الثلاثاء، 9 مارس 2010

في ذكرى يوم المرأة العالمي
حيث تتناغم المرأة والصهيونية في قضية واحدة

كان نهار اختلطت فيه التعاسة الفكرية، والنشاط المهني والعملي. فلا أنا قادر على تصنيفه باليوم التعيس ولا باليوم السعيد، رغم إيمانٍ عميقٍ، أنّ الحياة ليست سلسلة متواصلة من المصادافت العشوائية، ولا ذرات متنافرة من الأحداث، ولا طريق يتخبطها اللامعنى. إنّما الحياة –في نظري- منظومة مُدبَرةٌ مُحكَمةٌ من القيم والأحداث، متشابكة متناغمة.. تلتقي فيها معانٍ غزيرة، وغايات عميقة، لا تتجلى إلا لإنسان أدرك غاية وجوده ومصيره، وانسجمت انسانيّته المتعثرة، مع وحي السماء المطلق المتعالي.

هي مجموعة أحداث ومواقف وأحوال يومية، يبدو عدم تناسقها بل نفورها للوهلة الأوى، فيحتار المرؤ في تصنيفها وترتيبها في سجله اليومي الحافل، بين ركام المهملات أم في سلة الإنجازات. بدأت أولاها، حين دخلتُ حرم الجامعة العبرية، وإذ بالزهور والورود الجميلة، تتناثر بين أيدي طلاب وطالبات كثر، لا فرق فيها بين يهوديٍّ وعربيٍّ، دينيٍّ وعلمانيٍّ، وطنيٍّ وأمميٍّ، فلسطينيٍّ وصهيونيٍّ، ذكرٍ وأنثى. جميعهم تناغمت مَشياتهم ونفسيّاتهم مع زهور، فاقعٌ لونها، تسُر حاملُها وناظرُها، بين صفراء وحمراء، وبين خضراء وزرقاء.. كلها تمثل هذا الطّيف السياسيِّ، ممتداً من أبناء البلد "يساراً فلسطينيّاًً" مروراً بالجبهة الديمقراطية يساراً إسرائيليّاً، حتى أقصى خارطة صهيون يميناً. كلهم جميعاً، حملوا بدون تنسيقٍ، زهورَ التضامن مع المرأة المضطهدة، المنكوبة، المسجونة، المكبلة في قيود الرجعية الرجولية. وطبعاً قُصِدَ الرجلُ المسلم الرجعيّ، وبالأخص ذلك الإسلاميّ الذي يُشرعِن للمرأة قيودَها وقبورَها.
طبعاً حُمِّلت أنا شخصياً مسؤولية اضطهاد المرأة، بما أمثل من قيّم ومواقف. ودار نقاش، بل سجالٌ عنيفٌ، أثرت فيه أمامهم، وبلونٍ من الهجومية اللطيفة، أنغماسَهم المستلب في مفهوم المساواة، وتغنيهم في رومانسية شعرية خَمريةٍ في المرأة. وطرحت مفهوماً آخر لمعالجة قضية المرأة في سياقها العربي الإسلامي.. وهو مفهوم "العدل" بما يحمله من معانٍ أعمق وأدق وأنجع من مفهوم مستورد غربياً، لا يتجاوز استعماله حساباتهم السياسيّة الضيقة، ورقصاتهم الاستعراضية على جرح حساس في جسد المجتمع العربي المسلم، لا يريدون إلا المتاجرة بآلامه وآماله، وإثارة غرائز رخيصة تتغذى على فتاتها طروحاتهم الفكرية والسياسية. ومن جهته تغنى بالاشتراكية - كأبنٍ لهذا البلد- كمخرجٍ لحَجْرِ المرأة، وجعلها "رأس مال" الرجل المسلم، سلعةً لا أكثر ولا أقل، تباع وتشترى وفق قوة الانتاج السوق. ولا أعلم ما علاقة الاشتراكية بقضية المرأة، لولا أنّ "للرجل" أجندة آخرى ما وراء- نَسوية. وكأني به يجعل من المرأة "سلعة اشتراكية" تنتج في مصانع مجتمع المساواة، ثم يتم توزيعها بين خِلّانِها وأصدقائها، دون رابطٍ شرعي "متخلفٍ"، ولكنّ تعدد الخلان سراً وعلناً بات من مقدساتهم واللا مفكر فيه عنده. وإن لم يقصد ذلك حرفاً، فكيف نُؤَول حقيقة شرعنة الزنى في فكرهم، ودعوة السفور، وتماهيهم في نموذج المرأة الغربية، وإيمانهم اللاواعي والواعي بحقيقة تفوق المرأة الغربية من حيث هي امرأة، وليس من حيث انجازاتها ودورها الايجابي في مجتمعها وثقافتها.
وعجباً كان الجبهاوي\ة وابن\ة البلد، يداً بيد، ينشروا الزهور في "الفوروم".. بشرى بتحرير المرأة ودفاعاً عنها. وعجباً من أبناء البلد، أنّ قضية المرأة هي التي دفعتهم للتحرك طلابيّاً بنشاطٍ في الجامعة منذ بداية العام الدراسي. فنعم المُحرِك هي!، ونعم القضية الشريفة هي! وبئس المدافع هو!.
والعجب كل العجب.. أن يجتمع حول قضية المرأة، والدفاع عنها، والتضامن معها، من أقصى اليسار الفلسطينيّ حتى أقصى(أو وسط، إنِ امتنعت عن المبالغة) اليمين الاسرائيلي. وبعد أنِ اتخذتُ مكاناً لي قصيّاً في "الحرم"، متحدثاً مع طالب عربيّ تربطنا به علاقة التلاقي السياسي وأكثر من ذلك، متأملاً مشهد الزهور والوجوه، قلت له بنبرة جديّة لا تخلوا من سخرية: " والله عجباً من قضية تلتقي فيها المرأة والصهيونية في صعيدٍ واحد"، فأخذ الشاب يسيطر عليه ضحك عميق، وكأنّه يوافقني الرأي، قائلاً لي: "هههه,, والله عندك مصطلحات وتركيبات غريبة"، ولعله فهم مرادي، ولكنّي أصررت أن أشرح له فكرة مقولتي: لو أنّ رفاق البلد وجبهتها التقدمية، وزعوا زهور التضامن مع أطفال غزة، هل ستشهد الساحة هذا الاقبال، منقطع النظير، من شتى ألوان الطّيف السياسيّ والوطنيّ والثقافيّ والإنسانيّ والصهيونيّ؟!. أمّ أنّها المرأة، هذا المخلوق العجيب، وحده القادر على جمع التناقضات، وتوحيد البشر من كنعان إلى صهيون. ولو أنّي أوافقه نظرياً بالعلاقة المتينة بين تحرير المرأة وتحرير الأرض، حيث أنّي مقتنع بذات المنهجيّة المعرفية والعقدية التي ستحرر الإثنين معاً، وهي بديهياً ليست "اشتراكية المرأة".
بعد اختلاط الضحك بالجد بيني وبينه. بدأت أقصُّ عليه الحدث التالي، من هذا اليوم التعيس: دخلت على بناية إدارة الجامعة قاصداً أمراً، وإذ بي أدخل على موظفة جالسة، تقرأ في كتيبٍ، لا يدرك الناظر ماهيّتَه ولا موضوعاته ولا أهميّته، فقلت لها بالعبرية اللطيفة، استعملها عادة لموظفات بلغن سن الهرم، بالاضافة لكونهنّ يعملن في مؤسسة "محترمة": שלום לך גברתי, אפשר שאלה קטנה?.. وإذ بها تشير لي بقبضة يدها وأصابعها مضمومة، تضرب بها هواء الغرفة صعوداً ونزولاً، تحاول اسكاتي بأحرفٍ هوائية مخرجها: שששש. وقفت مشدوهاً، قلت لنفسي: "يا ولد صلي على النبي وكف شرك".. بعد بضع عشرات من ثوان طويلة ألححت عليها: שאלה גברתי?!. فكررت هوائيتّها المزعجة وحركتها المتوترة بأكثر حدة: שששששש. في لحظتها كُظِمَ غيظي، وبدأت أعد الثواني دقائق، منتظراً، ولكن دون جدوى، وهي تقلب صفحات الكتيب تتراً، وتقلب أنفاسي معها بين شهيقٍ وزفيرٍ، حتى نطقتُ مستغرباً معترضاً على أسلوبها وقلة مهنيّتها: מה?! כול כך זה חשוב?!! فكررت غضبها الهوائي وحركتها الجنونية: שששששששש. ومضت ثوان آخرى طويلة، قررت فيها بالذات الاستمتاع للحال، فعادةً ما أستغل أحداثاً ومواقفاً غريبةً، في جلب المتعة النفسية والفكرية، محاولاً صناعة الحدث، لأجل ذاتي على الأقل. ولكنّها قطعت متعتي، بتصعيدٍ لحالتها الهستيرية قائلةً لي عند انتهائها الفجائي: מה?! אף פעם לא ראית אדם עושה ברכת מזון?! فوقفت مشدوهاً، من جانب أتفهم الأمر دينياً، ولكن الأمر يزعجني حين أذكر كونها موظفة في مؤسسة مُلزَمةٌ بالخدمات! تلزمني بعبوديتها المهترءة في وقت دوامها وعملها.. فرددت لها بنبرة فيها أسفٌ خفيٌّ ممزوجٌ بعتابٍ مُبطنٍ: כן גברתי, אני בחור ערבי, ולא שמתי לב שהחוברת שבידך אינה קשורה לתפקידך, אלא לדתך?!. فأجابتني بنبرةِ استعلائية المستعمِر: הגיע הזמן שתלמד משהו!. حينها تحررت الأعصاب وتعالت هرمونات المستَعمَر: גברתי! את חוצפנית, והתנהגותך מחפירה עוד יותר! ואת קשישה מטומטמת!. وحين سَمِعَتْ نبرةَ المستعمَر، نبرةً طالما زرعت في نفوسهم الخوف والارتباك، توجهتْ للهاتف بقصد أمن الجامعة تبث سمّها وكراهيّتها الدفينة: יש בו ערבי, ואני רוצה שתסלקו אותו מפה!.. حينها قررت بتحدي المناضل في أرضه، أن أصمد على أرضي في المكتب رافضاً الاقتلاع.. وقد كرَرَتْ ذات العبارة مرات بعد محاولات متكررة لمكالمة الأمن واستحضارهم.
وصل الأمن! وصل ضابط الأمن، طلب مني التعريف بهويتي وبدأت بسرد القصة له في تفاصيلها المزعجة.. بدا وكأنّه يؤمن لحديثي وهو يخرج من القلب، وتأكد ذلك عنده، حين رأها تغلق باب المكتب بقوة رافضة حتى الحديث للضابط ورواية روايتها الذاتية، مثبتة له انحراف سلوكها كموظفة وكامرأة وإنسانة، وكأنّها تعتبر نفسها فوق القانون وفوق أخلاقيات العمل على الأقل، وبالقرب منها على بعد أمتار رجالٌ يدافعون عن قضية المرأة. اشتكيت لعميد الطلبة وطلبت اعتذاراً رسمياً منها أمامي، وصعدت لمكتب رئيس الجامعة في ذات البناية وقسم العلاقات الخارجية المسؤول عنها مباشرة، وقدمت شكوتي، وتفاجئت من المسؤولة هناك، أنّها تتفهم روايتي، وتوافقني الشعور، ووتتضامن مع قضيتي، وتؤكد على إنّ تلك المرأة هي هي، هذه طبيعتها، وهذا سلوكها، وهذا ديدنها... عندها تعالت في ذهني تساؤلات عميقة حول عمل المرأة.. ومفهوم المساواة التي يتشدق به أصحابنا في البلد وجبهته.. وتجلى معنى مفهوم العدل في قضية المرأة وحقوقها وتحقيقها لذاتها:
- طبعاً المرأة هذه لا تمثل النساء جميعهم، وعملية التعميم على فئة مجتمعية هو خطأ منهجي وفكري يناقض مفهوم العدل الفردي والجماعي.
- ولكن التطبيق العملي للمساواة جلب هذه المرأة لهذا المنصب والوظيفة. ومنع من استبدالها بأفضل منها رجلاً كان أو امرأة.
- التطبيق العملي لمفهوم المساواة كرؤية للمجتمع، يحيّد معايير آخرى أكثر أهمية وأسبقية ليس فقط في مجال عمل المرأة، من بينها: الكفاءة، المعرفة، الأخلاقية المهنية، المعاملة الإنسانية والمهنية، والمهارات الحياتية، ومهارات الإتصال.. إلخ. بينما التطبيق العملي لمفهوم العدل يكرس هذه المعايير ويضعها في إطار يتجاوز الجندر الاجتماعي والعرف المهترء.
- المساواة هي تشويه كينونة المرأة من حيث هي امرأة، وتغيير طبيعتها المتفردة بها والمستخلصة لها تميزاً.. بينما العدل يحفظ لها هذا ويتعامل معها كامرأة من حيث انجازاتها وامكانيات تحقيقها لذاتها المُميَزة.

ولكن لا شك أنّ نهاري التعيس تبدل سعيداً، حين خُتِمَ في اجتماع لإدارة حركة الرسالة الطلابية، في اجتماعٍ للأخوة والأخوات يختاروا فيه لحركتهم رئيساً أو رئيسةً ونائباً أو نائبةً.. يحاولوا بفطرتهم الإنسانية، ورؤيتهم الإسلامية، تحقيق العدل الاجتماعي والتنظيميّ والسياسيّ بين الأخوة والأخوات، فُيفتح المجال للأخت –لا تكرماً ومنةً ولكن خياراً وقناعةً- كما للأخ، للترشح لمنصب رئيس حركة الرسالة الطلابية.. الحركة الإسلامية الطلابية الدعوية الأولى تاريخياً، والسباقة في العمل الطلابي في الجامعات الإسرائيلية.

هنا تتميز المرأة ... تتناغم قضيتها مع حقيقتها... ليس مع الصهيونية.. ولا الاشتراكية الجوفاء.. ولا المزايدات الرخيصة في سوق المرأة المبتذلة...
هنا الحياة منظومة مُدبَرةٌ مُحكَمةٌ من القيم والأحداث، متشابكة متناغمة.. تلتقي فيها معانٍ غزيرة، وغايات عميقة، لا تتجلى إلا لإنسان أدرك غاية وجوده ومصيره، وانسجمت انسانيّته المتعثرة، مع وحي السماء المطلق المتعالي.
بقلم: أسامة عباس
القدس 9 \ 3 \ 2010

هناك 5 تعليقات:

هنادي يقول...

يا اخي كبّر الخط قليلاً .. عميت عيوننا ..

بانتظار "رئيسة" حركة الرسالة الطّلابية ..على أحر من الجمر

أسامة عباس يقول...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحقيقة غلبتني المدونة من هذه الناحية... تكبير وتصعير الخط.. اللون والترتيب.. وبعد الأسطر عن بعضها.. قريباً إما تضطرني لاستئجار مصمم خاص.. أو لبيعها بثمن بخس..

أتمنى الآن أنّه جيد ومقبول

على كل الهم المحتوى!!!

أسامة
مدير مدونة "وسط"
والنائب والمحرر والكاتب والمصمم والناشر والمراقب والناقد وقريباً صاحب الامتياز.

الرجاء التوجه للجهة والأقسام الملائمة في حال الاتصال بالمدونة.. لتسهيل تقديم الخدمات!

العابرة بابتسامة :) يقول...

السلام عليكم

* بالنسبة للخطوط والألوان، هناك بعض ما أفادني حين واجهت مثل هذه المشاكل:

- افحص إذا كان المحرّر القديم هو المختار عندك: الإعدادات > أساسي > (في الأسفل) تحرير محرّر المشاركات > محرّر قديم.

- إذا كنت تكتب الموضوع في الوورد أو في أي مكان آخر قبل لصقه في المدوّنة، لا تلصق عند " تأليف" بل في " تحرير HTML " ، ثمّ انتقل إلى وضع " تأليف" وهناك نسّق الألوان والخطوط كما تشاء.

أتمنى أن يفيدك هذا :)

وفقك الله لكل خير..

Mouad Khateb يقول...

أخي أسامة، السلام عليك.

أرى أنك من النوع الذي يملك أعصابا تمكنه من الخوض في نقاشات معلومةٌ نتيجتها مسبقا، مع الجبهة وأبناء البلد في قضايا مثل قضية المرأة.
سؤالي، هل أثمرت هذه النقاشات، ولمست أن مناقشك يناقش، لا يجادل؟

غير معرف يقول...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...

كثيراً ما تستوقفني حلقات النقاش التي تدور حول " تحرر المراة " الموضوع الذي بسببه اصبحوا يحتفلون بيوم المراة العالمي خصوصاً في عقول المتحدثين بطباع الغرب وهم مسلمين في الأصل ...حيث تجدهم متفاخرين منفوخي الصدور مدعين ان التحرر جاء من هناك حيث بلاد الديمقراطيات .. المحلوله برائحة شهداء العراق وافغانستان ..... والتاريخ الأسود الطويل لتلك الدول .. ومع الأسف تجدهم ينسون ان الأصل ليس سوى للأسلام في تحرر المراة ونشلها من العبوديه والفسق والتجارة بها ,اضف الى ذلك وئدها في المرتبة الأولى ... نحن شعب طيب منتصر باذن الله لكن بعد ان نستيقظ من هذه الغيبوبه الأجنبيه التي نعيشها .. غيبوبة التطور الفكري الكاذب ... ونحن اصلاً دين التطور والفكر الصحيح الذي به وفقط به نرتقي بمجتمعنا ...

بارك الله فيك وسدد خطاك , وجعلك نصراً للأمة كلها ...

* الوطن الثالث *