الخميس، 20 نوفمبر 2008

إشكالية الفكر والسلوك في الحركة الإسلامية

خاطرة على أثر اجتماع لحركة طلابية إسلامية
كان فصل المقال ثقيلاً.. كما أنّ ناشئة الليل أشد وطئاً وأقوم قيلا.. تجلت حكمته سبحانه، وتقدس كلامه العلوي.. فوضعت جهازي على طاولة المصحف الخشبية.. وكأني أقرأ كتابه المسطور في آفاق خلقه المفطور.. فأسطر فيه كلماتي الثقيلة .. وأحفر في قلبي جروحاً عميقة.. وفي عقلي معانٍ أبدية.. وأمامي من على الشرفة ثلة من السكارى العرب في "قرية" الطلاب الغربية[1]… وفي خيالي أبناء حركتي الحيارى في "حارتنا" الإسلامية!! فوجدت نفسي أمام وجهتين كلتاهما هلاك للإنسانية.. هلاكٌ للخُلُقِ جنوبية وهلاك للفكر شمالية… فدعوت ربي هدايتي الربانية.. فهل من منقذ للبشرية.. في هذه الأزمة العقائدية حتى المالية!!
لقد بلغت تجربتي في ظل الحركة الإسلامية في البلاد لقناعة راسخة- وخاصة من خلال مسيرتي الحركية في العمل الإسلامي في الجامعة العبرية- خلاصتها أنّ الحركات الإسلامية تنقسم بمجملها إلى نوعين: الأولى تقود المسلمين وبالأخص أبنائها وتابعيها إلى حالة من التردي الأخلاقي، بعيداً عن مبادئها وقيمها التي أسست على ضوءها، وتسعى لتحقيقها في واقع المسلمين المعاصر. أمّا الآخرى ، فتقود المسلمين وبالأخص أبنائها وتابعيها لحالة من النكوص الفكري، بعد أن اكتسبت علة وجودها كي تُخرِج الواقع الإسلامي من شح الاجتهاد، والتخلف الفكري المستعصي منذ قرون. وهذه القناعة تكرست في تجربتي من خلال اطلاعي على الحركات والتيارات الإسلامية، على مستوى العالم العربي الإسلامي. فما الحالة الإسلامية في الجامعة العبرية إلا أنموذج مختزل لهذا الحال الممتد من طنجة إلى جاكرتا.. فإذا استحالت الخلافة في الجامعة .. استحالت بلا ريب حيث كان!!

ولكننا هنا لن نناقش الخلافة وإشكالياتها الحركية.. إنّما سنخص بالذكر نمطين الأول في التفكير وآخر في السلوك الحركي! لأنهما أساس الخلافة ومقدماتها! ولن تتحقق الخلافة واقعاً إلا إذا أسس لها فكرياً وسلوكياً. وسنبين الواجب الملقى على شباب هذه الأمة كي يتجاوزوا النمطين، علّنَا نخرج من مرحلة الترهل والإفلاس الحركي.

لقد ظهرت دعاوى الإصلاح الإسلامي والمتمثل في عدد من العلماء قبل سقوط الخلافة العثمانية في الربع الأول من القرن العشرين.. مما ينقض مقولة أنّ وجود الفساد –الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي- أو عدمه يتعلق بمجرد حضور الخلافة. ولكن مما لا شك فيه، أنّ اعلان نهاية الخلافة يشكل منعطفاً خطيراً في عقيدة وثقافة وشعور المسلمين وبالأخص القادة المؤسسين لفكرة الحركات الإسلامية. لذلك نجد أنّ أهداف وغايات الحركات الإسلامية تتمحور في أمرين فكرياً وسلوكياً: استرجاع وإحياء الفكر الإسلامي بين المسلمين، بعد قرون من الجمود والتخلف الفكري الاجتهادي. من ثم إحياء السلوك الأخلاقي والاجتماعي والسياسي المبني على الفكر الإسلامي. وهذا المزج بين الجانب الفكري والسلوكي ما يطبع هذا التيار الحركي بصفة الشمولية، فإذا اختل جانب من الجانبين فقدت الحركة مصداقيّتها وفشلت في تحقيق غاياتها وبرامجها.

