الأربعاء، 24 مارس 2010

خواطر من قدس الصراع

الوجه الآخر
الاحتلال والدكتاتور والمقاوم

إن سر الإحتلال العميق في أنّه يحبس الذات عن تحقيق غايتها في الوجود، وبكلمات أقل تعقيداً: يمنع الإنسان من تحقيق أهدافه في ظل حياة طبيعية فطرية. والإنسان في فطرته كائن يسعى دائماً للحرية.. أو قل هو حرٌ في مكنوناته العميقة ، وإلا لما كُلِّفَ من خالقه تعالى بالعبادة والاستخلاف وعمران الأرض، ولمكث هناك في جنة الخلد، حيث عبودية مطلقة، لا تتطلب عملاً ولا جزاءاً. ولكنّ نفسه البشرية أبت حتى هذه الحياة، فكانت الحكمة البالغة أن يقترن الجزاء بالعمل.. والحرية بالإنسان.. فهبط الإنسان إلى الأرض ليحقق حريّته في حياته الدنيا.. ليحقق ذاته ويُجزى بأعماله إمّا السعادة وإمّا الشقاء. بل كان للإنسان حريّته في الكفر بخالقه ومخالفة شرعه.
في القدس خطيئة
وإن كنّا من أولائك الذين لا يجعلون من الاحتلال إبليساً تُلقى عليه جميع سيئاتنا. ولكن، مِمّا لا شك فيه، أنّه منعنا ومنع أهلنا في مدينة القدس، من تحقيق ذاتهم بترتيب عالمهم الثقافي والاقتصادي والسياسي كما يشاءون وبحريتهم . أفلا تكفيه هذه خطيئة، كي تلقيه في نار جهنم مخلداً ؟!... فهو الفساد المقرون بالقتل في ذات الأية المكتوبة في حقهم على اللوح منذ الأزل: ".. أنّه من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل الناس جميعاً. ومن أحياها ...".
حين تقف أمام طالبٍ مقدسيٍّ عاجزٌ عن التعبير عن نفسه، تظن للوهلة الأولى، أنّ المسألة تعود لذات الطالب ومجموعة صفاتٍ نفسيةٍ وثقافيةٍ وتربويةٍ، تحبسه عن تحقيق ذاته، في التعبير والسلوك والدراسة والنشاط والعطاء. ولكن حين تنقلب المسألة لحالة اجتماعيّة ولظاهرةٍ منتشرةٍ، فلا يمكن لعاقلٍ بصيرٍ من اختزال المسألة في ظواهر فردية. بل منطق التشخيص الاجتماعي، يحتِّم علينا ارجاع الظاهرة للنظام الاجتماعي-الثقافي القائم، وهذا النظام يتجاوز الأشخاص من حيث المسؤولية، ويلتصق بالقوة السياسية (بأشكالها المتنوعة) التي فرضته على الأفراد والمجتمعات. فلا يمكن لعاقل أن يدعي أنّ الفرنسيين جميعهم يدركون حقيقة - أو حتى سمعوا- مقولة فيلسوفهم رينيه ديكارت:" أنا أفكر إذاً أنا موجود".. ولكن حين تَحُول المقولة ظاهرةً ثقافيةً واجتماعيةً، ندرك أنّ وراءها قوة سياسيّة ومنظومة ثقافيّة، أرادت من المقولة أنْ تُهيمن على واقع المجتمع وهويّته. وكذلك عندما يتحول الفشل الاجتماعي والثقافي لظاهرة مستديمة! لا يمكن لعاقل تبرأة الاحتلال... وهذا سر الاحتلال في مصادرة النجاح وفرص تحقيق الذات, بل تكريس الجهل وتنظيمه عبر المؤسسات التعليمية والثقافية.
فارتباط الاحتلال جوهرياً بالفشل والجهل والفقر الثقافي، والنفسي، والتعليمي، والأخلاقي .. بديهةً، هي أمُّ البديهيات في لغة المناطقة. وهي بديهة، ولكنّها لا تقلل من مسؤولية الفرد والمجتمع في تغيير واقعه والتخلص من قابليته للاحتلال وظواهره.. فلا الأمُّ عاجزةٌ عن تنشئة تربوية سليمة لأطفالها، ولا الأب عاجزٌ عن رسم مستقبل أطفاله، ولا الأبن عاجزٌ عن بر والديه.. ولا الرجل عاجزٌ عن كف ظلمه للمرأة.. ولا المرأة عاجزةٌٌ عن تحقيق ذاتها.. ولا الطبيب عاجزٌ عن معالجة أمراض مجتمعه، ولا الحرفيّ عاجزٌ عن اتقان حرفته، ولا التاجر عاجزٌ عن الميزان بالقسط، ولا القاضي عاجزٌ عن إقامة العدل، ولا الحكيم عاجزٌ عن نشر الفضيلة... ولا العبد الفقير عاجزٌ عن تعرية الاحتلال...
إذاً هي مسألة عجز الفرد من عدمه..! فالأب في المحصلة فرد.. وكذلك الطبيب.. وكذلك التاجر.. والأم.. والمرأة .. والقاضي.. والشيخ.. والخطيب.. و
من هذه المعادلة يولد المقاوم... من بين أمِّ البديهيات ومسؤولية المظلوم في التخلص من الظلم والفشل والفقر والجهل. من هذه المعادلة تولد المقاومة وثقافة المقاومة ونفسية المقاومة.. وتتجلى عراقة منبتها، وامتداد جذورها في الزمن، وعمق أصولها في النفس الإنسانية.. الباحثة عن حريّتها..
ماذا يريد الدكتاتور!؟
المقاوم عاطلٌ عن العمل؟!

كيف يُعقل طلب فعل الخير من المقاوم، وفي الوقت ذاته يعاني من فعل الخير.
بعد مرور أكثر من عام، غيّرت هذه الحرب العدوانية ونتائجها مفاهيماً تجذرت عبر سنوات الصراع الطويلة. فلا بد من الإشارة أنها الحرب الأولى التي يخوضها الفلسطينيون على أرض الصراع، على أرضهم التي أُحتل جزءٌ منها عام 1948 وأكمل احتلالها عام 1967. فقد سعت إسرائيل دائما،ً لاخراج المعركة خارج فلسطين، لتحقيق وتكريس وضعية استراتيجية متفوقة من الناحية الأمنية والعسكرية والنفسية والسياسية. فإلى ما قبل الحرب المذكورة ما زال المقاوم الفلسطيني يتحرك ضمن موازنات سياسيّة أقليميّة تحددها الدولة المستضيفة للمقاومة وحركات التحرر، فوجد نفسه يتفاعل مع المعطيات السياسيّة والأمنيّة التي تفرضها الدولة. ففي الأردن حدث التصادم بين المقاومة والدولة إلى أن وصل ذروته في أحداث أيلول الأسود عام 1970. وفي لبنان أُخرِجت المقاومةُ من المعادلة السياسيّة والأمنيّة أثناء وبعد الحرب الإسرائيليّة على لبنان والحرب الأهلية اللبنانية. وفي سوريا حُنِّطت المقاومة ضمن النظام الذي جمّد الجبهة مع إسرائيل منذ حرب 1973، ولم يطلق الرصاص إنّما التصريحات.
وتحت الاحتلال الإسرائيليّ لم يتح المجال واقعيّاً لبناء مقاومة مُنظمة. إلا عمليات عسكرية متفرقة، تنطلق من قرى ومدن فلسطينية تفتقر للاستراتيجية المُنظِمة، وهذا ما هيمن على الساحة الفلسطينية خلال وبعد الانتفاضة الثانية. ولكن تطور الأحداث الفلسطينية منذ انتخابات عام 2006 مروراً بالحسم العسكري لحركة حماس في قطاع غزة وسيطرتها الأمنيّة والسياسيّة على القطاع غيّر المعادلة الاستراتيجيّة بين المقاومة والاحتلال.
ورغم الألم جراء الاقتتال العسكري والاعلامي والسياسي الفلسطيني... فلا بد للتاريخ أن يأخذ مجراه، ولا بد للمقاومة أن تخط طريقها وسط التناقضات الداخليّة التي تحدثها ثقافة اللامقاومة والدكتاتورية والاحتلال، ويطلب من المقاومة الرضوخ لها وتأطير نفسها وفقها لتدخل نادي "الشرعية الدولية"!.
فكيف يعقل طلب فعل الخير من المقاوم! وفي ذات الوقت يعاني جراء فعله له!؟ فمن المنطق الفطري أنّ الانسان يعمل الخير لأنّه يتلذذ بتبعاته، أو لأنّه لذة ومتعةٌ في أصله وجوهره، وحين نريد تربية الطفل على فعل الخير، نرغبه فيه عن طريق محفزات الترغيب، مثل كلمة طيبة، أو مديح، أو هدية.. وإن أردنا أنْ نُكرِّهه في الشر فعن طريق الترهيب وعواقبه من زجر، وعقاب، وحبس تربوي. ولكنّ المقاوم يطلب منه شعبياً الثبات والمقاومة والصمود، وسلطوياً يعاقب بكل أساليب العقاب النفسيّ والإعلاميّ والسياسيّ والغذائيّ والاقتصاديّ والعسكريّ.
إذا المقاوم في وضعية لا تسمح له في الترفه والتفرغ لفعل المقاومة. بل هو مقاوم ويسعى لكسب رزق يومه وعائلته، فلا بد له من العمل.. لأنّه منتج في طبعه، ولا يميل إلى "مخصصات التأمين" والهبات الحكومية أو الدولية في إدارة شؤون حياته، فهو حرٌ في طبعه ومزاجه، ولا يرضى لنفسه فكراً وسلوكاً بتكريس الاحتلال ولا القابلية للاحتلال. والذي يتتبع نظام "مبارك" يدرك الفجوة السحيقة بين مقام المقاوم ومقام الدكتاتور.. فالأول يسعى لتحقيق ذاته، ويشعر أنّ هناك خلل في المعادلة بين واقعه وبين تطلعاته نحو حريّةٍ عميقةٍ، وانسجام تام مع إنسانيّته. أمّا الأخير، فقد رهن نفسه وشعبه للأمريكي، مقابل حفناتٍ بخيسةٍ من الدولارات، لا هي قدّمت شعبه اقتصاديّاً أو ثقافيّاً أو سياسياًّ، ولا هي عوضت المجهود الحربي-الذي اتخذه الدكتاتور مبررٍ له للخروج من معادلة الصراع التاريخية، مُكرسٍ بذلك لنفسية الهزيمة وثقافة التبعية السياسية والاقتصادية.
فلسطين: القضية التي تصنع العدالة في العالم

كما أنا الفرد يشعر غالباً بأنه محور العالم.. وأن العالم يدور من حوله وهو في المركز. فيمكن كذلك لشعب أو أمّة أن تشعر بل تعتقد بأنها مركز الكون. وهذا الشعور يمكن أن يفهم بطرق عدة منها: أنّ الفرد يشعر بعلو شأنه مقارنة بالآخرين، وتهيمن عليه عنصرية فوقية، كما شعر وآمن بها الفاشستي والنازي الألماني في أعماقه. أو أنّه يسعى ويدرك أنّه قادرٌ على وضع نفسه في قلب العالم، ورفع مكانته، ونزع دورٍ محوريٍّ في صنع الأحداث وصياغة واقعه والنظام والعالمي. ولا يمكن للثاني النجاح دون تذويت عدالة قضيته!.
والكراهيّة والعنصريّة، لا شك، تتنافى مع العدل والعدالة لقضيةٍ ما، وليس عبثاً أن تعتمد العنصريّةُ القوةََ في فرض سيادتها السياسيّة، وليس العدل كمنهج في تحقيق أهدافها وغاياتها. بناءً على كل هذا، غالباً ما يجتمع كل من المقاومة والعدالة في طرفٍ والقوة والعنصرية في طرفٍ مقابل. وهذا التشابك بين المفاهيم والتعقيد في الواقع، لا يظهر جليّاً، إلا في قضيّة عالميّة، ترتبط فيها معادلات دوليّة وأقليميّة ومحليّة، وهي قضيّة محوريّة ومصيريّة في النظام العالميّ. وإلا لِما لم تُحلّ حتى الآن رغم أسبقيتها مقارنة بقضايا آخرى؟! لماذا حُلّت أو صُفيّت باقي القضايا التي أثرت في النظام العالمي، وما زالت قضية فلسطين هي هي؟! الألزاس واللورين بين فرنسا وألمانيا، فيتنام، جدار برلين.. وغيرها كثير. فإذاً طبيعة القضيّة ارتبطت جوهريّاً بطبيعة النظام العالمي المُهيمن.. ولن تحل القضيّة إلا إذا تبدل هذا النظام، وطبيعته التي خلقت القضية الفلسطينيّة وكرستها بدون حل! فالنظام الذي أنتج القضية عاجزُ عن تفكيكها، بل لا يملك الإرادة لحلها، حتى وفق معايير العدالة الطبيعيّة والإنسانية.
ولأن النظام العالمي اجتمعت فيه محاور وقوى ثلاث: دكتاتوريّة، احتلالية ودوليّة. متمثلة بأنظمة عربية تريد للقضية الفلسطينيّة التصفية بأيّ شكلٍ من الأشكال، لأنّها قضيّة تأرق عروشهم، والإحتلال الذي أُنْتِجَ في ظل النظام العالمي ويستمد أنفاسه وشرعيته من أزدواجيّة معاييره الأخلاقيّة والسياسيّة، والدول العظمى التي أنتجت منظومة مصالحها حول القضيّة الفلسطينيّة ومحاور أقليميّة تلعب دوراً خطيراً في تكريس أو استغلال القضيّة. فإذاً هي قضية عالمية بكل المعايير، ومصيرها مرتبطُ بالمنظومة الدولية من القيم والأخلاق والمبادئ والمواقف والبرامج السياسية والاقتصادية والاستراتيجية والثقافية. لذلك المقاومة هي من مستوى القضيّة، ولن تفلح مقاومة إلا إذا ارتقت إلى مستوى القضيّة ذاتها.
وفي تعليقه على تقرير غولدستون، يقول مقرر الأمم المتحدة الخاص لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة ريتشارد فولك: " وفي الوقت الذي توجد فيه مقاربة تقول إن القوة هي التي ترسم مسار التاريخ, هناك مقاربة أخرى تقول إن مسار التاريخ يعتمد على المقاومة التحتية والقوى الشعبية المدفوعة بشعور العدل, وبكلمات أخرى، فإن البديل للحرب ليس السلام وإنما العدل." "وإني على قناعة تامة بأنه لن يكون بالإمكان معرفة قيمة وأهمية ما قدمه تقرير غولدستون من خدمات ومساهمات ما لم يتم التعرف على الجوانب والأوجه العديدة لهذا التقرير الذي شق عصا الطاعة ضد حصانة القوي، وآمل أن يتم الاعتراف بقيمة هذا التقرير ويلقى التقدير الذي يستحقه عبر الحوار وعبر مساهمته في دعم نضال الضعفاء والفلسطينيين بشكل خاص، ومن أجل تعزيز الثقة نظريا وعمليا في مفهوم عدم اللجوء إلى العنف."(الجزيرة نت)
فالفرق الجوهري بين القوة والمقاومة، وبين العنصرية والعدالة... هو الفرق بين العبودية والحرية وبين التخلف والتقدم وبين الدكتاتورية والديمقراطية...
أسامة عباس
24 \ 3 \ 2010

هناك 4 تعليقات:

غير معرف يقول...

المقال تلائم مع نفسي كونه يطرح أفكاراً وأموراً أتسائل فيها ليل نهار
والملفت أنك تعبر عن الأشياء وتصفها بلغة قوية
ولكن لدي ملاحظة: يا حبذا لو تعرف

أسامة عباس يقول...

السلام عليكم

الحقيقة أريد أن أفهم.. هل تعليقك كامل أم ناقص.. فما معنى الملاحظة لم أفهم! "يا حبذا لو تعرف"!!!!

غير معرف يقول...

ألم تسمع عن السؤال الذي يقول: أكتب نهاية للقصة, أو أكمل الجملة التالية من عندك! وهنا ذات الشيء.........

أسامة عباس يقول...

أمّا بعد..

فطالما ابتعدت أو حاولت الإبتعاد عن الخرافات والشعوذات التي لا تتسق مع الوحي والعلم..! وأرى طريقتك الغيبية في هذا السياق لا تخرج عن كونها "مسليات شعوذية" ليس لدي الوقت للالتفات إليها! ممكن أن اتعامل مع عقلية نقدية أو تقليدية ولكن شعوذية .. هذا آخر ما أطيق. فنصيحتي أفصح وأوجز (ي) حتى نستفيد منك أو تستفيد منا! رحمك الله