون الأخيرة، فلا أراه سوى، تخفيف العنف الداخلي في المجتمعات الغربية.. وتحويل الطاقة العنّفيّة لطاقات من القدرة على الاتصال السليم، وحل الصراعات الداخلية، واستيعاب المختلف والآخر الغربي، في منظومة ثقافية وسياسية ليبرالية. وخاصة العنف الداخلي السياسي والعسكري وحتى الثقافي، بالذات بعد الحرب العالمية الثانية بين السنوات 1939-1945 من القرن العشرين.

هكذا انحصرت منفعة الغرب واستغلاله لثرواته المادية والمعنوية -بل ثروات الكون كله- في ذاته دون غيره، وما تلقفت منه شعوب الأرض، إلا قشورها وبقايا ما أنتجه الغرب. وهذا حقيقةً، نتيجة فقر الغرب لرسالة إنسانيّة أصيلة –ليس رسالةٍ حضاريّةٍ، تُخفي في باطنها رؤى استعمارية منفعية مُستعلية. إنّما رسالةٌ تتجاوز مصالح الدول والتكتلات السياسيّة بعد تحقيقها لها، لتتفاعل أخلاقياً وإنسانياً مع مصالح الشعوب كافة وتتكامل معها. في هذا المستوى، عجز الغرب لأسباب عميقة في هويته وتاريخه العقائدي والثقافي، من أن يبدع لغةً معاصِرةً، تجمع الأمم والشعوب حول مفاهيم إنسانية عالمية، في الإقتصاد والثقافة والسياسة، يُجمِع عليها الجميعُ على أنّها المشترك الإنساني، وليس آلية استغلال وسيطرة على مقدرات الكون.

فرغم قرنين أو أكثر من هيمنة الغرب على مقدرات الكون المادية، فما زال العالم بغالبيته تعاني الفقر والجوع والبطالة والتخلف التكنولوجي. وحين أرادوا أن يظهروا وجه الغرب الإنساني، كان المراد منه غالباً تنصير أفريقيا ومناطق آسيا الفقيرة من قبل قوى الغرب المدنية والأهلية، بمساعدة المال وابتزاز الإنسان وقيمه، وحاجته لاطعام نفسه وذويه. وحين أرادت الدول مساندة هذه المناطق المنكوية، كانت غايتها تحقيق مصالح أعمق، تستأثر بثروات هذه المناطق من النفط أو الغاز أو الذهب أو غيرها.

يقول قائل: ما بالك في مفاهيم، لا ينكر أحد، بأنها من انتاج الغرب، كالديمقراطية والحرية واقتصاد السوق الليبرالي والعولمة و .. إلخ. أقول نعم - إنّها مفاهيمٌ، أنتجها الغرب بعبقرية وابداع. ولكنّها مفاهيمٌ انتفع بها الغرب بذاته.. بل غالباً ما وقف سداً منيعاً، أمام انتفاع آخرين بها. وفي فلسفاتها وتطبيقاتها أعتبرها مفاهيماً، لم تتجاوز السياق الثقافي والسياسيّ الغربيّ، وغالباً ما أُسقِطت على أمم ودول آخرى، دون مراعاة لواقع هذه الأمم من النواحي العقائدية والثقافية والسياسية. أيّ أنّ الغرب، لم يجعل من هذه المفاهيم وتطبيقاتها، مفاهيماً إنسانية عالمية، بل أرادها –في أحسن الأحوال- أن تُختزل في سياقها الغربيّ، ليفرضها على الآخر كما هي بكل حيّثيّاتها. هكذا عجز الغرب في انتاجه لغة عصرٍ، تستوعب التجارب الإنسانية بتنوعاتها وتحتويها، رغم وجود المسوغات، وامتلاكه لمقومات وأسباب النجاح، والقدرة على التحقيق الفعلي.

الإسلام ولغة الكون
لقد صُدم الإسلام في القرنين الماضيين بتقدم الغرب، وتفوقه ثقافياً وعلمياً وسياسياً. ونتيجة لهذه الصدمة تزعزعت ثقة المسلمين بأنفسهم وبمنظومتهم العقائدية والثقافية.. فوّلوا وجهتهم –إلا من رحم ربي- قِبَل الغرب، ظناً منهم بتحضرهم وتقدمهم إذا ما قلّدوا الغرب بكل تفاصيله. في هذه اللحظة التاريخية، بدأت صيرورةُ استلابِ المسلمين وتفكك هويتهم، فغدى المسلمون مجتمعات ملحقة بحضارة الغرب، ولغته الثقافية المنطوقة منها والاصطلاحية. فمن الطبيعي، أنّ مثل هذه المجتمعات لا تنتج جديداً للإنسانية، وتعتاش على مائدة الآخرين وتستهلك ابداعاتهم المتنوعة.

ولكنّ المجتمعات التاريخية، لا بد للصدمة من إحيائها، أو على الأقل تجديد إرادتها في النهوض والانطلاق في دورة ثقافية متجددة. ولكن الصدمة عادة ما تكون قاسية، بالتالي فردة الفعل، بهدف الحفاظ على الهوية الأصيلة لهذه المجتمعات، تكون معقدة وقاسية وخطيرة.

قلت في مقالٍ سابقٍ، أنّ الإسلام تجاوز مرحلة الخطر في الحفاظ على هويته الأصيلة، وكرّس رؤيته العقائدية والثقافية نحو الإنسان والحياة والكون. وهذا ما أطلقت عليه بتحدي الهوية، وبيّنت دور الحركات الإسلاميّة الأساسي، في الاستجابة لهذا التحدي وتجاوزه.

ولكنّ الواجب الخطير والجوهري على هذه الحركات السياسية والثقافية والاقتصادية، أنّ تسعى جاهدة فرادى وجماعات في استيعاب الثقافات الآخرى، متجاوزة أيديولوجيتها القطرية وهمومها المحليّة، لتلبي حاجيات الإنسانية جمعاء، والتلاقي مع القوى الحيّة في العالم لمجابهة التحديات الخطيرة كالفقر والجوع، والاستغلال الاقتصادي لثروات الدول الفقيرة والنامية، والبطالة، والحفاظ على البيئة، وتحقيق الحرياّت وحقوق الإنسان، وإصلاح النظام الدولي والمؤسسات الدولية وجعلها أكثر إنسانيّة وعدالة، وتطوير النظام الاقتصادي الاسلامي، وإنشاء مؤسسات مالية عالمية، كبديل لنظام السوق الرأسمالي، أو على الأقل مدافعته ومنافسته في مجالات التنمية والتطوير والاستثمار في كافة المناطق وخاصة الفقيرة منها.

ولا يمكن لهذه الحركات الاستجابة لهذه التحديات، إلا إذا تجاوزت أزماتها الذاتية والداخلية. من خلال تطوير آليات شورية ومؤسساتية ونقدية، وتأصيل مفاهيم الإدارة والتخطيط والديمقراطية، لتقويم مشاريعها وطروحاتها الفكرية والثقافية والسياسية. فتنجح في التحدي الداخلي والقطري، لتتفرغ لهموم ومصير الإنسانية والعالم. حينئذ يمكنها التطلع لملئ دورها الكوني في تنمية المجتمعات الإنسانية، ومناهضة الاستغلال والدكتاتوريات القطرية والعالمية... لتخلق بذلك لغة معاصرة من القيم والمفاهيم الإنسانية، المؤسسة على روح الإسلام وقيّمه ومقاصده السامقة.

المرجعية:
}ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ} { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَارِثِينَ } * { وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ}
أسامة عباس
القدس 5 شعبان 1430
27 \ 7 \ 2009

ليست هناك تعليقات: