الخميس، 27 نوفمبر 2008

قول في الحرية والسعادة وما بينهما

بقلم: أسامة عباس
أو.. حتى يصير الجانب الروحاني واقعاً إجتماعياً !!

إنَّ أشد ما ابتليت به الإنسانية في العصر الحديث وبالأخص بعد هيمنة المادية الغربية على الحياة بكل تفصيلاتها وكلياتها.. هي القطيعة المعنوية والواقعية بين الروح والمادة.. بين المعاني الإنسانية لآدم وبين وظيفته كخليفة في الأرض...
فلم يلبث جون بول سارتر[1] أكثر من نصف قرن بعد اعلان الفيلسوف الألماني نيتشة عن "موت الآلهة".. إلا وقد نطقها- وكأن يد التاريخ الخفية تخط صيرورة هذا الإنسان- معلناً عن "موت الإنسان". هذه العلاقة الحتمية بين الألهة والإنسان في الخط الفلسفي أو في الحياة إطلاقاً.. يدفعنا بدون تردد لربط الحرية بالسعادة.. ولكن يمكن تعقل هذه العلاقة في سياقها الغربي الأوروبي!! ويمكن تفهم ما الذي أوصلها لهذه الصيغة الفلسفية والحياتية دون غيرها!! وبالمقابل ما السعادة وما الحرية وما بينهما في وجودنا وسياقنا الإسلامي؟!!

عندما صرخ نيتشة بموت الإله.. لم يصرخ من فراغ! بل جاءت صرخته بعد قرون من الصمت الغربي تحت هيمنة الكنيسة على الإنسان ومقوماته وكرامته الفطرية. فقد مثلت الكنيسة -كما آمن بذلك ءاباء الكنيسة أنفسهم- عبر العصور، سلطة الله على الأرض.. وكان البابا ظل الله على الأرض، فهو الحكم الفصل في تحديد إرادة الله في الاجتماع والسياسة والاقتصاد والحرب والسلم. فالحروب الصليبية -كما أطلق عليها قادة الكنيسة- هي إرادة الله في تحرير الأرض المقدسة وتطهير العالم من الكفار والمرتدين. ومن بعدها محاكم التفتيش عبرت عن تطهير الكنيسة والمسيحية وأوروبا الكنسية من المشعوذين والفسقة والكفار من يهود ومسلمين ومسيحين... فقد كانت الكنيسة رمزاً للإله الظالم والمستبد والمتخلف والظلامي والجاهل ... وأسماءه وصفاته السيئة.
وحين سنحت الفرصة للعقل والروح الغربية التحرر من هذا الإله.. لم يتردد في إعلان وفاته بل صلبه ثم قتله.. وحمله في جنازة مهيبة تابوتها عقلانية مُنتقِمة، انتظرت قروناً عديدة تكفين جسدٍ مريض حبسها في ظلمات من فوقها ظلمات. هكذا في سياق تاريخي وسناريو تراجيدي انطوت صفحة الروح والمعاني في حضارة الغرب ليحل مكانها العقل بتجلياته "العقلانية".. معبراً عن حضور المادية وهيمنتها على الفكر والعلم والمنطق. فلم تكن نتيجة هذه الهيمنة إلا موت الإنسان .. الإنسان المعنى والروح.
إنّ الإشكالية وقعت عندما استطاع إنسان اللامعنى أن يستحدث حضارة متقدمة علمياً وتقنياً، وقد ابتدع فنوناً جمالية ومعارف إنسانية في النفس والاجتماع والكون، اجتمعت جميعها لتشكل أسلوبَ حياةٍ بديلٍ للغرب المتخلف قروناً طويلة. في هذه اللحظة التاريخية، وقف المسلم حائراً ينظر لذاته المتخلفة تارةً .. ويتطلع للغربي المتقدم تارةً آخرى، يكبله ماضٍ ذهبي.. ويشده حاضرٌ تعيسٌ.. في ازدواجية نفسية وثقافية تسري به روح سماوية قروناً.. ومادة ترابية تأكل من جسده حالياً.
هذه الازدواجية بين حرية الروح وجبرية المادة والواقع، دفعت المسلم للتعلق بحضارة الغرب، والتسول على باب فلسفاتها.. فحين انكشف[2] على مفاهيم الغرب كالحرية والعقلانية والتقدم والحداثة وغيرها.. استحوذت عليه وسلبته من روحه الأصيلة مبررة ذلك بواقعه المستحيل إنسانياً. ولو أنه كان سعيداً بواقعه ما اصتدم مع ذاته وروحه.. وما اختار أن يشريها[3] ابتغاء سعادة وهمية.. وعد نفسه أو وعدوه بتحقيقها إذا تبنى حرية الغرب بكلياتها العقلانية والحداثية وما بعد حداثية.
السعادة بالنسبة لي هي انسجام بين الروح والمادة، بين الذات والواقع.. بين حقيقة الآخرة والحياة الدنيا.. ولا ريب أنها أسلوب حياة في التفكير والسلوك وما بينهما… ولكن الأمر ليس نظرياً في كتاب مبين.. فعليَّ كمسلم أنّ أبدل جانبي الروحاني لواقع اجتماعي.. كي يبرر هذا الواقع الحقيقة القرآنية وصلاحيّتها.. أمّا إذا تمسكت بها بوضعها في صندوق مجوهرات وأحكم اغلاقه.. فحتماً سأخلع عني روحي الأصيلة موليَّاً قبلتي نحو سرابٍ خادع وشطر غربٍ غارقٍ.. لا يزيدني إلا شقاءاً وخلوداً في جبرية واقعية.. لا تحقق لي معاني الخلافة الذاتية والجماعية.
معاني الخلافة هي معاني السعادة والحرية.. ولكن من يكتشف هذه المعاني!؟! .. ومن يستشعرها!؟!
[1] فيلسوف وروائي مسرحي فرنسي (1905-1980) .. برز كأحد أكبر القلاسفة الوجوديين المعاصرين (الفلسفة الوجودية).
[2] متى انكشف المسلم على حضارة الغرب؟ سؤال عميق وكبير.. ولكن على الأقل يبدأ بعض المؤرخين بالحملة الفرنسية على مصر.
[3] يبيعها حسب التعبير القرآني.

ليست هناك تعليقات: