السبت، 25 يوليو 2009

حوار مع الاحتلال

حِوَارٌ مع مُحْتَّلٍ حَسَنِ النِيَّةِ ! ! !
قال أحدهم، أنّ فرقاً بين اليمين واليسار، ليس فقط في أسلوب التفكير، بمعنى: كيف يفكر الفرد منهم ويستنتج؟. ولكن أيضاً - وبالأخص- في أسلوب الحياة وطرق الشعور فيما بينهم. فلنسلم مؤقتاً بهذه الفروق، ونُنزِلها على صورة وخارطة السياسة الإسرائيلية شعبياً وحزبياً!.. ولو أن البحث عن التشابه في الصور مفيد على ما أذكر، في تلك اللعبة المُمتِعة من أيام الطفولة. إذاً، في سياق المقولة هذه، نتحدث عن ثلاث مجالات: الفكر والحياة اليومية والعاطفة! ولعل المجالات تختلط غالباً، ولا يمكن تفكيكها فرادى - فهذا جزءٌ من تركيبة الإنسان وجِِبلته وتعقيدات المجتمعات الإنسانية.. والأمر يتجلى بصورة مثيرة في مجتمعات مُستعمِرة.

حين يأتيني يهودي إسرائيلي يستفتيني في بعض مقولات المستوطنين في الضفة الغربية - بعد مشاركته في فعالياتٍ تضامنية مع فلسطينيين، يعانون ويقاسون نتيجة مضايقاتِ وممارساتِ المستوطنات، والمؤسسة الإسرائيلية العسكرية والقضائية والسياسية- يتطلب الأمر(مني على الأقل) وقفة جدية جريئة في فهم جدلية المُحتَل والمحتل (المُستعمِر-المُستعمَر)، وكشف إشكالية العلاقة بين المُحتَلين أنفسهم فرادى وجماعات!.
أثار أمامي هذا الشخص تساؤلات، استقاها من نقاشاته الأيديولوجية مع المستوطنين، وأراد مني إجابات شافية، حتى يعرف كيف يواجه ادعاءاتهم. فبداية تحرك عاطفياً، ليتضامن مع أولائك الفلسطينين، ولعله شعر بمسؤولية الإحتلال (الذي ينتمي إليه) ودوره الأساسي بأوضاع الفلسطينين الاقتصادية والسياسية السيئة، فاندفع لتبديل معسكره. ولكنّ عاطفته وأسلوب حياته اليومية، من خلال مشاركاته بمساندة الفلسطينين في معاناتهم ونضالاتهم ضد جدار الفصل العنصري.. لم تخرجه من بوتقة فكر المُحتَل، وديمومة شك المحتل بمصيره، ولو أظهر حسن نية اتجاه المُستعمَرين ومآساتهم وأوضاعهم الذي أنتجها الإحتلال نفسه.
حين يسألني "يونَتَن" امكانية قبولي لفكرة عبوري لدولة فلسطينيّة مستقلة مستقبلاً، بديلاً عن إسرائيل، حيث أحقق هويتي وانتمائي في تلك الدولة! لا شك أنّه يعبر عن فكر يفرضه واقع الاحتلال (الإستعمار بالمعنى الأدق-وليس تمشياً مع منطق "شرعية" دولية متجردة من القيم والأخلاق)، بل يعكس حقيقة الاستعمار وجوهره فكرياً وسياسياً وثقافياً. فهو دائماً ما يُخيّرُ المُستعمَر بين خيارات عدمية مستحيلة، أنتجها هو نفسه دون غيره. حتى أنّ المُستعمَرين أنفسهم لم يساهموا في انتاج هذا الواقع والخيارات المطروحة أمامهم. ولكن، مطلوبٌ منهم بنفس الوقت، اتخاذ موقفٍ وخيارٍ لأجل إنهاء الصراع والمساهمة في تمكين السِلم. وكأنّهم هم من بادر للصراع وأنتج مبرراته وصيرواته.
فلو افترضنا حُسن نيّتهِ بسؤاله أيّايّ، وتجردَ قصدُه من سياسة الاحتلال ومخططاته- فهو لا زال يبني تطلعاته الأخلاقية والعاطفية في زوال الاحتلال، على خيارٍ لا بد لي من اتخاذه، ولكنّه خيارٌ هو جزءٌ منه، فرضه واقعٌ وسياسةٌ هو جزءٌ منهما كذلك. ولأنّه مستفيدٌ -شاء أم أبى- من واقع الاحتلال والاستعمار.. فلا زال رغم حُسن نيته من آلة ومؤسسة انتاج الخيارات المستحيلة بالنسبة للمستعمَر. وهذه حقيقة المحتل ذو النية الحسنة. فبربكم ! ما قول حالُ آخرين من قومه، استبطنوا واستظهروا سوء النية!!
ومعلومة مهمة تشير إلى مدى تخبط المُستعمَر نفسه في هذه العلاقة المركبة مع مُستعِمِره. وهي أنَّ هذا الشخص يجاهر بانتماءه الفكري والسياسي لحزبٍ "عربيٍّ " يساريِّ.. ما توقف على دفع ورفع مطلب المساواة.. وتعويله على ما يُسمى اليسار التقدمي الإسرائيلي. وهذه ظاهرة لا بد من التوقف عندها، وهي وجود حزب أساسه أبناءُ المُستعمَرين يتنكر لخلفيته القومية أو الوطنية أو العقائدية، أو يهمشها كهوية ثقافية وسياسية، ويجعل من نضاله السياسي المشترك مع المُحتل حَسنِ النّية.. غاية سياسية ووسيلة لانهاء الاحتلال وتحقيق المساواة اشتراكياً.
ولعله نسيَ أن نضاله تشترك وتنخرط فيه طبقة الكادحين العمّاليّة –على الأقل حسب منطلقاته العقائدية- ولكن من جهة الحقيقة، فإن الاحتلال حوّل كافة أبناء المُستعمَرين بالقوة لهذه الطبقة. عمالٌ في آلة الاقتصاد والصناعة والثقافة، لذات الدولة التي يتمتع بها زملائه المناضلين -ذووا النوايا الحسنة- من حقوق وامتيازات، تشكلت أصلاً ونتيجةً لحقيقة وجود الاحتلال على حساب كافة المُستعمَرين.
فكيف أنّ هناك من أبناء المُستعمَرين منتفعين من وجود الاحتلال.. فكذلك أيضاً هذا اليسار الإسرائيلي منتفعٌ.. ولكنّ الفرق، أنّ ذو النية الحسنة يتمتع بهذه المنفعة بالطبيعة، أيّ بالولادة من حيث هو مُحتلٌ ومُستعِمِرٌ، ولكنّه لشروط شخصية وثقافية وفكرية اختار الموقف في الصف الآخر، ولكنّه أيضاً لن يأتي يوم ليتنازل عن حقوقه وامتيازاته التي قُضيت له بالولادة سياسياً وثقافياً. فعندما يتجه للمطار مسافراً لخارج البلاد، لن يطلب من الموظف أو رجل الأمن هناك أن يفتشه كما يفتش عربيّا فلسطينياً.. رغبةً منه في التنازل عن حقٍ وامتيازٍ طبيعيّ. أو أن يطلب من مكان عمله مساواة أجره بأجرة موظف فلسطينيّ لو كان مكانه.. إلخ.
ملخص القول! أن حسن النية في حالة الاحتلال لا تتعدى الفكر والعاطفة في علاقة المُستعمِر بالمُستعمَر. وأن الحياة اليومية تفرض نفسها على الطرفين.. فالأول منخرط في حالة الاحتلال، والحقوق والامتيازات التي انتجها.. والثاني متخبط بين هويته وانتماءه وبين خيارات مفروضة أحلاها مُرٌّ.. وحقوق ممكنة أحلاها نفيُّ الهوية.

فلا هوية مع احتلال.. ولا حقوق بلا خيارات
إذا لا تنفع حُسنُ نيّة !! وإن تَخَطَى الجُدُر!
أسامة عباس
بيت المقدس 3 شعبان 1430
25 \ 7 \ 2009

ليست هناك تعليقات: