الثلاثاء، 3 فبراير 2009

حركة حماس: "لن نعترف بإسرائيل!!!"
حركة التاريخ: إلا إذا اعترفت إسرائيل بلائحة الاتهام!!!
بقلم:- أسامة عباس
هي ظاهرة غريبة في نوعها منذ نشأت الإنسان السياسي وتأسيس الكيانات والدول السيادية من فجر العصور البشرية: أن تبحث دولة عن اعتراف سياسي بوجودها بل قل عن شرعية لوجودها!! فعلى ما اعتقد فإنّ نشأة الدول واكتسابها لشرعيتها تكون إمّا بالقوة أو بالطبيعة وإما معاً. بمعنى أنّ وجود الدولة السياسي يتحقق بفعل تحركٍ عسكريٍّ لجماعة بشرية، تفرض وجودها على بقعة جغرافية، أو من الحالة الطبيعة لوجود أهل هذه الدولة ومواطنيها في ذات البقعة.. واستمرار وجودهم الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. أمّا في الحالة الأولى فمن المنطق السياسي والتاريخي ندرك أنّ الوجود مؤقت.. ولا سيادة لدولة وشرعية إلا إذا توفر لديها الحالة الثانية. فالتجربة الألمانية على سبيل المثال تجمع بين الحالتين: الوجود الطبيعي للشعب (اللغة، الثقافة، الدين، الاجتماع…) الألماني في بقعة جغرافية محددة، ثمّ تحرك عسكري لتأسيس كيان سياسيّ (بقيادة بسمارك). وفي هذا المثال لا يحتاج الشعب الألماني اعتراف أحد من الشعوب أو الدول في وجوده السياسي والاجتماعي بل حتى العالمي.. بل يفرض وجوده بالطبيعة على الإنسانية. ولكن، متى تبحث الدولة عن حق الوجود وشرعيته!!
كي أخوض في هذا السؤال المعقد والمركب الذي يعبر عن إشكالية إسرائيل الوجودية، سأنطلق من العدوان الإسرائيلي الفاشل على قطاع غزة وعلاقة إسرائيل وإشكاليتها مع حركة حماس بالذات وثقافة المقاومة بشكل عام.
إذا تخيلنا عالماً تحكمه القيم، وتسيّره العدالة، وغايته الخير والحق والجمال. في هذا العالم، إقامة العدل مرهون بوجود القوة.. ولكنّ القوة ليست من تحدد جودته وطبيعته (كما الحال في الهيمنة الغربية الأمريكية).
في ظلال هذا العالم، وفي حالة تحرك الدول والمؤسسات لتقديم إسرائيل للمحاكمة أمام قضاة المحكمة الإنسانية بعد عدوانها على قطاع غزة!! أعتقد أنّي في هذه المحكمة، سأوجه لإسرائيل لائحة اتهام تحت أربعة عناوين أو أصناف: اتهام جنائيّ واتهام سياسيّ واتهام أخلاقيّ واتهام غيبيّ (وجودي). ولعل هذه الأصناف تتكرر في كل حدث بل في تاريخ إسرائيل منذ تأسيسها.. ولكنّها هنا على أرض غزة تجلت بكل قساوتها ووضوحها. ولعل الكثير لا يلتفت للحقيقة أنّ الحرب على غزة هي الأولى من نوعها بين إسرائيل وأهل الأرض (الفلسطينيون)..فقد استعملت فيها القوة العسكرية الكاملة (الجو والبحر والبر) من طرف إسرائيل وكأنها تواجه دولة وجيشاً. ولكن ما علاقة لائحة الاتهام بالاعتراف باسرائيل؟! هذا ما يتجلى نهاية المقال.
أتهم إسرائيل جنائياً: وهي تهمة فردية يحاسب عليها ويقاضى عليها الإنسان بما كسبت يداه. فهذا الجندي الطيّار الذي يلقي بالقنابل على القطاع يلاحق بشكل فردي ويقدم للعدالة.. ومن أعطاه الأمر لينفذه.. حتى تصل التهمة لأعلى شخص مشترك في اقتراح وتخطيط ومناقشة واقرار وتنفيذ المهمة أو الجريمة. بل لا تنتهي التهمة عند ذلك .. بل يلاحق قضائياً كل من سهل القيام بالمهمة. والادعاء أنّ مهاجمة قطاع غزة بسلاح الطيران والبحرية والبرية جاء كعملية انتقامية-ثأرية (תגמול) على صواريخ المقاومة لا يعطي للعدوان شرعية.. فإن الشر شرٌ ولو كان ردة فعل، لأن أصل الفعل شرٌ.. والأصل هنا الاحتلال والحصار وانتهاك كرامة الإنسان، وهي جريمة إضافية. والتهمة الجنائية لا تسقط بالتقادم مهما طال الزمن، ويوماً ما ستتهيأ الشروط والمعادلة الدولية التي تضع الموازين القسط للشعوب.
أتهم إسرائيل سياسياً: لا شك أنّ كل مواطن يتحمل بالمعنى السياسي المسؤولية على سلوك حكومته ودولته ومؤسساتها الرسمية. لذلك فهي تهمة لا تدع للأفراد فرصة التهرب منها، بعكس التهمة الجنائية التي تتعلق بمدى علاقة الشخص بالجريمة التي ارتكبتها الدولة ومؤسساتها ومواطنيها. وهي تهمة لا تقتصر على من انتخب الحزب الذي يقود الدولة.. بل على كل من انتخب ويشارك في العملية السياسية.. بل أيضاً من لا يشارك ويعتبر نفسه غير سياسي.. بغض النظر عن موقفه المؤيد أو المعارض لسياسات حكومته وسلوكياتها. إنّ كل يهودي في إسرائيل يحمل على كاهله التهمة السياسية لإنه شارك أو أيد أو سهل أو حتى وقف جانباً ولم يمنع العدوان والجريمة على غزة. بل حتى من حاول أن يؤثر ويمنع العدوان على غزة لا يمكن له التهرب من التهمة السياسية. وبما أنّ التهمة سياسية (الجزاء من جنس العمل).. فالعقاب سياسياً على مستوى الدولة والأفراد على حد سواء. وبما أنّه لا توجد محكمة سياسية فالتهمة والجزاء عليها يتحدد وفق القرار السياسي للدول المعنية بانفاذ التهمة على إسرائيل. وداخلياً، التهمة ملاصقة للإسرائيلي إلا إذا نزع عن نفسه الجنسية الإسرائيلية وأعلن تنازله عنها قبل الجريمة وتقديم التهمة. لأن الجنسية تمنحه الفرصة للمشاركة السياسية في إسرائيل.
أتهم إسرائيل أخلاقياً: وهي تهمة مستمرة قائمة بعكس التهمة الجنائية أو السياسية. ولا يمكن للإسرائيلي أن يتبرأ منها.. حتى ولو اعترف بوجودها.. فاعترافه بها يقيم عليه الحجة ويحتم عليه تخليد التهمة في وعيه الفردي والجماعي. فإذا لم تسقط التهمة الجنائية بالتقادم فالحريّ أن تخلد أخلاقياً. هناك من لا يعترف بالتهمة الأخلاقية.. وهناك من اعترف بها من الإسرائيلين(وهم ثلة قليلة!!) .. فاستعمال القوة المفرطة ضد المدنيين العزل من جهة.. وتبرير الاعلام الإسرائيلي لهمجية العدوان رغم اعترافه بقساوة وضخم الخسائر البشرية ما هو إلا "ضمير مزيف" يحاول تشويه الوعي ومحو التهمة الأخلاقية عن كل إسرائيلي. وذلك عن طريق محو الحدود بين القاتل والضحية.. وهذا ما ظهر جليّاً في كلمة شمعون بيرس في قمة دافوس الإقتصادية.. مما أثار رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان فكان رده يحمل روح التهمة الأخلاقية. ومن المثير كيف استطاع أردوغان ملاحظة حالة الضمير المزيف عندما رد عليه بشكل فطري وبتحليل نفسية بيرس بسرعة بديهة رغم لحظة غضبه الظاهرة للمشاهد: "سيد بيرس أنت أكبر مني سناً.. وقد استخدمت لغة قوية.. أشعر بأنك ربما تشعر بالذنب قليلاً.. لذلك ربما كنت عنيفاً.." (http://www.youtube.com/watch?v=TCj7sY9Tn9A).
فربما شعور الإسرائيلي بالذنب يزيد من عنفه الموجه ضد الفلسطينين..! ولكن من المؤكد أنّ القيادة الإسرائيلية لا تشعر بالذنب.. لذلك فالتهمة الأخلاقية غير ذي جدوى بالنسبة لهم.. وفي هذه الحالة لا يدق الحديد إلا الحديد..!! والمحكمة الأخلاقية تحاسب من اعترف ضميرياً بالتهمة الأخلاقية.. لذلك انتقد أردوغان حالة التصفيق المخزية للجمهور بعد كلمة بيرس في دافوس.. مما دفعه باعتقادي للانسحاب من الجلسة والقمة نهائياً. والتهمة الأخلاقية تتعدى الجنسية الإسرائيلية وتتخطاها لضم كل يهودي في العالم يصفق لإسرائيل.. بل لكل يهودي مهما تباينت مواقفه من إسرائيل وسياساتها.