بناءاً على هذا التناسق والانسجام بين الفكر والسلوك، فما من إشكالية أو أزمة تواجه الحركة إلا وارجعت لأحد طرفيّ المعادلة أو كلاهما. فإذا بحثنا في الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني منذ تأسيسها مروراً في فتنة الانشقاق ومتعلقاتها وحاضر الحركتين الإسلاميتين، لوجدنا أنّ المشكلة مشكلة حضارة كما وسمها مالك بن نبي رحمه الله: أفكار ميتة استباحت الفكر وأفكار مُميتة استباحت السلوك. ولن أعطي الأمثلة الكثيرة المنتشرة من النقب حتى الجليل ومن المثلث حتى الساحل.. ولكننا نشير لنماذج حتى لا نشخص الإشكالية فتضيع الفكرة والغاية تحت وطئة تقديس وعصمة الشيخ أو الحركة أو الصنم.
هلاك السلوك!!!
حين يبدأ الشيخ المؤسس العمل ضد مصالح حركته في بلد الشهداء كفر قاسم.. وحين ينغمس في العائلية التي حاربها أو أعلن محاربتها من صفوف الحركة الإسلامية، حتى دعاه الأمر كما علمت من مصادر حركية أنه غير اسم عائلته إلى"درويش" .. وقد علمنا أن الشيخ لا ينقصه عقلاً راجحاً ولا فكراً مستنيراً، إنّما يشهد له العدو والصديق والذين انشقوا عنه أنّه يحمل علماً غزيراً.. إذاً.. فما دهى الشيخ المؤسس؟!! وهذا نموذج يعكس السلوك الحركي الذي انطبعت به حركته المباركة.. حتى سمحت لنفسها أن تحتضن الشيخ سنوات طويلة رغم انحرفاته الحركية واستباحته للمنطق الحركي. وهذا سلوك غير أخلاقي يسمح للحركة أن تخرج إبناً لها بالأمس انتخبته لتمثيلها في الكنيست، واليوم تتبرأ منه .. فكم بالحريّ أن تطرد المؤسس الذي انغمس حتى أنفه بأخلاقيات المنفعة الشخصية والعائلية والسياسية. هذا التسيب الأخلاقي في منطق الحركة وسلوكها، ما أتاح لأبنائها المخلصين للتخلي عنها وتركها للذئاب لتنهش من أموالها ومقدراتها.. هكذا طبعت الحركة بسوء الخلق والسلوك.. وقد علمنا أن حسن الخلق والسلوك طرف من مقومات وجودها.
هلاك الفكر!!!
نعترف مسبقاً أن البحث في نمط التفكير يشكل تحدي من نوع آخر. فبعكس دراسة سلوك الحركة فإن التفكير الحركي يحتاج لسبر غور العقل الحركي ومتابعته في السر والعلن وفي الليل والنهار.. وهو يحتاج لاختراق كثافة الفعاليات والبرامج والمهرجانات وتسليط الضوء على نمط وأسلوب التفكير. وهذه الإشكالية إذا انطبعت بها الحركة كانت أخطر من الانحراف السلوكي. فالأخير ظاهر للعيان لا يحتاج لتبيان، ويلاحظه أي متابع لمسيرة الحركة الإسلامية.. وقد تتدارك الحركة امرها وتصلح ذاتها بذاتها أو يستبدلها ربها بقوم آخرين. أما الإشكالية الفكرية المتمثلة في شح التفكير المنطقي والبرهاني واستبداله بنمطق البيان الخطابي السطحي.. فهي إشكالية عميقة تُحفظ في دهاليز الحركة لا تخرج للنور ولا تتكشف للمسلمين إلا بعد فوات الآوان..

أمّا نوذجها الغير مشخص!!
في أحدى المحاضرات للشيخ أمام جموع طلاب الجامعات، تحدث عن صخرة تسقط من السماء على الولايات المتحدة لتغرقها في المحيط.. وقد مرت أعوام كثيرة ولم تصل هذه الصخرة إلى الأرض.. وأعترف حينها أني قلقت على أخ لنا سافر لدراسة الاقتصاد في نيويورك. ومؤخراً، إنّما غرقت الولايات المتحدة في أزمة مالية من داخلها بدون خرق للعادات وبدون معجزات..وكأن الله سبحانه وتعالى بحاجة لخرق سننه ونواميسه حتى يعاقب عباده الطاغين. وهذا التفكير الغير منطقي والمبني على خطابات بيانية أساسه شح الفكر.. يخترق صفوف الحركة وإن تعددت صوره وأشكاله ومواضيعه. ولأن الاعلام لا يترقب تصريحات الشيخ ولا يتناولها بالتحليل فإن نمط التفكير يكرس نفسه في عقول وأذهان أبناء الحركة دون رقيب أو حسيب.

إنّ هلاك الفكر في هذه الحركة يتمثل في عجزها عن إدارة الحوار مع الذات ومع الآخر.. وإدارة الحوار يعني هنا: آلية التفكير وبنية الفكر. والإشكالية ليست وجود آلية وبنية أو عدمه؟! فما من جماعة تنظيمية أو فكرية إلا بنت لنفسها أو تبنت شكل من أشكال الحوار !! إنّما.. أيّ نوع من آلية التفكير وبنية الفكر تنميها هذه الحركة؟! وهل تكرس اللامنطق واللامفكر فيه حركياً وفكرياً؟! وعندما تنحرف الحركة فكرياً .. نسمع من قادتها و"مفكريها" امكانية التحالف مع قوى علمانية بل عدوانية لذات الفكر والحركة.. بالأمس حاربتها وإلى اليوم تعاديها خطابياً.. ولكنهم يصَّرِحون في امكانية تقاطع المصالح في المدن والقرى العربية. ولكن من الجهة الآخرى، ترفض رفضاً قاطعا التحالف مع حركة إسلامية آخرى خرجت من مشكاة واحدة.. بل رفضت الحوار معها أعواماً كثيرة بعد الانشقاق. فأحلت الحوار وحرمته بناءاً على إشكالياتها الفكرية.
إنّ تفكيك السلوك الحركي يحتاج للاعلام أما تفكيك الفكر الحركي فيحتاج للحكمة (أنظر الفرق بين الفلسفة والحكمة)[2]، فإذا اجتمعت الحكمة بالاعلام لدى المسلمين عامة، واجتمع الوعي الإعلامي وحكمة الوعي لدى أبناء الحركة الإسلامية لتجاوزت الحركة إشكالياتها الفكرية والسلوكية.. وحققت إصلاحاتها الداخلية العميقة المطلوبة في هذه المرحلة من تاريخها الممتد، منذ انهيار الخلافة حتى انهيار تجاربها المختلفة في الجزائر والسودان وافغانستان والعراق وسوريا... وحتى أزماتها الداخلية في مصر وفلسطين والأردن وباكستان... وحتى تنوعاتها المتناقضة في إيران وتركيا ولبنان وماليزيا.
هذا التجاوز لن يقوم به مشايخ الطريقة القديمة وأتباعهم وورثتهم.. ولا منطق الفكر الميت ولا منطق السلوك المُميت... على شباب الحركة الواعي والمدرك لإشكالياتها الفكرية والسلوكية أن يجتمعوا معاً.. ولو تطلب الأمر تأسيس حركة ثالثة في الداخل الفلسطيني، تتجاوز سلبيات الحركة الأم.. فهذا أمر أقل خطورة من استمرارية الحركة وإشكالياتها . . .

[1] هي قرية الطلاب كما يطلق عليها في الجامعة العبرية في القدس... وهي قرية مصغرة للحياة البشرية في تعددها العقائدي والثقافي .. يطغى عليها بل تحكمها أساليب الحياة الغربية وما تشتمل عليه من استلاب حضاري للشباب المسلم والعربي.. إحدى تجليلته ثلاث شباب سكارى يصرخون ويلههم المرح.

[2] أما الفلسفة فهي منظومة التفكير التي تبيح للعقل البشري التخلص من محدوديته وتحرره من الغيبيات والمطلق العقائدي والأخلاقي. أما الحكمة فهي منظومة التفكير التي تبيح للعقل التفكير في محدوديته ونسبيته وادراكه لوجوب الغيب.
المغار
20\11\2009

هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

مشكور اسامة

ما رايك تنشر المقال في ...

انت اعرف لحالك وين اقصد

اول حرف ب
ا
ن
ي
ت

panet@panet.co.il

ارسل رقم هاتفك وصورتك , وموقعك في الرسالة

غير معرف يقول...

للأسف أخي أسامة
إنّ ما تقوله صحيح

حركتان، صارتا ثقيلتان
فمن يخفّف من حدّتهما واحتدادهما سواه جلّ وتسامى علاه

قد أعود لموضوعك هذا أو ألجّ من ثكناته إلى طرح ما هو أشدّ وطئا من اختلاف حركيّ هو أوّلا وأخيرا اختلاف سياسيّ محض نشأ على إثره اختلافات كثيرة منها ما ذكرت .. وما هو مؤسف أكثر أنّ كلّا من طرفيه يضحك على الآخر.

عسى الله أن يهدينا وإيّاكم أجمعين
السّلام عليكم
إسراء