تركيا والأمّة
المسلمات والتوقعات والتحديات
لم يكن الإسلاميون بالذات بحاجة حتى عقدٍ مضى لاقناع أنفسهم بانتماء الترك العميق والأصيل للإسلام عقيدة وحضارة، فهذه إحدى المسلمات الفطرية الفائقة –بعبارة ابن رشد- والقناعات العقدية والفكرية والسياسية المتأصلة في منهجهم الحركي. ولكنّ هذه المسلمات والقناعات وضعت تحت المجهر في عهد حزب العدالة والتنمية ، وقُدِر لها أن تُمحصَ تحت وطأة التحديات السياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة التي تعصف بتركيا وبالعالم العربي والإسلامي اليوم وغداً. ومع ذلك يُشهد لحزب العدالة والتنمية، استفراده النوعي بالتجربة السياسيّة التي اختارها لنفسه وفق السياق الداخلي التركي. ومعروف بديهياً أنّ بعظم المسلمات - فطرية كانت أم موضوعية- يرتفع سقف التوقعات من الدور التركي وقادته، وخطورة الأمر تكمن في مستوى التحديات التي تضعها القيادة التركية في برنامجها السياسيّ والاستراتيجي أو تلك التي تفرضها قوى خارجيّة – كإسرائيل - لا تريد للدور التركي أن يبلغ مداه الأقليمي والدولي، وخاصة أنّه لا بد لهذا الدور أن ينحاز لقضايا المنطقة الأصيلة.
وغالباً مع تُبنى سياسة "مواجهة التحديات" وفق التوقعات الذاتية لدى القيادة السياسية لدولة أو لأمة ما. ومن المؤكد تاريخيّاً أنّ دولةً أو أمّةً عظيمةً لا بد لها من مواجهة تحدياتها، وادراك دورها الحقيقيّ في جغرافيّتها السياسية والإقتصادية والثقافية. وهنا يكمن الفارق الجوهري بين تركيا أردوغان وتركيا أتاتورك، بين تركيا لا تخرج من عباءة الأطلسي – حلف الناتو- بل واخنزلت ذاتها الحضارية والسياسية في مشروعٍ صهيونيٍّ، يقف قزماً أمام تاريخ تركيا الأصيل، وبين تركيا تعود لحيزها الجغرافيّ والتاريخيّ والسياسيّ لتبعث دوراً مُسلّماً به بين جيرانها، عرباً وفرساً وجميع الشعوب والدول العربية والإسلامية وعلى الصعيد الدولي.
إذاً حديثي هنا في المسلمات والتوقعات والتحديات التي ترسم لتركيا العدالة والتنمية المرحلة القادمة، وتعبر عن تحديات هذه الأمة ومسلماتها:
المسلمات الفطرية والموضوعية الفائقة:
- إن تركيا والترك جزءٌ لا يتجزء من الحيز الثقافي والجغرافيّ والسياسيّ والاقتصاديّ العربيّ والإسلاميّ.
- إن أيّ إرادة حرة لتركيا والترك ستعود بها إلى حيزها الأصيل، لأنّه هو خيارها الفطري والطبيعي والموضوعي.
- إنّ أيّ دور تاريخي وعظيم لتركيا والترك لا يتحقق إلا في سياقه العربي والإسلامي.
- إنّ حماية الدور التركي الأصيل وصونه داخلياً والدفاع عنه من التحديات والمخططات الخارجية لا يتم إلا في ظل توافق ودور عربي وإسلامي متكامل.
- إن الدور التركي هو تكاملي وضروري بجانب الأدوار السياسيّة والاقتصاديّة في الحيز العربي والإسلامي، وخاصة العربي والإيراني.
- إنّ الدور التركي كما باقي الأدوار لا بد منه للخروج من الواقع المأزوم للدول العربية والإسلامية.
- إنّ لهذا الدور مخاطر وتحديات داخلية لا تقل عن التحديات والمخططات الخارجية، كما الحال في أدوارٍ عربية وإسلامية محورية، كمصر وايران وباكستان.
لا يمكن لأحد الأدوار المحورية في العالم العربي والإسلامي، النهوض وحده من الأزمات الداخلية والخارجية التي تهدد استقراره وتقدمه نحو مستقبل أفضل، على جميع المستويات السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، ولا يمكن بمعزل عن التكامل العربي والاسلامي من الوقوف أمام التحديات والتهديدات الخارجية. إنّ تركيا أخذت بجميع الأسباب والسبل حتى تعيد لذاتها هويّتها ودورها المتوقع منها كدولة إسلاميّة محوريّة. ولكنّ دورها لا يمكن ادراكه إلا في سياق نهضة حضارة وأمّة. أمّة ما زالت منذ قرون، تحاول استعادة دورها الحضاري والإنساني.. وتعيد ترتيب عالمها السياسيّ والثقافيّ والإقتصاديّ على الخارطة الدوليّة. إذاً فالإشكالية ليست فقط في دور تركيا وإرادتها في استعادة سيادتها على سياساتها وخياراتها، بل هي استعادة هذه الأمّة حقها في التكامل والنهوض والسيادة وتحقيق الارادة الحرة سياسيّاً واقتصادياً وثقافيّاً.
إنّ تكامل الأدوار، وحده القادر على الحفاظ على الخيار التركي في العودة لحيزها الإسلاميّ والعربيّ. لا بد للدول المحوريّة في المنطقة وخاصة أيران ومصر وتركيا من الانخراط في استراتيجيّة متكاملة لتجاوز تناقضات المنطقة الداخلية وتحدياتها الخارجية. التناقضات الداخلية التي تتمثل في الصراعات الدمويّة، الطائفية والعرقية والمذهبية، التي تنهك طاقات وقدرات ومقدرات المنطقة، وتؤدي دوراً سلبياً في الصراع أو التدافع مع قوى الخارج، والتي تعمل على استثارة واستغلال هذه التناقضات متى خدمت سياساتها ومصالحها، وحين ترغب في تمزيق الوحدة الداخلية لتدخل لعبة الولاءات والاستقواء بالأجنبي. فالمسألة القبطية في مصر، والكردية في تركيا والعراق، والعرب في أيران، والشيعية في اليمن، والقائمة تطول على امتداد العالم العربي والاسلامي. وأمّا التحديات الخارجية فلن يهدأ لإسرائيل بالٌ، على أثر التباعد المتصاعد بينها وبين تركيا، بعد قيام الأخيرة باتخاذ قرارات وخيارات غير معهودة في الصراع مع المشروع الصهيوني وقضية فلسطين. فليس من المستبعد الانخراط المكثف في الصراع الكردي التركي بهدف انهاك واستنزاف الدور التركي الأقليمي.
التحديات الموضوعية:
- العمل على تكامل الأدوار الأقليمية في العالم العربي والإسلامي للحفاظ على مشاريع العودة إلى الذات وتعزيزها داخليّا وخارجياً.
- لا مفر من جذب مصر بما تمثله في محيطها العربي للانخراط من جديد بمحور العودة إلى الذات، كما فعلت الثورة الايرانية وحكومة العدالة والتنمية في تركيا.
- التكامل الاستراتيجي بين الأدوار المحورية الايرانية والتركية والعربية بهدف حل الصراعات الداخلية بطرق سلمية وسياسية لتوجيه الطاقات والقدرات في النهوض بالمنطقة سياسيّاً واقتصادياً وثقافيّاً.
- التكامل الاستراتيجي بهدف خلق كتلة سياسيّة وثقافية واقتصادية قادرة على مواجهة التكتلات الدولية والتعامل معها بالندية والشراكة والتعاون وليس الاستسلام والتبعية أو القطيعة والحصار.
- قطع الطريق أمام إسرائيل ودول غربيّة لتحريك الملفات الداخية لدول عربية وإسلامية بهدف الابتزاز أو الاضعاف والتفكيك.
في المحصلة، إنّ أيّ دور مهما بلغ من الأهميّة ومستوى الأداء كما هو واضح جليّ في الدور التركي، عاجزٌ وحده عن مواجهة التحديات والتهديدات الداخلية والخارجية، ولا نتوقع منه قيادة الأمّة نحو مستقبلٍ سياسيّ واقتصاديّ وثقافيّ دون التكامل والتعاون والشراكة الاستراتيجية بين الأدوار المحورية في المنطقة. وإنّ المسلمات الفطرية والموضوعية لأيّ دورٍ لا يضمن نجاحاته إلا إذا واجهت الأمّة تحدياتها كأمة واحدة.
بقلم:- أسامة عباس
القدس 23 \ 6 \ 2010