التهمة الغيبية-الوجودية: عندما نتحدث عن هوية جماعية تتفرع منها المسؤولية الجماعية لشعب أو أمّة من الأمم.. فإن الهوية الجماعية للفرد تحمّله مسؤولياته الفردية والجماعية التي اختارها بمجرد انتمائاته وقناعاته. وهذا الصنف من التهم تخترق الزمان والمكان والفرد والجماعة .. تمتزج بوجود الإسرائيلي أينما حلّ وحتى بعد وفاته لتنتقل لأبناءه وأحفاده.. بل تلازم اليهودي حتى يرث الله الأرض ومن عليها. فكيف تدعي أنّ الأرض المقدسة لا يمكن تقرير مصيرها لأنّ الأجيال القادمة تملك أيضاً حق القرار- ولا نحمِّل الأجيال القادمة نتائج القرارات والسياسات التي مارسها أبائهم وأجدادهم منذ تأسيس إسرائيل. فإذا كان اعتراف اليهودي بالتهمة الأخلاقية لا يلزمه التضحية بروحه من أجل الخير والعدل ومنع الظلم، ربما يكفي أن يعرضها للخطر، فإن التهمة الوجودية تحتم عليه أن يضحي بروحه ويزهقها في سبيل إحقاق الحق. فلا يمكن لليهودي الإسرائيلي أن يكون أقل إنسانية من فرانتز فانون الفرنسي الذي انخرط في صفوف المقاومة الجزائرية وهو الفرنسي ودفع حياته من أجل تصفية تهمه الذاتية والجماعية التي أنتجها الاستعمار(1).
ربما تفرض التهمة الوجودية على الفرد التصرف بغير منطق في سبيل تحقيق القيم التي تتجاوز المفهوم الفيزيائي للعالم، فهي تهمة تمثل غياب مطلق للإيمان بكرامة الإنسان وحقوقه ومبدأ التضامن معه إنسانياً. لذلك إذا شهد المرء جرائم قومه وبقي على قيد الحياة والآخر قُتِّل أمامه، فلا بد أن يعلو صوتٌ داخليّ يهتف باسمه: حقيقة أني ما زلت على قيد الحياة فهذا ذنبي!.
إنّ التمييز بين أصناف التهم لا يدعنا نقلل من خطورة إشكالية إسرائيل الوجودية. فمن الضروروي الربط بينها وادراك العلاقة التداخلية بين أصنافها الأربعة، واستحضار الوعي بالواقع السياسي والإنساني التي تنتجه علل وأسباب هذه التهم.. من بينها تكريس الاحتلال واستمرار المقاومة وتصفية احتمال الاعتراف(حتى بحدود 1967) باخراج فريق التسوية من طرفيّ الصراع. بعد أنّ أصبح هذا الطرف إسرائيلياً بثوبٍ فلسطينيٍّ.
إنّ إسرائيل تعيش حالة من الوهم، ينتجه ويغذيه كل من الإعلام وقادة الفكر والثقافة. وهذا وهمٌ كالقناع يخفي وراءه التهم بكل أصنافها ويحجبها عن وعي الإسرائيلي , وأعتقد أن الخطر الاستراتيجي على الوجود اليهودي هو احتمال تحرره من وهمه على أيدٍ خارجية غريبة نتيجة عدم تحمله مسؤولياته الجنائية والسياسية والأخلاقية والوجودية. وتحمل المسؤولية يحتاج لمراجعة عميقة للوجود اليهودي منذ تأسيس الحركة الصهيونية. حتى ذلك الموعد لا شرعية لطرح مسألة الاعتراف بإسرائيل على أجندة الضحية التحررية، التي لم تنتزع له الشرعية الدولية حقوقه القضائية والسياسية من جلادها.
أمام اليهودي طريقين لا ثالث لهما: إما الأخلاص المطلق للفكرة الصهيونية وتجلياتها الواقعية وإمّا الأخلاص المطلق لوجوده الإنساني. فمن البديهي أنّ الأخلاص "للوطن" أهم من الأخلاص لحركة عنصرية لم تنقذ الوجود اليهودي من إشكالياته وأزماته، بل زادتها عمقاً وعولمة وتقطيعاً بين أمم الأرض(2).
إنّ وجود قيادة إسرائيلية من هذا النوع توفرت يقيناً من خلال وعي هؤلاء بتوقعات الشعب منهم وما أراد سماعه منهم وما أراد منهم فعله إزاء الواقع الذي أنتجته سياساتهم والوهم الذي فتنهم. وهذه حقيقة نفسية-سياسية حجة على اليهودي الإسرائيلي تلصق به التهم كافة.. وهي إزدواجية غريبة من ناحية الانصياع للقيادة بدون شروط والآخرى جوهر وماهية القيادة التي انصاع إليها الجمهور.. إذاً هي تهمة جماعية تتجاوز الأفراد ولا تبرأهم منها.
ومن جهة أخرى تُبرأ الضحية من الاعتراف بوجود جلادها الشرعي.. إلا إذا تجرد الجلاد من ذنوبه وخطاياه الجنائية والسياسية والأخلاقية والوجودية.. وهذا مستحيلٌ منطقياً وسياسياً وتاريخياً.. فهذا التجرد ينفي وجوده.إذاً لا اعتراف!!!

(1) فرانتز فانون (1925-1961): فيلسوف وعالم نفس وثوري فرنسي.. بحث في التحرر الوطني وقضايا الاستعمار. انخرط في حركة التحرر الجزائرية ضد دولته فرنسا.. وقتل مناضلاً في صفوف الثورة الجزائرية.
(2) التعبير من الآية القرآنية :"وقطعناهم في الأرض أمما".
القدس 3\2\2009

ليست هناك تعليقات: