الاثنين، 17 نوفمبر 2008

" إسرائيل" في النظام الكوني المحتمل (2)

بقلم: أسامة عباس
مدخل في منطق النظام:
مما لا شك فيه عندنا، أنّ ميلاد النظام وسياقاته يكونّ المعامل الأساس لمنطقه وأنّ سياقاته العقائدية والثقافية والاقتصادية تحدد صيرورته ووجهة تطوره التاريخي. فإذا اعتبرنا أنّ المحرك الرئيسي للتاريخ الإسلامي هم العرب، وذلك لحقيقة كون الرسالة المحمدية، حملها منذ بدايتها شخص عربي، وانتشرت في أرض عربية- فإنّ ممّا لا شك فيه، أنّهم هم العصب المركزي لهذا التاريخ، وهذا ليس لطبيعة قومية أو جينية وراثية لدى العرب، إنما لمتعلقات موضوعية لتطورهم التاريخي، وممّا يعبر عن هذه الحقيقة كون المسلمون من غير العرب وجدانياً وعملياً ينتظرون تحرك العرب في إقامة الاسلام وتمكينه مجدداً.
ونرى أنّ العرب حضارياً، كانوا قبل الإسلام يقبعون في هوامش الحضارات الإنسانية، بل يكاد لا يذكر لهم تاريخ ولا حضارة ولا انجاز على المستوى الإنساني. إلا ذلك الشعر العربي الذي حفظه لاحقاً الإسلام وعلومه الشرعية والأدبية، ليحرره بذلك من خصوصيته اللغوية القبلية الضيقة لينطلق بها من خلال رؤية قرآنية كونية، لتخترق حدود الشعر الجاهلي باتجاه مواضيع إنسانية في الفلسفة والسياسة والأخلاق والاجتماع والكون.
كذلك اللتقط الاسلام العربية من كونها لغة قبائل متفرقة، لتغدو لغة أمة حيّة، من علوم وثقافة وابداع وقيادة. فقد انتقلت لتصبح لغة لها مكانتها بين نظيراتها الحضارية كاللاتينية والفارسية وغيرها، بل قل أكثرها حضوراً وهيمنة. وكما أنّ هذه اللغة التي ارتبطت بالقرآن الكريم- كلام الله- دخلت في طور جديد، فإنّ مقومات ومكنونات العربي ارتقت نحو قمم سامقة. وهذا الطور الجديد، هو نظام كوني غيّر وضعية العرب النفسية والاجتماعية والثقافية والسياسية والحضارية. فميلاد العرب الحضاري هو ميلاد النظام الكوني الذي أنشأهم وصاغ واقعهم وتاريخهم.

ولا شك عندنا وعند كل مؤرخ موضوعي.. أنّ ميلاد هذا النظام بحيثياته الكلية والتفصيلية، كان نتيجة لرسالة عقائدية دينية حملها وبلّغها محمد بن عبد الله (صلوات ربي وسلامه عليه)، وقد أسس أركانها القرآن الكريم بكلام عربي مبين. فالمعادلة المنطقية في سياق التاريخ الاسلامي تتلخص بأنّ: العقيدة الدينية أنشأت نظاماً كونياً.. بعبارة آخرى: لم ينشأ لدى العرب نظاماً كونياً إلا بالفكرة الدينية، فبعد أنّ كانت العرب قبائل معدومة مقومات الأمة، جاءت الفكرة الدينية لتخرجها للحضارة والشهود الانساني، بل لتنشأ أمة جديدة ذات هوية وشخصية ومقومات.
وإذا تأملنا تجارب آخرى في التاريخ الانساني، نجد أن هذه الأمم لم تنشأ نتيجة بزوغ نظام كوني. بل كونها نتاج تطورات وصيرورات تاريخية خاصة. فالأغريق كانوا أمة عريقة تخوض الفلسفة والآداب والسياسة، من خلال المدن اليونانية كأثينا واسبارطة وغيرها، ولكنّهم اختزلوا علومهم في وجودهم العرقي وكياناتهم السياسية (polis[1]) . وفي مرحلة تاريخية بدأت فتوحات إكسندر المقدوني (توفي323 ق.م) لتمتد من وسط أوروبا حتى بلاد ما وراء النهر في الشرق. وهذه القوة الاستعمارية قامت بوظيفة نشر وتدويل علوم وثقافة وفلسفة الأغريق.
وإذا تأملنا التجربة البيزنطية والتي ورثت أمبراطوريتها من الامبراطورية الرومانية، نجدها قد أخذت الديانة المسيحية لتنشرها في الغرب والشرق وتكون الدين الرسمي (313 ميلاد). الفكرة الأغريقية أو الفكرة المسيحية لم تنشأ نظاماً كونياً.. بل إنّ الأنظمة السياسية والاستعمارية استغلتها لتكريس وجودها وسلطانها، فنجد أنّ المسيحية بخلفياتها الفلسفية الأغريقية واليونانية سيطرت على حضارة الغرب منذ قرون. بينما نجد أنّ الإسلام أنشأ أمة وصاغ نظاماً كونياً وفق عقائده ومقاصده وأفكاره.. فقد بدأ المسلمون الأوائل (منذ النبوة المحمدية) في بناء نظام كوني لم يكن موجدوداً، وهذا يشكل فارقاً جوهرياً بين التجارب الأممية، لا يمكن إلا أن تترك أثرها في منطق التجربة وسياقاتها السياسية والاقتصادية والثقافية.

بناء على هذا المنطق التاريخي، يكون خوضنا في نوعية النظام الكوني إنّما ربطٌ لسياقاته السياسية والثقافية المناسبة. ولا يمكننا إجراء اسقاطات تاريخية من تجربة أممية معينة على تجربة آخرى. فعند دراسة ظاهرة معينة في التجربة الإسلامية فعلينا تحليلها ودراستها ضمن سياقاتها الخاصة والمتعلقة، وهذه منهجية تعمق فهمنا وادراكنا لتاريخ وواقع الظاهرة بل التجربة بكلياتها الكونية.
من هذا المدخل... ندخل لتحليل وضعية إسرائيل وإشكاليتها الوجودية!!
يتبع .... (3)
ملاحظات: [1] "البوليس"- تجمع أو وحدة سياسية مستقلة انتشرت في اليونان القديمة، ويطلق عليها (مدينة-دولة) زودت سكانها بالحاجيات من الأمن والحماية والقضاء والثقافة والطقوس الدينية والتربية والرفاه. وقد كانت بمثابة مركزمدني للمناطق القروية.. وقد تميزت بالتقسيم الطبقي بين سكانها: المواطنون والغرباء والعبيد.

ليست هناك تعليقات: